مقدمة:
في كل عمل خصلة؛ إن وجدت قضت عليه، وأفسدته، وإن غابت هان ما بعدها!، فالصلاة لغير القبلة -عمدا- مفسد لها؛ مهما كان خشوعها وحسنها!. كذلك خطبة الجمعة؛ إن كرهها الناس، وكرهوا خطيبهم؛ فقدت قيمتها!، ولم تحقق مرادها!.
التحدي الذي يواجه الخطيب يتمحور حول: "الاستماع المثمر" فالمصلون؛ بالتزامهم بآداب الجمعة؛ في حكم المستمع المنصت، لكن هذا لا يضمن أن يكون مثمرا، إن نجاح الخطبة؛ ليس مشروطا بما يتبعها من تحول في سلوك المصلين؛ فهذا مطلب آخر متعلق بالمصلين، لكن تحقيق الاستماع المثمر مهمة الخطبة الناجحة، وتلك مهمة الخطيب، إن نجح فيها؛ أدى ما عليه!. الخطبة الناجحة؛ ستكون الخطوة الأولى في قبول التوجيه، وتطبيقه عمليا. إن أخفقت الخطبة في تحقيق الاستماع المثمر؛ فالغالب أن تكون تبعات الأثر العملي؛ أبعد عن الحدوث.
الاستماع المثمر هو الإنصات الذي:
• يحضر فيه القلب.
• لا ينشغل بغيره العقل.
• تسكن فيه الجوارح.
• تركز فيه الحواس.
• يقدم فيه المستمع القبول المبدئي لما سيقال.
الخصائص الاربع الأولى واضحة لكن الخامسة: القبول المبدئي ربما لا ينتبه لها؛ مع أنها من أكثر ما يصرف الناس عن الاستفادة من الخطبة، ومفادها أن الخطيب يجب أن يكون له قدر من المصداقية والقبول لدى المصلين؛ حتى يمنحوه قبولا مبدئيا لما سيلقيه عليهم في خطبته، إذا كان المصلون يكرهون الخطيب، أو لا يثقون فيه، كأن يعتبروه من مذهب مخالف -كما هي حال خطباء الحوثة؛ عندما فروضوا على الناس لم يكن أحد يستمع لهم في حقيقة الأمر، ولولا الخوف وفضل الجمعة لخرج المصلون من المساجد، وهذا ما كان يحدث في كثير من الأحيان، وهناك درجات أقل حدة في الكراهة: كأن يكون الخطيب سلفيا يخطب في متصوفة عن بدعة المولد!- أو كان أقلا علما وشأنا منهم -كأن يكون الخطيب محدود العلم والمعرفة، ويخطب فيمن هم أعلم منه وأعلى شأنا، كأن يكون خطيبا في مسجد جامعة شرعية، كل المصلين فيها طلبة علماء وعلماء، وهو أقلهم شأنا وعلما-، أو كان المصلون كارهين له وهذا يحدث كثيرا إذا لم يقدم المصلون القبول المبدئي بما سيلقى عليهم؛ فإن ما يفعله الخطيب ليس أكثر من عبث وتضييع وقت! باستثناء إقامة الجمعة وفضلها وواجبها، لكن غاية ما ينتظره المصلون من الخطيب: ساعة نزوله من المنبر!
في بعض الأحيان يكون الخطيب مفوها، مقتدرا، جمع مقومات الأداء الخطابي الناجح، عندها قد يعتدل المصلون؛ ويتراجعوا عن موقفهم الابتدائي الرافض له ويمنحوه فرصة الاستماع المثمر.
الاستماع المثمر أمر عسير الاستدامة، لا يكاد يستمر لدقائق معدودات على قلة استدامته؛ فإنه شديد الحساسية؛ ينتفي لأدنى مؤثر، إن أهم المؤثرات في تحقيق الاستماع المثمر، أو نفيه يكمن في: حب المتحدث، أو بغضه، هذا هو العامل الحاسم؛ الذي تتضاءل دونه بقية المؤثرات الأخرى.
لقد جمع الله في الرسل كل مقومات الاستماع المثمر، وكان هذا الاستماع المثمر البلاغ المبين الذي أخذ الله عليهم صلوات الله عليهم وسلامه.
تاج هذه المؤثرات: الحب! إلى جوار الحجة البالغة، والبلاغ المبين، من اليسير تلمس معالم هذا الحب، في الكثير من الشواهد، التي وردت في ذكر: كيفية استماع الصحابة، رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم، كانت مشاعر المحبة تغمر كل موقف بين النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في: مجلسه وهم حوله متحلقين، أو في معسكره وهم دونه متترسين، أو فوق منبره وهم إليه بأبصارهم شاخصين، أو في ركوبه وهم حوله راجلين، أو مردفين، تلك المحبة؛ أسست للحجة، والبلاغ المبين رسوخا في العقول، وصنعت في القلب تعظيما، لا يدانيه تعظيم ملك، أو سلطان، كما في خبر زيد بن الدثنة رضي الله عنه: ..فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ، حِينَ قَدِمَ لِيُقْتَلَ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ يَا زَيْدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا الآنَ بِمَكَانِكَ، يُضْرَبُ عُنُقُهُ؛ وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ؟، قَالَ: "وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ مُحَمَّدًا الآنَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ؛ وَأَنِّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي"، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا؛ كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا، ثُمَّ قَتَلَهُ نِسْطَاسٌ.
وما روي من خبر عروة بن مسعود الثقفي في صلح الحديبية وفيه: ..ثُمَّ جَعَلَ عُرْوَةُ يَرْمُقُ صَحَابَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً؛ إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، قَالَ: فَرَجَعَ عُرْوَةُ لأَصْحَابِهِ فَقَالَ: "أَيُّ قَوْمٍ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ؛ تَعْظِيمَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ؛ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ، وَجِلْدَهُ، فَإِذَا أَمَرَهُمُ؛ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ؛ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمُوا؛ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ؛ تَعْظِيمًا لَهُ".
لقد أنعم الله على أنبيائه بمحبة الناس لهم، قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي}، إن هذه المحبة التي حازها الرسول صلى الله عليه وسلم، وسائر الرسل عليهم السلام؛ قامت على أركان واضحة تُجمل فيما يلي:
الحرص: الذي تكاد تهذب معه النفس، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم}.
الزهد والإيثار: ومن ذلك ما ورد في حديث: "مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ. فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ".
التفاني في خدمة الناس: كما في حديث: "..إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت".
وسئلت عائشة رضي الله عنها: هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ قَاعِدٌ قَالَتْ: "نَعَمْ؛ بَعْدَ مَا حَطَمَهُ النَّاسُ.." من شدة اجتهاده صلى الله عليه وسلم في خدمة أصحابه والناس عامة.
كمال الخلقة والخلق: قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وكان صلى الله عليه وسلم كامل الخلقة؛ طيب الريح، ندي الكف، جميل المحيا، حسن القسمات، رابع البدن. أجمل الناس، وأحلاهم، وأحسنهم خلقة ومظهرا ومنطقا وفعلا صلى الله عليه وسلم.
كمال البيان والبلاغ المبين: قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، وفي حجة الوداع شهد له الناس بإكمال الرسالة والبلاغ المبين كما في الحديث: (وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟)، قَالُوا: نَشْهَد:ُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: (اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ).
السلامة من المنفرات والمفِضّات: قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.
