الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق 29 مارس 2024 م
أهمية اللغة العربية في أداء الخطباء
الجمعة 28 ربيع الآخر 1435 هـ الموافق 28 فبراير 2014 م
عدد الزيارات : 7455

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أهمية اللغة العربية في أداء الخطباء

 

مقدمة: الحمد لله الكبير المتعال ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وصحبه والآل ، وبعد فإن اللغة العربية تحتل الصدارة في سلم أولويات العلماء ، ولا سيما الخطباء ؛ لما لها من أثر بالغ في تكوين شخصية الخطيب ، وإيصال المعاني سليمة إلى أسماع الحاضرين ، وقلما نجد خطيبا ناجحا إلا وله من العربية نصيب ، دراسة وفهما وتطبيقا ، لذا ومن هذا المنطلق أجدني مضطرا أن ألقي بين أيديكم في هذه العجالة عصارة تجربتي مع الخطابة واللغة العربية ، على أمل أن تكون حجرا في بناء هذه المؤسسة العريقة التي تنشد الحق وتدعو إلى الفضيلة ، وتحاول أن تبرز الخطباء بأبهى حلة فأقول وبالله التوفيق: إن الأمة العربية هي الآن أمة تسمع ولا تقرأ!

فالسبيل إلى التمكين للعربية يكمن في تحقيق التوصية الآتية: اِسمَعْ وأَسمِعْ! اِسمعْ لغة سليمة تتعلَّمْ، وأسِمع لغة سليمة تُعلِّمْ.

 

معنى هذا أن على وسائل الإعلام المسموعة (الإذاعة والتلفزة) تقع مسؤولية كبيرة وهي إسماع المواطنين أكبر قدرٍ ممكن من الكلام الصحيح الفصيح. كما تقع على المعلمين والمدرسين مسؤولية كبيرة في التحدث إلى التلاميذ والطلاب بلغة سليمة، وفي وضع كتب مدرسية سليمة اللغة.

 

وما أعظم ما أوصى به الشاعر القروي رشيد سليم الخوري إذ قال: ( علّموا القرآنَ والحديثَ ونهجَ البلاغة في كل مدارسكم وجامعاتكم!))( من محاضرة للدكتور محمد مكي الحسني ) 11-1/12/2010

لذا علينا أن نهتم بجانب السماع حتى نوصل ما نريد بلغة سليمة إلى الأسماع.

 

يقوم هذا الموضوع على عدة أبحاث:

أولا : أهمية اللغة العربية في القرآن الكريم : قال الله تعالى : (( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون )) وقال تعالى : (( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين)) وقال : (( إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلقكم تعقلون )) قال العلامة الشنقيطي بعدما سرد هذه الآيات وغيرها : وهذه الآيات القرآنية تدل على شرف اللغة العربية وعظمها، دلالة لا ينكرها إلا مكابر.( أضواء البيان 6ــ 361)  وقال العلامة ابن عاشور في قوله تعالى : (( إنا أنزلناه قرآنا عربيا)) استئناف يفيد تعليل الإبانة من جهتي لفظه ومعناه، فإن كونه قرآنا يدل على إبانة المعاني، لأنه ما جعل مقروءا إلا لما في تراكيبه من المعاني المفيدة للقارئ. وكونه عربيا يفيد إبانة ألفاظه المعاني المقصودة للذين خوطبوا به ابتداء، وهم العرب، إذ لم يكونوا يتبينون شيئا من الأمم التي حولهم لأن كتبهم كانت باللغات غير العربية. والتأكيد ب"إن" متوجه إلى خبرها وهو فعل {أَنْزَلْنَاهُ} ردا على الذين أنكروا أن يكون منزلا من عند الله. 3ــ وضمير {أَنْزَلْنَاهُ} عائد إلى {الْكِتَابِ} في قوله: {الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [سورة يوسف:1]. و {قُرْآناً} حال من الهاء في {أَنْزَلْنَاهُ} ، أي كتابا يقرأ، أي منظما على أسلوب معد لأن يقرأ لا كأسلوب الرسائل والخطب أو الأشعار، بل هو أسلوب كتاب نافع نفعا مستمرا يقرأه الناس. و {عَرَبِيّاً} صفة ل {قُرْآناً}. فهو كتاب بالعربية ليس كالكتب السالفة فإنه لم يسبقه كتاب بلغة العرب. وقد أفصح عن التعليل المقصود جملة {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، أي رجاء حصول العلم لكم من لفظه ومعناه، لأنكم عرب فنزوله بلغتكم مشتملا على ما فيه نفعكم ، وعبر عن العلم بالعقل للإشارة إلى أن دلالة القرآن على هذا العلم قد بلغت في الوضوح حد أن ينزل من لم يحصل له العلم منها منزلة من لا عقل له، وأنهم ما داموا معرضين عنه فهم في عداد غير العقلاء. وحذف مفعول {تَعْقِلُونَ} للإشارة إلى أن إنزاله كذلك هو سبب لحصول تعقل لأشياء كثيرة من العلوم من إعجاز وغيره.( التحرير والتنوير 12ــ 6)

