أهميةُ خطابِ النبيين:
إنّ شخصياتِ الرسلِ ودورَهم في تجديد الفكر البشري، تمثّلُ مَعْلَماً رئيسياً من معالم تاريخِ التغييرِ في الفكر الإنساني، بما يمثّلُهُ الرسولُ من جامعٍ للصفات البشرية المثالية والواقعية، المبيِّنِ للمنهج الرباني العظيم في الدلالة على كلِّ خيرٍ في كلِّ زمنٍ، والتحذيرِ من كلِّ شرٍّ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وهذا ما بيَّنَهُ هود عليه السلام بقوله: {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 51-52].
ولقد فهمَ الصحابةُ وظيفةَ الأنبياء هذه فأفادوا منها كثيراً، فعن حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قال: "كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي".
ولما كان الرسلُ غالباً يُرسَلون إلى أقوامٍ قد انحرفوا عن النهج السوي وخالفوا الصراط المستقيم، واستحكمتْ عليهم أفكارُ الجهالة وآراءُ الاختلالِ ومذاهبُ الانحراف، كان مِنْ أهمِّ وظائفهم أنْ يقوِّموا الاعوجاجَ البشريَّ وفقَ المنهجِ الرباني الذي فطر الناس عليه، حسبَ خطابٍ يوجههم الله به، متفَّهمٍ أولاً ومنسجمٍ ثانياً مع طبيعة الأقوام الذين أُرسلوا إليهم، ومتلائمٍ مع الزمان والمكان.
لم يأتِ الرسلُ ليؤسسوا دولاً ولا ليقموا امبراطورياتٍ، ولمْ تكنِ الغايةُ من رسالاتهم شيءٌ من هذا، بل إنْ وُجِدَ كان محضَ وسيلةٍ لتحقيق غاياتِ الرسالة، إذ العلةُ التي بُعث الرسلُ لأجلها هي تصحيحُ المفاهيمِ الفكريةِ المختلةِ: (عقدياً سياسياً وثقافياً واجتماعياً وأخلاقياً) التي غزى الشيطانُ بها عقولَ البشرِ، وإبداعُ مفاهيمَ أخرى توفِّرُ انسجاماً بين المجتمع والرسالة، وكان ذلك يحدُثُ بناءً على قواعدَ حكيمةٍ ومفاهيمَ عظيمةٍ تصحِّحُ هذا الغلطَ البشريَّ.
إنَّ التأملَ في الخطاب النبوي عامةً يُكسِبُ النفسَ ذخيرةً كبيرةً على المستوى الدعوي والتعاملي مع الناس، إذْ هو منهجٌ متكاملٌ بديعٌ مقنِعٌ يُسهِمُ في الرقيِّ بالأمم نحو أعلى درجاتِ الحضارةِ الفكرية والقوة العلمية، منهجٌ يستحقُّ أن يُحتذى، بل يجب، بل لا يستطيع أحدٌ أنْ يتحرك في ساحاتِ الدعوة ورياضِ التغلُّبِ على الخللِ الفكريِّ إلا بالاطلاع والاستفادة من هذا الخطاب.
إنّ في خطاب النبوة إبرازاً للمثل العليا وتصويراً للقدوة الصالحة، وذلك من خلال ما تقدِّمُهُ من نماذجَ حيةً تُعلي من هممِ الأمةِ وتُسهِمُ في بناءِ أفكارهم وبالتالي ذواتِهم.
وسنلقي الضوءَ على قدرة خطبةِ الجمعةِ على علاج الاختلال الفكري في الأمة، وكيف يمكن أن يوظفَ الخطيبُ خطابَ الرسلِ الكرامِ لتحقيق هذه الغاية العظيمة.
الركائزُ الأساسيةُ في خطاب الأنبياء:
الانطلاقُ من غاية خلقِ الإنسان: لقد جاءت دعواتُ الرسلِ كلُّها لترشدَ الإنسانَ إلى السبب الكامن وراءَ خلقِهِ ووجودِهِ، وهو إعمارُ هذا الكون بطاعة الله عز وجل وحده دونما سواه، تحقيقاً لمبدأ الخلافة في هذه الأرض.
ولتحقيق ذلك فقد سخّر الكونَ بما فيه للبشر ومنحَهم العقلَ، وأطلقَ لهم حريةَ التفكيرِ ودعاهم إلى النظر والتأمل في خلق الله، التي ستصلُ بهم إلى اليقين بحقيقة العبودية لله والخضوع له وقبولِ أحكامِهِ ونبذِ ما سواه من الخرافات الفكريةِ والانحرافِ العقلي والانسلاخ عن بديهيات الوجود الإنساني، ثم أَطلقَ له العنانَ وأرخى له يدَ التخييرِ يسيرُ في الاتجاه الذي يشاءُ ويَقبلُ راضياً مختاراً، لتأتي العبوديةُ منه عن وعيٍ ورضى واختيار، وما هذا إلا تدليلاً على تكريم الآدمي ومكانته السامقة عند ربه جل جلاله.