على الدعاة أن يكتسبوا محبة الناس لهم، بدون أن يحبهم الناس لن تستقيم لهم دعوة، الدعاة مجردون من كل الوسائل، محرمون من كل المنابر، مطاردون في كل المجالات، يضيق عليهم في كل سبيل يسلكوه في هداية الأمة، ربما لم يعد في أيديهم غير منبر الجمعة وهم يُزَاحمون فيه، ويُحرَمون في كثير من الأحيان!. باكتساب محبة الناس لهم؛ لن يضرهم إعلان معاد، أو معادة محلية، أو دولية. فإن المحبة ستصنع لهم -في قلوب الناس- المنابر، وتفتح لهم الطرق، وسيتغاضى الناس عن الحملات المغرضة التي تشن عليهم.
المحبة تخفف عيوب الدعاة وسيئاتهم، وعجزهم المزمن، وفي والوقت نفسه تعظم جهودهم المحدودة، وعملهم الكليل، بدون المحبة لا دعوة تبلغ ولا صحوة ترجى!.
إن حيازة الخطيب لمحبة المصلين أمر عسير بعيد المنال في كثير من الأحيان، ذلك أن التواصل بين الخطيب والناس (المصلين)؛ يكون لدقائق معدودة، على فترات متباعدة نسبيا، من فوق المنبر لا يتاح فيها طويل وقت للتفاعل، وتبين المحاسن، ولا يتيسر خلالها التفاعل على المستوى الشخصي، الذي هو أساس الدعوة وقبولها.
على الخطيب أن يجتهد في تأمل حاله، وتحسين ما بينه وبين الله، واستكمال التوجيهات الشرعية في الحقوق العامة، وحقوق الناس؛ قبل حق الله والعبادة؛ لعله أن يحوز بطول صبر وجهاد محبة الناس له، وكل بحسب استطاعته، ذلك أن أساس الخطبة: الوعظ -سيـأتي في حلقة موضوع الخطبة أن موضوعها وعظي بالدرجة الأولى-؛ وأساس قبول الوعظ: القدوة! والتواصل عبر المنبر ليس محلا للقدوة.
إن الخطيب عندما يعتلى المنبر يكون في أبهى حلة، وأحسن موقف، وأفضل سمت، موقف على جلالته؛ لا يفصح الكثير من عن محاسن الخطيب وأخلاقه، وحقيقة سمته، لذلك يكون وعظه (خطبته) مجردا من المثال والقدوة! وهنا يكمن التحدي؛ أن تتلخص كل وسائل الخطيب في إقناع المصلين؛ في قدرته على إلقاء خطبة تستوعب كل مقومات الأداء المثالي.
هذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه الخطيب، كيف سيتقبل الناس وعظه لهم، ودعوته لهم بالصبر على الشدة؟؛ وهو في أبهى حلة، وأحسن حال (حال الخطبة)!.
أما إن كان الخطيب مخالطا للناس -جماعته الذي يأتمون به- قريبا منهم، مخالطا لهم فهو بين أمرين: إما أن تصدَّق خطبته فعله؛ فهنا يكون قد حاز المفتاح السحري لقلوب، وعقول المصلين؛ وإن كانت خطبته معيبة!. وإما أن تكون خطبته تكذَّب فعله وسمته؛ فهنا لا فائدة من خطبته، وعليه أن يعتزل المنبر، ويشتغل بإصلاح نفسه!.
قد يعجز الخطيب عن كسب محبة الناس، وقد تحول دون ذلك ظروف وأعذار، لكن على الخطيب ألا يكرهه الناس! فكثيرا ما يكره الناس إمامهم، ومؤذنهم، وخطيبهم! وإذا علم الخطيب أن الناس تكرهه؛ ولم يجتهد لإزالة أسباب الكره، أو لم يترك الخطابة فيهم؛ فقد تلبس بأمر مشين: تنفير الناس من العبادة، وتعطيل استفادتهم منها، وهذا من فتنة الدين التي حذر الله منها.
إن الخطيب إذا أحبه الناس تعاموا عن أخطائه ومثالبه؛ فيعدون إطالته الخطبة مع شح المعنى، وضعف المبنى؛ حرصا منه عليهم، ويعدون تقصير خطبته، وعدم استكمال الموضوع، وغياب المقصود رأفة بهم، إن أغرب في القول، وأتى بما هو مستنكر شاذ؛ تأولوا له، وإن شطح وبالغ في الإغراب؛ أحسنوا الظن به. وإن تفاصح وتفيهق؛ قالوا: عليم فصيح، وإن ألحن وأعجم؛ قالوا متواضع يتخفى بعلمه، لا يحب كشف جهلنا!، وإن أتى بعجيب شاذ مفتعل؛ قالوا: يحب التجديد، وإن تأتأ؛ قالوا: ما أظرفه، وأعذب لسانه! وإن تعالى عليهم؛ قالوا: هكذا هيبة العلماء، وجلال العلم، وإن شدد عليهم، وبالغ في نكران الحاجة، والظرف؛ عدوه غيورا على الدين، وإن تفلت في الإباحة، مع انتفاء الحاجة، وتيسر الأمر؛ عدوه رحيما بالأمة، فقيه بالواقع.
أما إن كرهوه -فلأمه الويل- فإن أطال الخطبة؛ لحاجة المقام ويسر الحال؛ قالوا: تعمد حبسنا وشغلنا!، وإن قصر خطبته لمطر، أو عارض موجب؛ قالوا: متعجل لخاصة أمره؛ لا يحسن أداء واجبه، إن استقصى الموضوع وجوده؛ عدوه تعالما، وإن حرص على الفصاحة والإعراب؛ قالوا: متشدق مغرور، وإن خالف ما هم عليه لأمر جلل؛ لا يحسن السكوت عنه؛ عدوه فظا غليظا جاهلا، وإن أدركته سعلة وحشرجة؛ قالوا انقطع بيانه وخانه عقله، إن سكن وتوقّر؛ قالوا: متكبر متعال، وإن تباسط وتساهل؛ قالوا: سفيه أحمق، إن أخذ بالعزيمة في موضعها؛ عدوه متشددا، وإن قدم الرخصة لحضور موجبها؛ ظنوه رقيق الدين، مهزوم من الواقع!.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة.. ولكن عيب السخط تبدي المساوئ
وزارات الأوقاف والمؤسسات المعنية بتعيين الأئمة والخطباء، وتأهيليهم مسؤوليتها عظمى في هذا المجال. يجب على هذه المؤسسات أن: تراقب أداء الخطباء. وتتأكد من خلوهم من المعايب والمنفرات، وأن تعمل على استكمالهم للمحاسن والمقبلات، بالتدريب والتأهيل والمراقبة والمحاسبة أو الإقالة.
إن أعيت الحيلة، في بعض الخطباء للأسف فإن جهود هذه المؤسسات لا تكاد تتجاوز التعاقد، واختبار بسيط قبل التكليف، وربما الاكتفاء بالسمعة، والتزكية في التعيين، بعدها تختزل العلاقة في استلام الراتب، أو في توجيه الخطبة؛ لا في زيادة إفادة الناس منها، فيزداد كره المصلين للخطباء، ولمن عينهم، ولمن وجههم، ويفقد الناس الفائدة والخير من إحدى النعائم، التي من الله بها على هذه الأمة: خطبة الجمعة.
قد يعذر الخطيب في عدم محبة الناس له؛ ولا يعذر في كرههم له؛ فبيده إزالة أسباب الكراهة له، وبيده تأكيدها واستفحالها، وعلى الخطيب -إن شعر- أن الناس تتجنب خطبته، وتذهب لغيره أن يستشعر ما هو عليه، من سوء، ويفتش في حاله وأحواله، ويتعلم ويسأل من يثق في رأيه عن سبب كره الناس لخطبته، جاء في الحديث: (ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ: الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ).