ولما كان العرب أهل لسن وخطابة وفصاحة فقد جاء القرآن بأفصح ما يمكن الوصول إليه من الكلام وتركيب الجمل ، فآمن من آمن وصد من كفر ، غير أنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أنه الحق لما علموا من بلاغته وفصاحته بل بلغ الحد بأحدهم أن خر ساجدا عندما سمع آيات الله تتلى.

 

ثانيا : أهمية اللغة العربية في الحديث النبوي الشريف:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أحبوا العربية لثلاث : لأني عربي ، والقرآن عربي ، ولسان أهل الجنة عربي)) ذكر هذا الحديث ابن الجوزي في الموضوعات وقال : قال العقيلي ـ لا أصل له ـ [اقتضاء الصراط المستقيم (1/391ـ393)] والمتتبع لسيرة النبي عليه الصلاة والسلام يجد أنه كان لا يتكلم إلا بالفصحى ، وعليه فالتكلم بالفصحى سنة نبوية يؤجر فاعلها. وفي الحديث : (( من أحيى سنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد )) ، أو كما قال عليه السلام [1].

ونحن نرى ما حل بالأمة من فساد لغوي فضلا عن الفساد الخلقي وغيره!! هذا وقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم كما في الحديث الصحيح (( أوتيت جوامع الكلم))[2] حكي أنّ رجلاً من دهاقين الروم أسلم فقيل له هل لإسلامك سبب؟ قال: نعم إني قد قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيراً من كتب الأنبياء فسمعت أسيراً يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما كتب في الكتب المتقدمة فعلمت أنه من عند الله فأسلمت. وقيل له ما هي؟ قال: قوله تعالى: {ومن يطع الله} في الفرائض {ورسوله} في السنن {ويخشى الله} فيما مضى من عمره {ويتقه} فيما بقي من عمره {فأولئك هم الفائزون} والفائز من نجا من النار وأدخل الجنة. فقال عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوتيت جوامع الكلم".  وسبب ورود هذا الحديث القصة التالية: وأخرج أبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم ونصر المقدسي في الحجة والضياء في المختارة عن خالد بن عرفطة قال : كنت جالسا عند عمر إذ أتاه رجل من عبد القيس فقال له عمر : أنت فلان العبدي ؟ قال نعم فضربه بقناة معه فقال الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين ؟ ! قال اجلس فجلس فقرأ عليه بسم الله الرحمن الرحيم آلر تلك آيات الكتاب المبين إلى قوله لمن الغافلين فقرأها عليه ثلاثا وضربه ثلاثا فقال له الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين ؟ ! فقال : أنت الذي نسخت كتاب دانيال قال : مرني بأمرك أتبعه قال : انطلق فامحه بالحميم والصوف ثم لا تقرأه ولا تقرئه أحدا من الناس فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكنك عقوبة ثم قال : اجلس فجلس بين يديه فقال : انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب ثم جئت به في أديم فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ما هذا في يدك يا عمر ؟ " فقلت يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علما إلى علمنا فغضب رسول الله حتى احمرت وجنتاه ثم نودي بالصلاة جامعة فقالت الأنصار : أغضبَ نبيكم ؟ هلم  السلاح  السلاح فجاؤوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : " يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه واختصر لي اختصارا ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون " قال عمر رضي الله عنه: ــ فقمت فقلت : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبك رسولا ثم نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم [3]( الدر المنثور 4 ــ 49)

