منزلة الصلاة في الإسلام
الكاتب : ياسر محمد المقداد
الجمعة 10 يناير 2014 م
عدد الزيارات : 3545

منزلة الصلاة في الإسلام

الخطبة الأولى

أما بعد :

عباد الله : ما أحوج الإنسانَ في خِضَمّ ما تفرزه الحضارة المادية من مشكلات نفسية، وتوترات عصبية، إلى ما ينفس عن مشاعره، ويخفف من لأوائه ومصائبه، ويبعث في نفسه الطمأنينة القلبية، والراحة النفسية، بعيدًا عن القلق والاكتئاب وهيهات أن يجد الإنسان ذلك إلا في ظل الإسلام وعباداته العظيمة، التي تمثل دواء روحيًا ناجعًا، لا نظير له في الأدوية المادية.

أيها الأخوة الكرام : تمرّ بالأمة المناسبات والمواسم، فتأخذ حقَّها من التذكير والاهتمام، غير أن حديث المناسبة وكلِّ مناسبة موسمٌ عظيم، ومنهل عذب كريم، يتكرر كلَّ يوم خمس مرات، وكثير من الناس في غفلة عن تحقيق آثاره، والتنويه بمكانته وأسراره، والعناية بحكمه وأحكامه، يقول صلى الله عليه وسلم : ((أرأيتم لو أن نهرًا غَمْرًا بباب أحدكم يغتسل منه كلَّ يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟!)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ((فذلك مثلُ الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا)) .

أيها الأحبة : إنه نتيجةً لارتماء كثير من الناس في أحضان الدنيا، وانشغال القلوب والهمم بها، ونسيان الدار الحقيقية، والغفلة عن العمل لها، في هذه الدوامة تناسى بعضهم مكانة هذه العبادة العظيمة، فلم يبالوا بها، ولم يكترثوا بإقامتها، وصدق فيهم قول الحق تبارك وتعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَـوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوٰتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا).

وصنفٌ آخر يؤدّيها ولكن مع الوقوع في الزلل، والاستمرار في الخلل، يصلُّون ولكن لا تُرى آثار الصلاة عليهم، لا يتأدبون بآدابها، ولا يلتزمون بأركانها وواجباتها، صلاتُهم صوريّة عاديّة، لإخلالهم بلبّها وروحها وخشوعها، يصلون جسدًا بلا روح، وبدنًا بلا قلب، وحركاتٍ بلا مشاعر وأحاسيس، صلاتُهم مرتعٌ للوساوس والهواجس، يأتي الشيطان أحدَهم وهو في صلاته، فيجعله يصول ويجول بفكره ، فيلتفت بقلبه وبصره إلى حيث يريد، فينفتل من صلاته ولم يعقل منها شيئًا، بل لعلَّ بعضَهم لا يعقل منها إلا قليلًا. ثم لا تسأل عن الأحوال، وسيِّئ الفعال، وقبيح الخصال بعد الصلاة : فحشٌ في القول، وإساءة في الفعل، وأكل للحرام، وتعسُّف في الأخلاق، واجتراح للسيئات، ولعل قائلا يقول : ألم يقل الله عز وجل(إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰعَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ)فأين نحن من هذه الآية؟! إن كنا  نؤدي الصلاة و لا أثر لها في حياتنا، ولا ثمرة لها في واقعنا وتغيير أحوالنا، وتحسُّن مناهجنا، وصلاح سائر جوانب حياتنا!!

إخوتي الكرام : إن الصلاة التي يريدها الإسلام هي التي تمثل المعراج الروحي للمؤمن، حيث تعرج به روحه كلما قام مصليًا في فريضة أو نافلة، لتنقله إلى عالم الطهر والنقاء، وفي ذلك مصدر السعادة والسرور، ومبعثُ الطمأنينة والحبور، وكان ذلك ديدنَ الأنبياء جميعًا عليهم صلوات الله وسلامه، وهكذا كان الحبيب المصطفى القدوة صلى الله عليه وسلم ، إذا حزَبه أمر فزع إلى الصلاة ويقول لمؤذنه : أرحنا بها يا بلال.

أيها الأحبة :  الصلاة غذاء القلوب، مناجاةٌ ودعاء، خضوع وثناء،توسل ورجاء، اعتصام والتجاء، تواضع لكبرياء الله، خضوع لعظمته، وانطراح بين يديه، وانكسار وافتقار إليه، تذللٌ وعبودية، تقرّب وخشوع لجناب الربوبية والألوهية، إنها ملجأ المسلم، وملاذ المؤمن، فيها يجد البلسم الشافي، والدواء الكافي، والغذاء الوافي، إنها خير عُدة وسلاح، وأعظم وسيلة للصلاح والفلاح والنجاح، تنشئ في النفوس وتذكي في الضمائر قوةً روحية, وإيمانًا راسخًا، ويقينًا عميقًا، ونورًا يبدد ظلمات الفتن، ويقاوم أعتى المغريات والمحن، وكم فيها من الأسرار والحكم، والمقاصد والغايات التي لا يعقلها كثير ممن يؤديها، فما أعظم الأجر وأوفر الحظ لمن أداها على الوجه الشرعي، وكما قال  صلى الله عليه وسلم : ((خمس صلوات افترضهن الله عز وجل، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن كان على الله عهدٌ أن يغفر له))