وقياس الخطيب بالأمر مع الأولى، فإن كره الخطيب أعظم ضررا من كره الإمام على عبادتهم.
وفيما يلي ثماني معايب على كل خطيب تجنبها قبل أن يصعد المنبر في الجمعة التالية، فإن عجز فليعتزل:
الأولى: الفرض والإكراه:
الأصل أن الإنسان ينفر مما يفرض عليه لمجرد الفرض! ويميل لما اختاره وإن لم يكن في مصلحته، ومن رحمة الله عز وجل بعباده أن رتب على طاعته عظيم أجر لا يكاد يقف عند حد، غير أن ما يرتبط بطبائع البشر يحتاج لأكثر من الأجر والثواب لركون الانفس إليه، وحسن الإفادة منه، ومن ذلك خطبة الجمعة.
الأصل أن يكون خيب القوم منهم، وباختيارهم أو على الأقل لا يكون مفروضا عليهم؛ على كره منهم، غير أن الظروف قد تجعل من الخطيب –بغير قصد منه– مفروضا على الناس.
في الغالب يكون مجرد ترقب حيادي لا يحمل أي موقف ابتدائي من الخطيب، فيكون موقف المصلين من الخطيب حيادي أقرب إلى إحسان الظن بالخطيب في الابتداء، وبمرور الوقت وتكرار الخطب؛ إما أن يتصاعد رصيد الخطيب من المحبة والتقدير أو يتعاظم سخط الناس عليه، لكن بعض الخطباء يواجه تحديا ابتدائيا من الخطبة الأولى، كأن يكون بديلا مفروضا لخطيب محبوب من الناس؛ أقصي من الخطابة، أو أعاقه ظرف وعارض عن الخطابة في الناس، أو أن يكون الخطيب من مدرسة وبيئة ثقافية مغايرة تماما للبيئة الثقافية لعامة جماعة المسجد، وقد يكون لهذا الاختلاف بعدا اجتماعيا، أو حركي، أو فقهي.
في مثل هذه الظروف سيواجه الخطيب تحديا حقيقيا؛ ورفضا ابتدائيا يحتم عليه اتخاذ العديد من الإجراءات والتدابير التي تذيب هذا الموقف الابتدائي، وتحوله -في الغالب- إلى ولاء قوي، وقبول استثنائي، وهذا ينطبق على عامة جماعة المسجد باستثناء "حرس الخطيب" -سيأتي ذكرهم في حلقة مستقلة-.
الفرض والإكراه الذي يقابله الرفض وعدم الاستجابة الإيجابية يكون على ثلاثة أوجه:
الأول: الفرض الشخصي: وهو فرض خطيب لا تريده جماعة المسجد، يعتبر هذا أعلى درجات الإجبار لأن الموقف الابتدائي من الخطيب يكون في غاية السلبية ويتطلب منه جهودا كبيرة لتجاوز هذه الكراهية، وتحويلها إلى علاقة يسودها الألف والقبول أو الحياد على أقل تقدير. هناك جملة من الأمور التي تعين في مثل هذه الموقف. منها:
• التواصل مع جماعة المسجد: أن يجلس إليهم، وينادمهم، ويستمع إليهم. ويتفحص رغباتهم، وهمومهم.
• أن يسعى ما أمكنه في مصالحتهم: فقد يكون مسجده سعاني من الإهمال ونقص الخدمات، وقد يكون تعيينه سببا في ل الكثير من هذه الإشكالات
• ألا يبادرهم بما يكرهون في خطبته: فلا يتعمد نقاش المواضيع التي هي على خلاف ما هم عليه. وعليه أن يؤجل إصلاح هذه الأخطاء، أو تغيير هذه المفاهيم بعد أن يكون قد أزال ما بينه وبينهم من جفوه ونفرة أو توجس وريبة.
• أن يجتهد في التيسير عليهم في الخطبة: فيقصرها إلى الحد الأدنى، وينضبط في صالته وتلاوته ووقت صعوده المنبر ومدة خطبتيه.. حتى يروا منه تقديرا لهم وحرصه على التيسير عليهم.
الثاني: الفرض الموضوعي: ربما تتسامح جماعة المسجد مع الفرض الشخصي بعد فترة؛ فيتغير موقفها من التوجس والرفض إلى القبول والرضا، أما الفرض الموضوعي؛ فإنه غالبا لا يتغير، في كثير من الأحيان يعمد الخطيب إلى المبادرة إلى مواضع الخلاف مع الجماعة، ليس هذا فحسب بل يجعل مناقشة هذه الخلافات وتحريرها همه الأكبر، وموضوعه الأول الذي لا ينفك عنه.
إن بعض الخطباء تدفعهم "روحهم الصدامية" للاشتداد في الإنكار، والإلحاح، أو فرض "موقفهم السياسي"، أو اختياره في مسألة؛ الذي ينتهي غالبا بإفساد قصيته الصحيحة؛ حتى وإن كانت عادلة.
إن من صور الفرض الموضوعي التي تستجلب كره الناس ونفورهم: الإلحاح على القضايا التي توافق فيها جماعة المسجد خطيبها! فما يفعله الكثير من الخطباء من تكرار الحديث عن حجاب المرأة وسترها بمناسبة تستدعي وبغير مناسبة، بل تصبح ديباجة ثابتة في كل خطبة مهما تغير موضوعها، هؤلاء يتجاهلون قاعدة نفسية مهمة: "الإلحاح يفسد القضايا الصحاح".
ومن أكثر صورة الفرض قبحا وشناعة وأذية للمصلين؛ ما يعمد إليه الخطباء من تحويل الدعاء إلى نوع من الموقف من قضية معينة، وحدث معين أو شخوصا بعينهم. فيكون عامة دعائه توصيفا لما يريده، وتجريم لما يبغضه أو تزكية لما يريده، في حين لا تمثل اللهم في بداية هذه الديباجات أكثر من مقدمة لا قيمة لها، ولا شك أن هذا صورة من الاعتداء في الدعاء، فالدعاء يكون محايدا يوافق الحق بعمومه، بدون تشخيص، وتفصيل يخصه، خصوصا إن كان دافعه موقف خفي وراي مبيت.
الثالث: الفرض الشكلي: أهون أنواع الفرض والإكراه، غير أنه قد يكون بالغ الأثر فيدفع المصلين لتغيير المسجد، أو ترك الجمعة، هذا النوع يتعلق بالأمور الشكلية من توقيت الصعود على المنبر ومدة الخطبة، أو اتباع نمط ثابت غير مبرر في شكل الخطبة، مثل الإكثار والمبالغة من الشواهد الشعرية، أو الإصرار على خطبة الحاجة -لا دليل على أن ما يمسى بخطبة الحاجة أمر مندوب مطلوب في خطبة الجمعة، ويكفي البدء بحمد الله والثناء عليه- ويزداد الأثر السلبي لخطبة الحاجة عندما يكون موضوع الخطبة أقل فائدة وأكثر أخطاء وأقل شواهدا من موضوع خطبة الجمعة، والمداومة على الصيغ المطولة من خطبة الحاجة يولد في المستمعين سلوكا سلبيا تجاهها؛ إذ في الغالب ما يهمل الإنصات المثمر لها من عامة المصلين، وقد يكون أسلوب الخطيب يوحي بأنها مجرد بداية شكلية؛ فيسردها بأداء متعجل لا ترسل فيه ولا تعنٍّ، وعندما يبدأ موضوع خطبته يظهر كل ما يستطيع من المجملات والمحسنات، هذا خطأ فاحش فإن آيات الله -التي ترد في خطبة الحاجة- أولى بالاستماع والتأمل من كل ما سيقوله الخطيب، مهما كان موضوعه.