 

ثالثا : العربية في حياة الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين: نزل القرآن بين ظهراني قريش وهم أفصح العرب وقتئذ ، ولا ريب أن نجد منهم من أسلم دون مراجعة لنفسه كأبي بكر وعلي وغيرهما لأنهما أدركا بحسهما المرهف وفصاحتهما العالية أنه ليس كلام بشر ، ومما يدل على ذلك ـ أي فصاحتهما : قول سيدنا أبي بكر الصديق في خطبة له : ((( أما بعد . أيها الناس : إني قَدْ وُلّيتُ عليكم ولستُ بخيركم ، فإن أحسنتُ فأعينوني وإن أسأتُ فقوِّموني ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيتُه فلا طاعة لي عليكم ) .تفسير آيات الأحكام ــ 1 ــ 417 فكانت من أقصر الخطب وأبلغها

. وهذا سيدنا علي رضي الله عنه يخطب بالناس يوم قتل عامله بالأنبار فيقول : يا أشباهَ الرجال ولا رجال! أحلام الأطفال وعقول رَبَّاتِ الحِجَال؛ أفسدتُم علي رأي بالعِصْيان والخِذْلان، حتى قالت قريش: ابن أبي طالب شُجاعٌ ولكن لا عِلْمَ له بالحرب. لله أبوهم! هل منهم أحدٌ أشدُّ لها مِرَاساً وأطولُ تَجْرِبةً منِّي! لقد نهضت فيها وما بلغتُ العشرين فها أنا الآن قد نيّفتُ على الستين، ولكن لا رأيَ لمن لا يُطاع. ( عيون الأخبار 1 ــ 223)

وأما سيدنا عمر فقد مر على جماعة يرمون بالنبل ويخطئون فقال لهم لم تخطئون ؟؟ فقالوا : لسنا متعلمون ، فقال : وتلحنون أيضا ؟؟ !! للحنكم أشد علي من خطئكم بالرمي.

 

رابعا : العربية في واقعنا المعاصر: يعاني شداة العربية في هذا الزمن من صعوبة التكلم بالفصحى ، وقلما تجد خطيبا أو مدرسا يتكلم بالفصحى خارج نطاق عمله ، وهذا سببه البعد عن منهج القدامى في القراءة ، وعدم تتبع آثار السابقين ممن مهدوا الطريق لعربية سلسلة يحبها كل من سمعها.

 

ويحضرني الآن مثالان من الواقع عن تحسين لغة المتخصص باللغة العربية عامة والخطيب خاصة وهما: أولا : ما قاله الدكتور الشاعر المعاصر عبد الرحمن العشماوي تحت عنوان الاغتسال اللغوي ثانيا : ما اقتبسه بعض الأدباء من سيرة العلامة الجزائري البشير الإبراهيمي، وما برنامجه اللغوي حتى أصبح يشار إليه بالبنان.