عباد الله :  إنّ للصلاة المقبولة شروطًا وأركانًا، وواجبات وآدابًا، لا بد من الوفاء بها، كما أن هناك مسائل مهمة وأخطاء شائعة في هذه الفريضة، يحتاج المصلون إلى معرفتها، وقد ورد في مسند أحمد وغيره: ((إن أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته)) وذلك بِعَدَم تمام ركوعها وسجودها وخشوعها، وكذلك في حديث آخر: ((إن المصلي لينصرف من صلاته وما كتب له إلا ربعها، أو خمسها...)) حتى بلغ عشرَها، وهذا يدعو المسلم المصلي إلى أن يتنبه لشأن صلاته، حتى لا يخسر الثواب، ويبوء بالعقاب، متعهدًا طهارتها وشروطها وأركانها وواجباتها، مجتهدًا في خشوع القلب وحضوره فيها .

أيها المصلون أيها الخاشعون: لقد مدح الله المؤمنين وأثنى عليهم ووصفهم بالخشوع له في أجلّ عباداتهم، ورتب على ذلك الفوز والفلاح، فقال جل وعلا: (قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ  *  ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـٰشِعُونَ) قال ابن رجب : "وأصل الخشوع لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح، لأنها تابعة له"، وقد رأى بعض السلف رجلًا يعبث بيده في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" وفي معنى الخشوع في الصلاة يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هو الخشوع في القلب، وأن تُلين كَنفَك للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك يمينًا ولا شمالًا) . وعن الحسن رحمه الله قال : كان الخشوع في قلوبهم، فغضّوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح" وحكي عن مسلم بن يسار أنه كان يصلي في مسجد البصرة، فسقط حائط المسجد ففزع أهل السوق لهزته فما التفت، ولما هُنِّئ بسلامته عجب وقال: ما شعرت به.

نعم - أيها الأحبة - كانت قلوبهم تستشعر رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله، فتسكن وتخشع، فيسري الخشوع منها إلى جميع الجوارح، ويغشى أرواحَهم جلالُ الله وعظمتُه، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل، فيتطهر وجدانهم من كل دنس، وينفضون عنهم كل شائبة، وعندئذ تتضاءل الماديات، وتتلاشى جميع الدنيويات، وحينئذ تكون الصلاة راحة قلبية، وطمأنينة نفسية، وقرةَ عين حقيقية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((وجعلت قرة عيني في الصلاة))

عباد الله :  لو استنطقنا حالَنا اليوم مع هذه الفريضة العظيمة لنطقت ؟! : أجسادٌ تهوي إلى الأرض وقلوبٌ غافلة . . فهل يا تُرى من عودة صادقة إلى ترسُّم خطى المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الفريضة العظيمة، وغيرها من فرائض الإسلام، لتعود للأمة قوتها وهيبتها بعد أن مُنيت بنكسة خطيرة، أفقدتها كثيرًا من مقوماتها التي تجعلها متماسكة قوية، ألا ما أحرى الأمة وهي تتجرع غصص الهزائم أن تتحرى الأسباب والدوافع لتقوم بالتغلب عليها، وإنها واجدةٌ في شعائر الإسلام، وأعظمها الصلاة ما يكون سببًا في صقل الأفراد، وتهذيب المجتمعات وصلاح الأحوال، والقضاء على أسباب الضعف والهزيمة، وخُوار الروح المعنوية في الأمة.

نحن الذين إذا دُعــــــوا لصلاتهـم والحربُ تسقي الأرض جاما أحمـرا

جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبّروا       في مسمــــع الـروح الأميــــن فكبَّرا

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم ....

 

الخطبة الثانية

أما بعد :

عباد الله : إن أمةً لا يحسن أفرادها الوقوف بين يدي الله في الصلاة لجديرة ألا تقف ثابتة في مواقف الخير والوحدة والنصر والقوة ، وإن أصلحنا ما بيننا وبين الله أصلح الله ما بيننا وبين الناس، وإن أمة لا يُعفِّر أبناؤها وجوهَهم في التراب ويمرغون جباههم في الأرض تعظيمًا لخالقهم وإعلانًا للعبودية التامة له، لَحريّةٌ أن لا تثبت أمام التحديات والمتغيرات .

أيها الأخوة الأفاضل : الصلاة اقترنت في كتاب الله بعبادة وشعيرة أخرى لسرٍّ وحكمة يعلمها الله، ألا وهي الصيام، والحديث مناسب عن الصيام هذه الأيام إذ نحن في شهر شعبان، فهو شهر كان يخصُّه النبي صلى الله عليه وسلم  بالصوم ما لا يكون في غيره من الشهور ، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان وفي رواية : كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان. وكان يقول صلى الله عليه وسلم : ((ذاك شهر يغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان)) .

أعانني الله وإياكم على فعل الخيرات وترك المنكرات إنه سميع قريب ..


http://shamkhotaba.org