بعض الخطباء يفرض على الناس حديثا، أو موعظة بعد صلاة الجمعة، إن المداومة على هذا السلوك يولد لدى المصلين شعورا بشكلية خطبة الجمعة، وأن الموضوع الحقيقي إنما يكون بعد الصلاة، ويولد لدى عامة المصلين شعورا بأن للخطيب خاصة من المصلين يوليهم عنايته، وعامة لا قيمة لهم، والمداومة على هذا من غير حاجة بدعة غير مستحسنة.
الثانية: الكبر والتميز:
لا أفسد للخطبة من كبر خطيبها، مهما أوتي من روعة البيان، وسداد الموقف والرأي، والكبر من أبغض الأخلاق وأكثرها جرما؛ لأثره الضار على صاحبه، وعلى الناس من حوله.
بعض الخطباء فيهم كبر وتعال وإعجاب بالنفس؛ وإن زعموا غير ذلك، لكن بعض الخطباء تصدر منه مؤشرات الكبر، ويمارس الكثير من أفعال الكبير؛ ويحسب أنه متواضعا!، أو على الأقل معتدلا! ويجب على الخطيب -والجميع- أن يظل في حذر دائم؛ فإذا ما رماه الناس بالكبر؛ فليتيقن أن له في التهمة نصيب، وعليه أن يفتش في نفسه عن جذور هذا المرض، لأن مرض الكبر والإعجاب بالنفس يختبئ دوما خلف نصرة الحق، وحسن السمت، بل إن الكبر قد يختبئ خلف مظاهر التواضع وسماتها، فتجد بعضا ممن يتعمد مظاهر التواضع؛ وهو في حقيقة الأمر متعال متكبر.
إن الكبر لا يعالج بنفيه؛ بل تعمد كسر سورته، كما فعل عمر رضي الله عنه عندما آنس من نفسه عجبا بالنفس في موسم الحج؛ فقام في الناس قائلا: "لا إله إلا الله العظيم المعطي ما شاء لمن شاء... كنت أرعى أبل الخطاب بهذا الوادي، في مدرعة صوف، وكان فظاً، ويتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصرت، وقد أمسيت ليس بيني وبين الله أحد".
إن الكثير من الإجراءات المتبعة في الخطبة، وأفعال الخطيب قد تكون طقوسا تؤدي إلى الكبر والتعالي، فحجز موقف لسيارة الإمام هو الأقرب للمسجد يبدو منطقيا بمصلحة الخطبة؛ لكنه في الوقت عينه يحمل صفات التميز عن بقية المصلين، ويزداد أثر هذا السلوك ضررا عندما يكون أول من يخرج وطريق سيارته سالك! قد لا يحسن الخطيب إصلاح المكرفون أو تعديل درجة الصوت؛ لكن أن يعتاد أن يقوم المؤذن أو غيره في كل خطبة لتعديل المكرفون، أو يتخذ في محرابه، وعلى كرسي خطبته من فاخر السجاد والأثاث ما لا يوجد في بقة أثاث المسجد.. فهذه كلها من التميز الذي لا يحسن بالخطيب.
هذه الإجراءات بريئة في أصلها؛ لكنها تحولت لطقوس فرضت بينهم وبين الناس حواجز، وأسبغت عليهم تميزا؛ يؤول إلى شيء من الكبر والتعالي على الناس.
كان في العصور المتأخرة شيخ للسجادة؛ مهمته تسوية سجادة إمام الحرم! وبالغ بعض السلاطين في تحلية ثياب الخطيب؛ حتى وشوها بالذهب والفضة، وبالغوا في حجم عمامته؛ حتى بلغت حجما مستنكرا! وبعض الخطباء بالغ في الكثير من هذه المحسنات في: لبسه، وهيئته، وحركته، وتعامله مع الناس تحولت إلى طقوس تحمل الكثير من مظاهر الكبر.
يجب على الخطب أن يتعمد التنازل والتواضع، فلا بأس أن يأتي بدون عباءة فاخرة؛ فهذا لا ينقص من علمه ولا مهابته، والأفضل أن يوقف سيارته مع الناس، أو يـأتي ماشيا؛ بدلا من حجز موقف لسيارته، وليبكر حتى لا يتأخر، ولا بأس أن يصلح مكرفونه بيده، وأن يحتضن أبناء المصلين، وأن يلاعبهم، ولو أساؤوا إلى لباسه وهندامه، لا بأس أن يأتي بثوب قديم، وعباءة مهترئة، خصوصا إن كانت الناس في شدة، وضيق؛ فهذا لا يخالف التزين المأمور به في كل مسجد، ولصلاة الجمعة؛ إن كان قد حقق: النظافة، وطيب الريح، وحسن الهيئة، قال صلى الله عليه وسلم: (إنّ البذاذةَ من الإيمانِ، إنَّ البذاذَةَ من الإيمانِ).
الثالثة: الفوضى والاضطراب:
بعض الخطباء لا تستديم طباعه وسيرته في الخطبة، في كل جمعة يربك المصلين بشيء، هذا الإرباك يكرهه المصلون، فالحضور لصلاة الجمعة، والاستماع لخطبتها أمر يرتب المصلون عليه حياتهم في هذا اليوم، وبقد ما يتطلعوا للإفادة من الخطيب وخطبته، والصلاة وفضلها؛ بقدر ما ينزعجوا من فوضى الخطيب وعدم انضباطه وإهماله، ويمكن أن تصنف مظاهر الفوضى في أداء الخطيب ضمن التقسيمات التالية:
أولا: اضطراب الخطبة: ترجع معظم مسببات اضطراب الخطبة إلى الإهمال، فلو أن كل خطيب أعطى الخطبة حقها من: الإعداد، والتدرب على إلقائها؛ لاستقامت خطبته، وسارت وفق استدامة، يألفها المصلون، في كثير من الأحيان يكون الخطيب غير مستعدا للخطبة، فلم يحضّر موضوعا، وإن عنّ بباله موضوع -حتى وإن مناسبا- ففي الغالب لا يعد له عناصر، ولا أركان، ولا أدلة ولا شواهد، ولا صياغة، ولا مدخل وبداية، ولا خاتمة ونهاية، ولا تتلخص في ذهنه أهداف محددة، وخلاصة نافعة.. وبعد كل هذا يعتلي المنبر مرتجلا؛ كأنه قس بن ساعدة الإيادي!.
إن كتب لم يحسن قراءة خطه، وضبط شكله. وإن وضع لخطبته نقاطا نسي معظمها، وإن ذكرها فاته ما يتعلق بكل نقطة، وإلى ماذا تؤول. لا يقيم الأدلة والشواهد. ولا يحسن عرض الحجج والبراهين. لا يقيم الضروري من الإعراب. وفي أحيان كثيرة يخونه الخطاب؛ فيقف كمن تعطل عقله، يلحن لحنا قبيحا في الآيات. يقف حيث لا يجوز الوقف، ويصل ما لا يوصل في اللفظ. جملة مبتورة عن سياقها، نفي في عرض إثبات، إجمال في محل تفصيل، واسترسال في محل إيجاز، وموضوع دخل في أخر، ودليل في غير محله، وفكرة "مطهّا" حتى فقدت طعمها!. يشتد وينفعل في غير محل. ويتلعثم، ويخلط مكونات الجمل. يزداد الوضع سوءً، والطين بلة إذا كان الموضوع لا يحتمل الكلام المرسل، غير المستقصى، أو كان كثير التفريعات، دقيق المعاني. فترى أعين المصلين شاخصة فيه، حائرة؛ تحاول أن تتفهم، أو عقولها سارحة ساهمة؛ لا تبالي بما يقول.