وأبدأ بما قاله العشماوي حفظه الله تعالى : يقول الدكتور / عبدالرحمن صالح العشماوي: "قال صاحبي: سمعت من عدد من الأشخاص أنَّ لديك وصفةً نادرةً لعلاج الضعف اللغوي، وأنَّ هذه الوصفة ذاتُ أثرٍ فعَّالٍ تجعل مَنْ يستخدمها قادراً على التعامل الجيد مع اللغة العربية نطقاً وكتابةً خلال ستة شهور أو أقل، وأنَّ عدداً من الناس قد حصل على هذه النتيجة المذهلة، وحرصاً على صحة هذه المعلومة أردتُ أن آخذالخبر اليقين من مصدره، فما آفةُ الأخبار إلا رواتها، فهل هذا الذي سمعته صحيح؟ مع أنني لا أستبعدُ المبالغةَ فيما سمعت. قلت له: أشكركَ - أولاً - على حرصك الجميل على التثبُّت من الخبر حتى لا تنضمَّ إلى رُواة وكالة (قالوا، ويقولون) الذين يتسابقون إلى نقل ما يسمعون وهم لا يعون، وأُقدِّرُ - ثانياً - صراحتك في إبداء ما في نفسك تجاه هذا الخبر وأنك لا تستبعد المبالغة فيه. أمَّا ما سمعت من نقل عني في هذا الموضوع فهو صحيح، وسأشرحه لك بشيء من التفصيل الذي يوضح لك الصورة - بإذن الله عز وجل - وإليك البيان: لعلنا جميعاً نتفق على وجود ضعفٍ لغويٍّ عامٍ عندنا نحن العرب في هذا العصر في معرفتنا بلغة القرآن الكريم نطقاً وكتابةً، وأنَّ هذا الضعف قد انتشر حتى أصبح هو الأصل، وأنَّه مرضٌ من الأمراض التي تحتاج إلى دواء، وأنَّه من أسباب تخلُّف الأمة، وتذبذبها وانهزامها نفسياً أمام الآخرين، ولعلنا نتفق كذلك أنه ما من مرض إلا وله دواء أوجده الله سبحانه وتعالى، وإنما يستفحل المرض حينما يستسلم له الناس ولا يبحثون عن الدواء الذي يزيله، ويريح الناس منه، ولعلنا نتفق أيضاً أن إيمان المريض بحالته واقتناعه بوجود دواءٍ لمرضه، وحرصه على بذل الأسباب لعلاج ذلك المرض من أهم أسباب العلاج الناجع، وما دام الأمر كذلك فإنَّ علاج (الضعف اللغوي) يتمثَّل في طريقة الاغتسال اللغوي التي سمعت عنها، وسألتني عن صحة ما سمعت، فدفعتني إلى كتابة هذه السطور لبيانها، وقد جرَّبت هذه الطريقة مع عددٍ من الإخوة والأخوات فكانت ناجحةً نجاحاً كبيراً، ولا بأس أن أقول: (نجاحاً فتَّاكاً) بلغة الإعلانات التجارية هذه الأيام، مع الفرق الشاسع بين النتائج الإيجابية لوصفتنا اللغوية، والنتائج السلبية لكثيرٍ مما تدعيه الإعلانات التجارية. وإليك الوصفة اللغوية الناجحة: اذهبْ - مشكوراً - إلى المكتبة واقتنِ واحداً من الكتب التالية: الكامل في اللغة والأدب للمبرد، أو أدب الكاتب لابن قتيبة، أو البيان والتبيين للجاحظ، أو الأمالي لأبي علي القالي، أو سحر البلاغة وسرُّ البراعة لأبي منصور الثعالبي؛ وإذا أردت أن تكرم نفسك أكثر فاقتنِ هذه الكتب كلَّها لتكون نواةً لمكتبتك اللغوية الأدبية، وخذْ واحداً من هذه الكتب وأنا أُفضِّلُ أن يكون (الكامل في اللغة والأدب للمبرد) لأن تجاربي مع بعض الإخوة والأخوات كانت مع هذا الكتاب وكانت ناجحةً جداً. ابدأْ بقراءة صفحاتٍ من هذا الكتاب - بحسب قدرتك - بصوتٍ مرتفع كأنك تقرأ على أشخاصٍ جالسينَ معك، مراعياً في قراءتك جميع الحركات الموجودة على الكلمات، وانطلق في هذه (القراءة التطبيقية) يومياً دون انقطاع، وإذا استطعت أن تقرأ أحياناً على شخص له دراية باللغة الفحصى فذلك أفضل، ولكنه ليس بشرط واجب التحقيق، وهنا ستجد النتيجة المذهلة بعد انتهائك من قراءة الكتاب، حيث ستشعر بأنَّ النطق السليم قد أصبح سجيَّةً لك، وأنك ستراعي حركات الإعراب على أصولها حتى وإنْ كنتَ لا تعرف سببها، وأنك ستشعر بثقتك بنفسك، وبنشوة النجاح، وباطمئنانك حينما تلقي أمام أحدٍ خطاباً، أو كلمةً، لأنك قد داويت لسانك من الضعف اللغوي الذي كان يُشْعِرُكَ بالرهبة والارتباك، وإذا أضفت إلى هذه القراءة التطبيقية، كتابة بعض ما تقرأ بيدك لتدريب قلمك على الكتابة الصحيحة فسوف تجد طريقاً سهلاً للتخلُّص من أخطائك الأسلوبية، والإملائية، وهنا يتحقق لك (الاغتسال اللغوي) من أَوضار ودنس الضعف اللغوي المنتشر في عالمنا العربي. ما فائدة ذلك؟ ستجيب أنت عن السؤال بوضوح حينما تصل إلى هذه النتيجة المذهلة التي توصلك إليها القراءة التطبيقية. سكت صاحبي قليلاً ثم قال: سأبدأ على بركة الله (ملتقى أهل الحديث) وأما ما نقل عن الشيخ محمد بشير الإبراهيمي فهذه صورته: يقول الإمام العلامة العلم محمد البشير الإبراهيمي الجزائري ـ رحمه الله: ( "فلما بلغت سبع سنين استلمني عمي من معلمي القرآن، وتولى تربيتي وتعليمي بنفسه، فكنت لا أفارقه لحظة، حتى في ساعات النوم؛ فكان هو الذي يأمرنِي بالنوم، وهو الذي يوقظني على نظام مطرد في النوم، والأكل، والدراسة. وكان لا يخليني من تلقين حتى حين أخرج معه، وأماشيه للفسحة، فحفظت فنون العلم المهمة في ذلك السن مع استمراري في حفظ القرآن؛ فما بلغت تسع سنين من عمري حتى كنت أحفظ القرآن مع فهم مفرداته وغريبه. وكنت أحفظ معه ألفية ابن مالك، ومعظم الكافية له، وألفية ابن معطي الجزائري، وألفيتي الحافظ العراقي في السير والأثر، وأحفظ جمع الجوامع في الأصول، وتلخيص المفتاح للقاضي القزويني، ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب، وأحفظ الكثير من شعر أبي عبد الله بن خميس التلمساني شاعر المغرب والأندلس في المائة السابعة، وأحفظ معظم رسائل بلغاء الأندلس مثل ابن شهيد، وابن برد، وابن أبي الخصال، وأبي المطرف ابن أبي عميرة، وابن الخطيب، ثم لفتني عمي إلى دواوين فحول المشارقة، ورسائل بلغائهم، فحفظت صدراً من شعر المتنبي، ثم استوعبته بعد رحلتي إلى المشرق، وصدراً من شعر الطائيين، وحفظت ديوان الحماسة، وحفظت كثيراً من رسائل سهل بن هارون، وبديع الزمان، وفي عنفوان هذه الفترة حفظت بإرشاد عمي كتاب كفاية المتحفظ للأجدابي الطرابلسي، وكتاب الألفاظ الكتابية للهمذاني، وكتاب الفصيح لـثعلب، وكتاب إصلاح المنطق ليعقوب بن السكيت، وهذه الكتب الأربعة هي التي كان لها معظم الأثر في مَلَكتي اللغوية، ولم يزل عمي - رحمه الله - يتدرج بي من كتاب إلى كتاب تلقيناً وحفظاً ومدارسة للمتون والكتب التي حفظتها حتى بلغتُ الحادية عشرة، فبدأ لي في درس ألفية ابن مالك دراسة بحث، وتدقيق، وكان قبلها أقرأني كتب ابن هشام الصغيرة قراءة تفهُّمٍ وبحث، وكان يقرئني مع جماعة الطلاب المنقطعين عنده لطلب العلم على العادة الجارية في وطننا إذ ذاك، ويقرئني وحدي، ويقرئني وأنا أماشيه في المزارع، ويقرئني على ضوء الشمع، وعلى قنديل الزيت في الظلمة حتى يغلبني النوم، ولم يكن شيء من ذلك يرهقني؛ لأن الله -تعالى- وهبني حافظة خارقة للعادة، وقريحة نَيِّرة، وذهناً صيوداً للمعاني ولو كانت بعيدة، ولما بلغت أربع عشرة سنة مرض عمي مرض الموت، فكان لا يخليني من تلقين وإفادة وهو على فراش الموت؛ بحيث إني ختمت الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك عليه وهو على تلك الحالة. ولقد حفظت وأنا في تلك السن -الرابعة عشرة- أسماء الرجال الذين تَرجم لهم نفح الطيب، وأخبارهم، وكثيراً من أشعارهم؛ إذ كان كتاب نفح الطيب - طبعة بولاق- هو الكتاب الذي تقع عليه عيني في كل لحظة منذ فتحت عيني على الكتب، وما زلت أذكر إلى الآن مواقع الكلمات منذ الصفحات، وأذكر أرقام الصفحات من تلك الطبعة، وحفظت المعلقات، والمفضليات، وكثيراً من شعر الرضي، وابن الرومي، وأبي تمام، والبحتري. وكنت أحفظ عشرات الأبيات من سماع واحد، مما يحقق ما نقرؤه عن سلفنا من غرائب الحفظ، وكان عمي يشغلني في ساعات النهار بالدروس المرتبة في كتب القواعد وحدي أو مع الطلبة، ويمتحنني ساعة من آخر كل يوم في فهم ما قرأت، فيطرب لصحة فهمي، فإذا جاء الليل أملى علي من حفظه -وكان وسطاً- أو من كتاب ما يختار لي من الأبيات المفردة، أو من المقاطيع حتى أحفظ مائة بيت، فإذا طلبت المزيد انتهرنِي، وقال لي: إن ذهنك يتعب من كثرة المحفوظ كما يتعب بدنك من حمل الأثقال، ثم يشرح لي ظواهر المعانِي الشعرية، ثم يأمرنِي بالنوم - رحمه الله-. مات عمي سنة 1903م ولي من العمر أربع عشرة سنة، ولقد ختمت عليه دراسة بعض الكتب وهو على فراش المرض الذي مات فيه، وأجازني الإجازة المعروفة عامة، وأمرني أن أخلفه في التدريس لزملائي الطلبة الذين كان حريصاً على نفعهم، ففعلت، ووفق الله، وأمدتني تلك الحافظة العجيبة بمستودعاتها، فتصدرت دون سن التصدر، وأرادت لي الأقدار أن أكون شيخاً في سن الصبا) الآثار 5 / 298 - 302.