لقد تمثّلَ هذا في الدعوة إلى التوحيد وإفرادِ الله بالعبودية، والتأكيدِ على أنّ اللهَ هو مصدر الرزق، والإرشادِ لكل خيرٍ وفضيلةٍ.
وفي كلِّ هذا تدليلٌ على كرامة الإنسان، وعِظَمِ قدرِ الهِبةِ التي يمتازُ بها عما سواه، وما هذا إلا ترسيخٌ للقواعد الفكرية السليمة القائمة على أسسِ حُسْنِ نظرٍ وجودةِ فكرٍ وانفكاكِ عقلٍ عن خدمة الهوى دون الحق، كما أنه ارتباطٌ وثيقٌ بالفكر المتحلل من كلِّ خللٍ والمتنزه عن كل تشويه.
الدعوةُ إلى مكارم الأخلاق: لقد جاءتِ الدعواتُ كلُّها لتصحيح الأخلاق الفاسدة المتحكِّمةِ بالمجتمع، حتى جُعل أحدُ الأهدافِ الأساسية مِن كلِّ رسالةٍ هو نشرُ مكارم الأخلاق، ولا يخفى ما لهذا من دورٍ في إصلاح الفساد المتفشي في البيئة في جميع الجوانب، فبذلك يتمُّ القضاءُ على الظلم والعدوان، ويُحرَّرُ العقلُ للتجول في ميدان الفكر غيرَ محكوم إلا بالفاضل من الأخلاق والحميد من المكارم.
إنَّ قيمَ الأخلاقِ وسموَّها، تأتي من العقل الذي هو أداة الفكر، فتظهرُ عملياً على الجوارح، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم إحدى ركائزِ رسالته يوم قال: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ).
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ".
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَخِيهِ: "ارْكَبْ إِلَى هَذَا الوَادِي فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ"، فَرَجَعَ فَقَالَ: "رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ".
حَتْميةُ العاقبةِ: لقد اتّسمَ الخطابُ النبويُّ بتقريرِ حتميةِ العاقبةِ للمؤمنين الصادقين، وهلاكِ الكفر بأشكاله وألوانه، يقول الله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [القصص: 36-37].
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173].
الدعوةُ إلى التغيير الحقيقي: إنَّ التغيرَ الحقيقيَّ في الواقع والأفكار والتصوراتِ الكونيةِ والحياتيةِ هو الذي يَنشُدُهُ الخطابُ النبوي، وهو يكمُنُ في الثورة على الأفكار التي تُشكِّلُ أساسَهُ الحركيَّ، إذْ إنَّ الإنسانَ يتميز على سائر الكائنات بالتفكير العقلي الذي يقوده نحو الاختيارِ الحرِّ عبرَ إرادةٍ مطلقة؛ والتغييرُ يكون لتوجيه الإنسان لكي يقف منتصراً أمامَ كلِّ مَن يتعاملُ معه بعيداً عن هذه الحقائق الفكرية الصحيحة، كما أنّ الإنسانَ يحيا بروحه ويشعرُ بذاته مِن خلالِ فكرِهِ وفهمِهِ العقليِّ للحياة، ولهذا فإنّ جوانبَ التغييرِ تبدأُ مِن روحه وعقله، وتنعكسُ تلقائياً على جوارحه وسلوكه.
يقول الله عز وجل: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247].
ففي هذا دعوة إلى تغير الأفكار والمفاهيم المغلوطة حول قضايا الحكم والسلطان، والأحقية فيها.
الخطايا هي أساسُ السقوطِ الحضاري: ركّزَ الأنبياءُ في دعواتهم على التأكيد بأنّ الخطايا والسيئات التي تنتج عن الخطأ في التفكير والاختلال في النظر سببٌ رئيسيٌّ لِأَنْ يحقَّ العذابُ عليها، وهذا واضحٌ في قوله عز وجل عن قوم نوح مثلاً: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25].
منهجُ الأنبياءِ في التصحيح الفكري:
لقد وُجهتْ جهودُ الرسلِ والأنبياءِ لبناء مجتمعٍ تحكُمُهُ الفضيلةُ ويسودُهُ الخيرُ، فوضعوا للبشر معالمَ إرشاديةً تدلُّهم على كلِّ هذا وتحذِّرُهم مما سواه، وقد عملَ رسولُ الله على تقويم المجتمع نحو الخير باستخدام جملةٍ من الوسائل التي تظهرُ بالاستقراء للقصص القرآني أو بالتأمل في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ يمكن للخطيب المصلح أن يستفيد منها، إذ لهذه الوسائل قدرٌ كبيرٌ في التسهيل على الخطيب ليصل بالمخاطبين إلى الإيمان بالقضايا التي يطرحها، وتركِ كلِّ خللٍ فكريٍّ يحذر منه، ومن هذه الوسائل:
استخدامُ أسلوبِ الإغراء: إنّ المتأملَ لقصص الرسل في القرآن يجِدُ أنّ أغلبهم اعتمدَ في تأكيد القضايا الفكرية التي بُعث لترسيخها أو تصحيحها على استخدام وسائل الاقناع، ومنها: الترغيبُ، لما له من دورٍ في التحفيز وتجديد النشاط على المتابعة بقصد معرفة النتائج التي يفضي إليها الكلام، ولا يخفى ما لهذا الأسلوب من دور على الرغبة في المتابعة.