ثانيا: عدم الانضباط: تارة يتأخر في الصعود للمنبر، وفي أخرى يبكر. أحيانا يطيل خطبته حتى تضجر الناس، وأحيانا يقصرها حتى يستغربوا من مقصده. قد يقرأ بالمعوذتين. وقد يقرأ بطوال السور. قد يلقي بترسل وتأن. وقد يهذ خطبته فلا يكاد المصلون يستبينون كلامه!. قد يحضر وفي كثير من الأحيان يفوض غيره بالخطبة. وكل من فوضه له: دل وهدي وسمت مختلف. فمنهم المرتجل (إلف المنبر) -من اعتاد صعود المنابر، والتحدث في الجموع- ومنهم من لا يحسن الخطبة، وفي الغالب يكون البديل غير مستعدا، غير مدركا لعادات جماعة المسجد وخطيبها؛ فلا يحسن خطبة تناسبهم: لا شكلا، ولا مضمونا.
مثل هذا الاضطراب يضر كثيرا بالمصلين. خصوصا في الدول التي تكون فيها صلاة الجمعة جزء يسيرا من يوم عمل. بل حتى إن كانت إجازة؛ ففي الغالب تمثل صلاة الجمعة وخطبتها موعدا دقيقا؛ يرتبط به إيقاع الحياة قبل الصلاة وبعدها. والاضطراب في هذه الشكليات يفسد على الناس ترتيب أمور حياتهم في يوم الجمعة، الذي يكون يوما خاصا فيه تجتمع الناس والعوائل، وتكثر المناسبات.
إن الدافع على هذه الفوضى وهذا الاضطراب: الاستهانة بالمصلين، وعدم تقديرهم قدرهم، والمبالغة في الثقة بالنفس وقدراتها، والأمن من العقاب والمحاسبة. بل - حتى - مجرد لفت النظر أو التنبيه.
الرابعة: الضعف النسبي:
عندما يكون الخطيب أقل من المصلين علما وقدرة من المصلين في إحدى خصائص الخطبة. فإنه يكون في وضع حرج من حيث قدرته على الإقناع. ذلك أن ضعفه النسبي سيحول دون تحقيق الالتفات الكافي لموضوعه. نظر لكون ما سيأتي به من علم وطرح سيكون في حكم لمحصل المعروف بالضرورة بالنسبة للمصلين. ومن جهة أخرى وهي الأهم: أن ما يعتريه من ضعف وعيوب ستنكشف بشكل جلي للمصلين؛ وسيسهم هذا -حتى وإن أبدى المصلون تسامحا مع الخطيب- في التقليل من أثر الخطبة بل وربما تعطيل الاستفادة منها. أهم القدرات المتعلقة بالخطبة تتمثل في ثلاثة عناصر أساسية (يأتي بسطها في حلقة موضوع الخطبة) تمثل في مجملها أركان الخطبة وهي:
الركن الأول: العلم الشرعي الذي يمثل الأساس سواء في الأدلة والشواهد، أو في الأحكام والفقه.
الركن الثاني: علوم اللغة العربية والتعبير والبلاغة وفقه اللغة. وفنون الألقاء ومهارات الخطابة.
الركن الثالث: العلم المختص بموضوع الخطبة. (كأن تكون الخطبة متخصصة في عقائد الفرق، أو تحرير قضية فقهية، أو عن قضية متعلقة بعلم النفس، أو علم الاجتماع، أو السياسة والتربية.. وغيرها من العلوم المتخصصة في الشريعة والحياة).
الضعف الذي قدي يعتري الخطيب سببه قصور في هذه الثلاثة الأركان، أو في بعضها. وقد يكون إحدى حالتين:
الضعف الدائم: يكون الخطيب في المطلق أقل من المصلين في الأركان الثلاثة، أو أحد المطلين الأولين، أو كليهما. كأن يكون الخطيب لا حظ له في العلم الشرعي، ويخطب في مجمع في طلبة، أو أساتذة وعلماء. سواء أكانوا متخصصين في العلم الشرعي أو في اللغة العربية. إن هذا الضعف لا يعني عدم قدرة الخطيب على كسب التفات المصلين –الذين يفضلونه علما- لخطبته. قد يستطيع أن يحقق الاستماع المثمر أن اجتهد، أو كانت لديه مهارات تسد القصور الذي لديه. وربما فاق من يخطب فيهم؛ وهم أعلم منه!. قد يكون متحدثا بارعا. أو له معرفة بصياغة المواضيع، ونحتها في إطار بديع قد يعجز عنه المتخصصون. أو لديه قدرة على إبداع مواضيع يعجز عنها المتخصصون، أو يجدوا فيها فائدة حقيقية. لكن المؤكد أنه يواجه تحديا أكبر؛ يتطلب منه جهدا غير عاديا في تحقيق الاستماع المثمر لمن هم أعلم منه مطلقا.
الضعف الموضوعي: حال من الضعف تجعل الخطيب أقل علما ممن يخطب فيهم بناء على طبيعة الموضوع. قد يكون الخطيب عالما مفتيا؛ لكن موضوعه يجعله أقل علما ممن يخطب فيهم. وهنا يأتي دور الركن الثالث في الخطبة: المعرفة المتخصصة تبعا للموضوع. قد يكون موضوع الخطبة متعلق بمجال علمي تخصصي، وينحو فيه الخطيب إلى التوسع في الجوانب العلمية في خطبته. هنا تكثر أخطاء الخطباء بشكل كبير وبدرجة فاحشة. قد يكون الموضوع عن نقاش نظرية فلسفية في التربية أو في علم الاجتماع أو في علم النفس. ويعتم الخطيب في نقده لها على رؤيته وفهمه للتناقض الحاصل بين ما يراه من أدلة متعلقة بالموضوع، وبين أصول هذا العلم. مثلا: قد يتحدث الخطيب عن: نظرية النشوء والارتقاء، أو نظرية التحليل النفسي عند علماء النفس، أو عن تحليل سياسي لمجريات الأحداث. يكون توجهه في خطبته ذو طبيعة نقدية رافضة للمسلمات أو مبادئ هذا الموضوع عند المتخصصين. وقد يكون محقا في النقد النهائي؛ لكنه غير موفق بتاتا في بناء هذا النقد. إن حاله أشبه ما تكون بمن يجد الحل الرياضي النهائي عبر معادلات خاطئة.
حتى على مستوى العلم الشرعي قد يحدث هذا الضعف النسبي. كمن يتصدى لنقد مذهب الأشاعرة، في بيئة أشعرية دون أن يكون له حظ علمي تخصصي في المسألة.
إن الكثير من الخطباء يقترفون أخطاء فادحة في تقرير مواضيع أو في نقد أمور علمية تخصصية دون هدى ودليل. سواء في المجال الشرعي، أو في المجالات الحياتية التطبيقية في: الطب، والسياسة، والفكر، وعلوم الاجتماع، والتربية.
في بعض الأحيان يتوفر العلم الصحيح؛ لكن دون إحاطة حقيقية، ومتانة وفهم عميق. فيبدو أمام من يخطب فيهم كالببغاء التي تردد ما لا تفهم. هذه أسوأ حالات الخطيب على الإطلاق: أن يرى المصلون أنه مجانب للصواب، على الخطيب أن يعرف قدر نفسه.