 

وأخيرا أسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت لما فيه خير البلاد والعباد ، وأن أكون قد وضعت لبنة في بناء صرح الخطابة لأمتنا الناهضة من سباتها ، وأن تكونوا قد استمعتم بما نقلته لكم فرب مبلَّغ أوعى من سامع وناقل . ولكم مني هذا الأبيات نظمتها في حق اللغة العربية لغة القرآن

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين الدكتور محمود بن عبد الرزاق غوثاني تركيا ــ موش جامعة موش ألب أرسلان كلية العلوم الإسلامية الاثنين 17 ربيع الثاني 1435 يوافقه 17 شباط 2014

 

 


 


[1][1]الحديث ضعيف، وهو مروي عن أبي هريرة وابن عباس،انظر (مشكاة المصابيح 1/38 وضعيف الجامع الصغير رقم 12483)

 

[2]أحمد (7403 ) وهو حديث حسن

[3]أخرجه عبد الرزاق في المصنف (10163) وحسنه الألباني في إرواء الغليل 6/36

دور الخطباء في سوريا ؟!
دور فعال ومؤثر (صوتأ 114) 80%
غير فعال (صوتأ 27) 19%
لا أدري (صوتأ 2) 1%
تاريخ البداية : 26 ديسمبر 2013 م عدد الأصوات الكلي : 143