وتأمل معي لبعض الصور على لسان نبي الله هود عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ * يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 50-52].
ولهذا فإنّ الاستفادة مِن هذا الأسلوب النبوي ضرورةٌ خطابيةٌ محتومةٌ على كلِّ راقٍ لخشبات المنبر، لأنه أسلوبٌ يحمِلُ في طياتِ بنائه تأثيراً في توجيه العباد نحو الانفكاك عن الفكر المنحرف أولاً، ثم محاربته والتخلص منه واستبداله بكل سليم ثانياً.
استخدامُ التصويرِ الفني: عبرَ تصويرِ وقائعِ الجنة والنار والمحشر، أو التمكينِ والغلبة للمتقين، كلُّ ذلك بأسلوب واضح جليٍّ مفهومٍ لجميع السامعين، ذلك أنّ عرضَ الثوابِ والعقاب يغرِسُ الإيمانَ بالعقيدة الصحيحة في نفوس السامعين، وتكون ثمرتُهُ عمليةَ سلوكيةً حقيقيةً صحيحةً، مدعومةً بأفكار متزنة؛ وخطابُ القرآن والنبوة في عصر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فائضٌ بهذا الأسلوب، لا سيما في العهد المكي؛ والشواهدُ أكثرُ مِن أن تحصى أو تحصر.
الموضوعية: فالأسلوب النبوي في الدعوة يقوم على عرض الأفكار عرضاً موضوعياً يحاكي واقعَ البشر، ويتأقلمُ مع ظروفهم، مما يهيئ نفوسَ السامعين لقبول التقليد، لأنّ ذلك أدعى للاستماع له، والأخذِ منه، يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 25-31].
فانظرْ كيف جاء الخطابُ النبويُّ مقرِّراً بشريةَ النبي صلى الله عليه وسلم، مؤكداً مبادئ المساواة بين كل البشر أمامَ دعوةِ الرسالة، مستنكراً على الكفار الفهمَ المخالفَ المؤسِّسَ لخللٍ فكريٍّ حول قضايا الفكر البشري حول المساواة والنبوة.
الاعتمادُ على الأسلوب الخطابي العاطفي: ذلك أنّ إثارةَ العواطفِ الإنسانية الكامنة بين جوارح الإنسان أو تحريكَ الانفعالات الوجدانية: (كالخوف والترقب والارتياح والرضا والحب والكره) التي تشكِلُ المقْوَدَ الذي يحرّكُ البشرَ تترك أثراً في تقبُّلِ السلوكِ الصالح أو الفكر النير المقبول.
ومن صور ذلك خطبةُ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأنصار بعد حنين يوم بلغه ما قالوه من عدم اشتمالِ القسمةِ عليهم، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ: (يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللهُ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟)، قَالُوا: بَلِ اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ. قَالَ: (ألَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ)، قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ. قَالَ: (أَمَا وَاللهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ؟ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ)، قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللهِ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَفَرَّقُوا.
تحفيزُ الفكرِ: عبرَ تربيةِ العقولِ على التفكير السليم وتوجيهِها للنظر في كل ما يحيطُ بها من أجل الوصول إلى حقائقَ فكريةٍ سليمةٍ، فجاء الأسلوبُ النبوي منطلقاً من الأمور المشهودة المحسوسة كمنطلق للوصول إلى المطلوب الغيبي.
يقول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].
فهذه الأمورُ العظامُ والقضايا الجسام لا يمكن أن تُخلق بدون خالقٍ، فهي دليلٌ على قيام الحجة لمن يدعيها، وإثباتٌ بأنّ الله وحده هو خالقها، وفي هذا الحوار تحفيزٌ لفكرِ المستمع للتأمل والوصول إلى النتيجة الفكرية السليمة وبالتالي التخلص من الانحراف.
توجيهُ النظرِ للاعتبار بمن سَبَقَ: لأنّ في ذلك عرض لحجج الأنبياء حول الأصول الفكرية وتأكيدها، ودحض للدعاوي الزائفة التي يستند إليها أصحاب الفكر المنحل، وتصحيحٌ للمنهج الذي يدير دفة الحياة البشرية.
يقول الباري عز وجل على لسان شعيب عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ * وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ * قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 89-92].
فشعيب عليه السلام في هذه الآيات يصِرُّ على إزالة عوالقِ الفكرِ المنحرفِ من أذهان قومِهِ خوفاً من الله عليهم، ورغبةً في نجاتهم ومبالغةً في نصحهم، ويضرِبُ لهم الأمثال من واقع الأمم السابقة: (أقوام نوح وهود وصالح ولوط)، بينما كان الكفار يتحرّزون من التعرض لشعيب خوفاً من قومه وتحرزاً من عصبته، فانظر إلى بُعد الشُّقةِ الفكرية بين الخطابين.
http://shamkhotaba.org