الخامسة: تجاهل الظرف، وعدم التقدير:
بعض الخطباء كأنما هو كاتب أنزل من الرف، أو شريط مسجل؛ لا علاقة له بالواقع، ما يكابده الناس أو ما هم عليه ويحتاج لتنبيه أو استغلال في تذكيرهم أو تحسين سلوكهم وعبادتهم. دائما في حال انفصال عن المصلين. هذا التجاهل المطلق لأحوال الناس وظروفهم يورث في قلوب الناس بغض الخطيب، وعدم واقعيته.
النفس الإنسانية مجبولة على محبة من يمتدح محاسنها، و يواسيها في ظروفها القاهرة، ومن يخصها بشيء لها ولذاتها. وهذا المحبة تورث في القلب قبولا للمطالبات التالية، وتفهما لما قد يفرضه الإمام مما تأنفه النفس.
إن تجاهل الخطباء لهذا خطا عظيم، وقد يصدر من بعض الخطباء مثل هذا السلوك انطلاقا من كونهم يعتبرون الخطبة للتعليم وليست للوعظ (سيأتي في حلقة: موضوع الخطبة)، ويكتفي بخطب المناسبات في معالجة الظرف والواقع وتقدير الحال (سيأتي في حلقة: معضلة المناسبات).
تقدير المصلين مفتاح القلوب لتوجيههم ونهيهم عما هم فيه من خطأ أو دفعهم لتمثل ما عليهم من واجب. فاعتبار المروءة والأنفة والكرامة في القبيلة ذات الشكيمة أساس في نهيها عن الأخلاق الدميمة، واعتبار الانتساب لآل البيت أقرب في حثهم على الدفاع عن السنة. وتقدير المتصوفة في محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم أقرب في وعظهم وحثهم على ترك ما هم فيه من باطل. بدلا من تجاهل الدافع لهذه البدعة. ومثل هذا يصدق في تقدير ذوي المهن، والتخصصات، والعسكريين. على الخطيب البدء بما يخصهم، أو توظيف امتيازاتهم، وخصائصهم في الدخول إلى قلوبهم بالأمر والنهي. فيختار في أمثلته من الإعجاز الطبي إن كان يخطب في أطباء. ويختار في مواضيعه من شجاعة الفرسان؛ إن كان يخطب في العسكر. يتكئ في خطبته على رقة قلوب رعاة الغنم. يحذر رعاة الإبل من القسوة والغلظة. يذكر الزراع بزراعة الجنة؛ وأنها قيعان غراسها ذكر الله. يختار في موعظته ما ورد في فضل التاجر الصدوق؛ إن كان في سوق.. هذه هي الحكمة.
إن أهم فئة يجب تقديرها في المصلين الشباب قولا واحدا! وللأسف فإن الشباب هم أقل الناس حظا في خطب الجمعة، وأقلهم منها إفادة. وهذا بسوء فعل الخطيب قولا واحد!. (لعل الله ييسر حلقة خاصة: خطبة الشباب).
الخطيب الذكي الحصيف الداعية الموفق: الذي يقدِر خطبته على قدر الشباب، فيجعل هدفها، وموضوعها، وثمرتها، وسمتها، وأدبها، ووعظها، ونهيها، وأمرها، وجلها، ودقها للشباب!.
اعتبار الظرف أساس الموعظة: لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص في كل مناسبة على استغلال الظرف القائم في موضوع خطبته. كمما في خبته البليغة في خسوف الشمس. كلها كانت للترهيب والتحذير من معصية الله. وهذا ديدنه صلى الله عليه وسلم في كل شانه وتعليمه لأصحابه وتزكيتهم. فإن رأوا نعيما ذكرهم بنعيم الآخرة. وأن رأى منهم خوفا وقنوطا ذكرهم برحمة الله . وإن رأى فيهم وجلا ويأسا نزلت آيات الله وبشاراته بالفتح والنصر المبين!. والقرآن نزل منجّما على الحوادث والمناسبات؛ فهل يعتبر الخطباء؟!.
على الخطيب أن يحسن توظيف الظرف في توجيه المصلين. فلا يستخدمه في إحداث أثر عكسي؛ بل يحرص أن يكون إيجابيا. فالتقريع والاتكاء على الجانب السلبي من المناسبة والظرف ليس محمودا على المنبر في أغلب الأحيان. بل النفس أقرب إلى التحفيز والمواساة والتأميل منها إلى التيئيس والتخويف.
إن تعمد الخطيب تقدير المصلين، واعتبار فضائلهم، وتوظيف خصائصهم وامتيازاتهم، وتقدير ظرفهم وتوظيفه؛ سيجعلهم يقدرونه، ويقدرون عنايته بهم. وإن تجاهله لكل هذا؛ سيجعلهم يتعاملون معه "كملف صوتي" ؛يتجاهلون سماعه، أو "صفحة كتاب"؛ يشيحون عنها أبصارهم.
السادسة: الإطالة والإطناب:
عامة الخطباء -إلا ما ندر- يتعمدون مخالفة التوجيه النبوي بتقصير الخطبة، وإطالة الصلاة. هذا التعمد المستهجن يأتي تحت مبررات لم يعتبرها الشرع، وأجمع على فسادها: العلم، والتجربة، والخبرة الإنسانية. وعند تأمل ما حفظ من خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه من بعده، وخطباء فصحاء العرب والإسلام يجدها جميعا لا تعدو بضع مئين من الكلمات، والأغلب بضع عشرات!. فمن أين جاء التطويل في الخطبة، حتى قد تبلغ الخطبتان -عند بعض الخطباء- قريبا من الساعة. في حين لا تتجاوز صلاته خمس دقائق!. إن ما يحمل الخطباء على إطالة الخطبة يرجع إلى الأمور التالية:
عدم فهم خصاص الخطبة: يغلب على ظن الكثيرين أن إطالة الخطبة يسدد ما يعتري المصلين من سهو، وشرود ذهن، حال الخطبة. وكلما طالت الخطبة تحققت للمصلين فرصة أكبر في الاستفادة من انتباهة هنا وهناك؛ تحقق له قدرا من الاستماع المثمر للخطبة. وبعض الخطباء يرى أن الشرح يستدعي الإطالة، وأن الناس قدراتهم على الفهم تضاءلت، واصبح من المتعذر عليهم فهم: النصوص، والأحاديث، وفصيح اللغة. لكنهم بهذا يتجاهلون القضية الأهم: القدرة على الاستيعاب، واقصى مدى لحضور الذهن. إن الاستماع الثمر -بالنظر إلى طبيعة الخطبة، والمكان والاجتماع- لا يمكن أن يستمر لكثر من بضع دقائق. والذي يبدو لي أن جعل خطبة الجمعة خطبتين ينطوي على حكمة عظيمة (رأي رأيته) ألا وهي استئناف و تجديد الانتباه!. إن حال شرود الذهن إذا بدأت ففي الغالب لا يمكن استعادة الانتباه إلا بعد توقف تام للعرض!. لذلك وضع الشارع الحكيم التوجيه في خطبتين. حتى يتسنى للذهن. أولا: فرصة لاستعادة الانتباه؛ إن كان فقده في الخطبة الأولى. وثانيا: إغلاق موضوع بخلاصة محددة وفائدة متحكم فيها؛ قبل البدء في موضوع آخر. إن الذين يصلون موضوعهم عبر خطبتين، أو ينبه على أن موضوع الخطبة الثانية استكمال لمضوع الخطبة الأولى؛ لم يفهموا مقصد الشارع من الخطبتين، ولم يفهموا خصائص الاستماع الجماهيري للخطيب.
يجب على الخطيب أن يتعامل في خطبته مع عقل المستمع كوعاء صغير لا يستوعب أكثر من خمسمائة كلمة في الخطبة الواحدة. وأن كل ما يضيفه من كلام: إما أن يحله محل كلام سابق، أو أن لا يستوعبه، ويتغافل عن مضمونه وثمرته. يجب على الخطيب أن يقتصد في خطبته ولا تزيد كل خطبة عن خمسمائة كلمة مهما كان الظرف. ولو اضطر أن يغر الموضوع، أو يجزأه على اسابيع. وعليه أن يجعل الفهم والتبسيط ضمن هذا القدر من الكلمات. وإذا اعتاد المصلون من خطيبهم الإطالة؛ اعتادوا شرود الذهن في خطبته، وتفوتهم فائدتها. إن حال الانتباه والتوثب الذهني للاستماع الجماعي لا تستمر لأكثر من دقائق. هذا بشرط توفر قدر كاف من: براعة الإلقاء، وجودة الأداء. إن إطالة الخطبة؛ يقابلها - دوما - نقص في الفائدة.
الارتجال: الارتجال أحد المهارات التي حباها الله لقلة قليلة من البشر، في كل الثقافات، ولا غرو أن يكون عامة القادة من الخطباء الفصحاء، هذه الندرة كانت سببا في حفظ اثار أشهر خطباء العرب على مر التاريخ!. وخصائص الارتجال تقوم على الأركان التالية:
• براعة المطلع.
• استدامة الأداء.
• عدم الانقطاع.
• الإيجاز.
• السيطرة على الموضوع.
• الفصاحة والبلاغة.
• جمال الأداء.
• براعة الخاتمة.
تحقيق هذه الصفات في الخطابة (الارتجال الناجح) يحتاج لصفات نادرة في الخطباء أهمها:
• الشجاعة الأدبية .
• الذكاء وسرعة البديهة.
• التمكن وحذق اللغة.
• المخزون الهائل من المصطلحات والجمل واللفاظ والشواهد.
• العقلية المنظمة القادة على الهيكلة (الارتجال الموضوعي).
• قوة الجهاز الصوتي (الحنجرة والحبال الصوتية والرئتان وعضلات الصدر والقلب واللسان).
هؤلاء الارتجاليون البلغاء نادرون في الأمة يمكن تأهيلهم. لكن ما يفعله الكثير من الخطباء يدعو على الرثاء. إن الكثير من الخطباء المرتجلون لا يملكون أيا من المقومات السابقة للارتجال، ولا يحققون خصائص الارتجال الناجح في خطبهم. ثم هم مصرون على هذا "الطبع" لا يردعهم رادع، ولا تثنيهم نصيحة.
الكثير من الوعاظ يصيبهم مرض "إلف المنابر" (بتسكين اللام والفاء). إلف المنابر: حال من زوال الرهبة من الحديث إلى الجموع، والتعود على الوعظ والإلقاء في كل جمع، هذا الصنف من الوعاظ والدعاة لديه رصيد محدود -في الغالب- من المواضيع المطروقة. وهي في جملتها من عموم أحاديث الوعظ والنصح. اعتاد إلقاءه في كل مجلس وكل جمع بالنظر إلى طبيعة الجمهور الخجولة، وعدم مبادرته إلى إبداء رأيه فيما يلقيه الواعظ؛ واكتفائه بما استفاد منه، أو بتجاهله؛ يترسخ لدى الواعظ أنه خطيب مفوه، وفصيح لا يعجزه بيان، وأن الناس تستمع له إعجابا ببيانه، وجودة إلقائه، قد يُتهاون في مواعظ المجالس؛ بحكم أنها عفوية، ويحق للمستمع: أن ينقطع عن الاستماع، وينشغل بما شاء من أمره الخاص، لكن لا يُتهاون في خطبة الجمعة. لأن خطبة الجمعة عبادة؛ وضع الشارع الحكيم لها أجرا ومثوبة، وحدد لها أعمالا تبدأ من ليلتها، وتستمر بعد صلاتها. وشدد الشارع في حشد كل خصلة تحقق الاستماع المثمر، وعدم الانشغال بغيرها... ثم يأتي الخطيب فيعتلي المنبر، وتبدا رحلة من: الفوضى الموضوعية، والأداء الركيك، والتكرار، والتداخل، والانقطاع، والاسترسال، والإطالة المملة غير المفيدة.
الإهمال: الباعث الأساسي على سوء الخطبة سواء على الدوام: بإهمال الخطيب لتحسين قدراته، وتجنب المثالب التي تضعف خطبته. أوفي كل خطبة: بما يمارسه من إهمال، يبدأ من اختيار موضوعها، إلى حين صعوده المنبر، وإلقائها. الكثير من الخطباء لا يفكر في خطبته إلا قبل صعوده المنبر!. وربما بلغت الثقة ببعضهم أن يفكر في موضوعه عند اعتلائه المنبر!. هذا تفريط في الأمانة!. فمهما كان الإنسان مقتدرا؛ عليه أن يبذل الحد الأدنى على الأقل في الاستعداد، والتحضير للخطبة.
حتى مع الاستعداد يقع الخطباء في خطأ قاتل!. فبعد أن يختار موضوعه، ويهيكله، ويحرر مادته، ومدخله، وخاتمته، ويكتب شواهده، وأدلته... يخطئ بعدم التدرب عليه!. الذي يحدث من عامة الخطباء، الذين يقرؤون خطبهم: أن ما يكتبونه لا يكون متقنا، مكتملا!. فلا يعدو أن يكون رؤوس أقلام، وحتى هذه الرؤوس في بعض الأحيان تكون مجرد كلمات مفتاحية؛ باعتبار أنه بمجرد النظر إليها؛ سيتذكر ما يريد قوله فيها. ثم يضيف لهذه الكلمات المفتاحية: الآيات، والأحاديث، وأبيات الشعر، والأسماء، والأعلام التي لا يحفظها. أما الآيات والأحاديث التي يحفظها فيذكر منها كلمة مفتاحية؛ يستدل بها على بقية الآية. فإذا صعد المنبر؛ استغلق عليه الموضوع، فتتحول الكلمات المفتاحية إلى ألغاز؛ لا يعرف إلام ترمز. والآيات والأحاديث والشواهد التي كتبها؛ لم يعد يعرف ما يقول فيها، ومتى يقولها. بل قد يستغرب من بعض ما يرد: ما مناسبته؟!. وأسوأ من هذا: أن يكون قد كتب نصا بقوم على الاستدراج المعنوي، ثم ينفيه، هذا الأسلوب جميل في لفت الانتباه على سبيل المثال يريد أن يلفت لأهمية الصلاة وأنها أهم من كذا وكذا. فيبدأ النص بأهمية كذا وكذا.. ثم ينفيه، أو يكر عليه بذكر الأهم من هذا كله. كما في قول الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، وله أوجه متعددة لكن ينبغي استخدامه بحذر والانتباه لمواضع الوقف والابتداء، حتى يحقق فائدته، لكنه عندما يبدأ خطبته ينسى فكرة الاستدراج المعنوي؛ فيستنكر الجمل الاستدراجية؛ ويظن أنه كتبها خطأ -بسبب العجلة- فيعدلها أثناء الإلقاء؛ ويعكس مدلولها الاستدراجي!!. حتى إذا وصل إلى جملة الإثبات للموضوع الأهم؛ تذكر الفكرة، وأسقط في يده؛ فلا يعرف هل يعود ويكر على كل ما سبق، أو يمضي لما بعده، أو يصحح ما تيسر، وغالبا يقع في إخطاء أخرى خصوصا إذا كان موضوع الاستدراج مطولا فيوقع المصلين في شيء من البلبلة، والاستغراب من هذه "اللفة" التي لم يكن لها فائدة!.
أحيانا أخرى يكتب كل نص الخطبة لكن يكون خطه سيئا؛ فلا يحسن قراءته!. أو يخطئ في ضبط الإعراب فيصبح المفعول فاعلا، وقد يكون نصه مليء بالاستدراج المعنوي المطول، مرة تلو أخرى.. فلا ينتبه ويظل يصحح كل جملة مباشرة، دون أن يلتفت للازمها، وما سيأتي بعدها. ولا يحسن الوقوف والوصل في موضعه. فيصل جملا أو يقطعها؛ فيستغلق فهما. فتتحول خطبته إلى مأساة تدعو للرثاء، وتستجلب حنق المصلين. الخطأ المركب من هذه الخطأ: أن يظن أن أحدا لم ينتبه "للطوام" التي أحدثها في خطبته، وكأنه نعامة تدس رأسها في التراب؛ فلا يراها أحدا.
الاسترسال: يفتح الله على بعض الخطباء في اللغة والثقافة العربية؛ فيحلق في بيانها؛ يما يتجاوز احتياج المقام. وأحيانا بما يؤثر سلبا على بقية العناصر، والمواضيع التي هي أساس الخطبة، وموضوعها. فيكثر من المحسنات البديعية والمجاز (سبحان الله عدد ما خلق، وعدد ما ذرء، وعدد.. عدد). ويكثر من سرد الشواهد الشعرية: الواحد تلو الآخر؛ حتى تتجاوز عدد الآيات والأحاديث، أو يسترسل في الوصف. كما يفعل بعض الخطباء والوعاظ في ذكر: أحوال النار، وعذابها، والجنة، ونعميها.
بعض الخطباء يخطئ بالاسترسال في حشد الأدلة، فيسرد أكثر من آية في موضوع واحد. ويذكر عدة أحاديث يكون الفرق فيها في السند والرواة، ويذهب بعيدا في تمحيص السند، ويصر على العزو، وذكر الأعلام. والتمييز بين المنقول والمفهوم -من أكثر ما يثير البلبلة وعدم الفهم بين المصلين عبارة: "انتهى كلامه رحمه الله" فلا يكاد المصلون يفهمون ما المقصود بها، ولا ما الذي ابتدأ حتى ينتهي!- وهذا كله ليس من مقام الخطبة، ولازمها!.
والأفضل أن يقتصد في استهلاك الأدلة والأقوال -الاقتصاد في الآيات والأحاديث والاستشهاد بالحد الأدنى الذي تقوم به الحجة؛ من تعظيم شعائر الله. وهذا لا يفهمه الكثير من العلماء؛ فضلا عن الدعاة والوعاظ- وألا يذهب بعيدا في الانتصار للقول الصحيح. إن المصلين الذين يستمعونه لا يشكون فيما يقول، ولا ينازعونه فيه!. وعليه أن يدرك أن: كل كلمة محسوبة عليه، وكل كلمة يضيفها لا تزيد في المعنى ضرورة، ولا تضيف إليه بيانا؛ فإنما تضّار كلمة أخرى، لها احتياج وأهمية وفائدة! وكلمة: "متفق عليه"؛ تضّار حديث: "إنما الأعمال بالنيات" في خطبة الجمعة!.
أما إن كان الخطيب يريد أن يعالج قضية؛ المصلون على خلاف ما يراه الإمام، خصوصا إن كان الخلاف فيها محتدم، قديم؛ نشأت عليه أجيال؛ فالأفضل عدم طرحها في خطبة الجمعة. لأن الإمام يفقد مرجعيته عند المصلين، في هذه الحال، فلن يغيروا رأيا اعتادوا عليه لخطبة جمعة! مثل هذه القضايا -حتى وإن كان تصحيحها حقا وضرورة- تحتاج إلى سياسة حكيمة، وبرنامج طويل المدى لعلاجها، وليعلم الخطيب أن ما بينه وبين المصلين؛ أشبه بشعرة معاوية، وهم لن يرخوا من طرفهم، في خطبة الجمعة!. فإما أن يتبصّر بهم، ويداريهم، ويسوقهم سوقا حسنا أو أن يخسرهم؛ فلا يلقوا لما يقول أذنا.
السابعة: التقريع والنقد:
هناك فئة من الخطباء لا يروا المصلين إلا جماعة متمردة من العصاة: إن أُمِروا؛ تنكبوا وقصروا وفرطوا، وإن نُهو؛ تجاهلوا، وتحايلوا، وأفرطوا.
عامة الخطباء لا تكترث لهذا الأمر، الأمر عنده محسوم بحكمه الفقهي، وبما يظنه بالمصلين من تفلت وسوء ظن غالب.
قلة نادرة من الخطباء غرس الله في قلوبهم الرحمة، والإحسان للناس، والترفق بهم، والحياء والفقه الأصيل الذي يقوم على: اليسر والتيسير، والبشر والتبشير، والرفق واللين، والتماس العذر.
الكثير من الخطباء يبادرون إلى إحراج المصلين، يسارعون في تبني الشدة، وافتراض الأسوأ، وتقديم سوء الظن، ولديهم تضخيم لسد الذرائع، هذه الفئة لا تبالي؛ أن يكون عامة الناس في الهلكة؛ تحت ذريعة إحقاق الحق، وإن كرهه الناس.
إذا تأملنا بعض الآيات التي توضح واجب التعامل مع العصاة. سنتعجب من توجيه الله تعالى نبيه، في كيفية التعامل مع المنافقين الذين تخلفوا عن عزوة العسرة، {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}، فأمر الله نبيه بأن: يعرض عن عقابهم، يعظهم ويخوفهم، يقول لهم في أنفسهم قولا بليغا، أي ينصحهم فيما ينه وبينهم؛ بقول بليغ؛ يدخل القلوب، ويغير الطبائع.
إن الموعظة التي تقوم على "خطاب النفس" بالكلام البليغ، القول الذي ينطلق من مصلحة النفس، و من خيرتيها.. هو النصيحة الحقيقية المؤثرة، تلك التي تضمن كلا من: الاستماع المؤثر، والعزم الأكيد على الانصياع.
في بعض الأحيان يصل الخطيب لحد التطرف في هذا المسلك، حيث يتجاهل تماما الخيرية والفضائل، ويقتصر فقط على الخلل إذا مر بخير فيهم غمطه وتجاهله حتى لا يصيبهم بالعجب والغرور، وإذا ما تعرض لخلل فيهم اشتد، وبالغ في النكير، وتعمد الإحراج، والتقريع، والتبكيت على رؤوس الأشهاد -لعل الخوف والتشديد يثنيهم، ويردعهم- هذا ليس من: الفقه، والعلم، وسياسة الناس. ليس ما أمر الله به العلماء في دعوتهم للناس، وليس ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} هنا فرق دوما بين حكم الشيء، وبين ما يقال للناس على المنبر، وبين ما يقال للمستفتي، وبين ما يقال في حلقة العلم، وبين دفتي الكتاب.
وفيما يلي أهم الاعتبارات التي تدفع الخطيب لهذا التشدد والمبالغة في التعنيف والتقريع إذا تجاوزنا حدة الطبع التي تكون سببا في الشدة على المصلين والناس، فإن سببين يظهران خلف هذا المسلك المبالغ في التقريع والتشديد على الناس:
الوصاية على المصلين: كثير من الخطباء يفرض نفسه وصيا على المصلين. فينطلق في أمره ونهية عما يراه مصلحا لحالهم؛ لا من منطلق الحد الأدنى الذي يجب عليهم: فعلا، وتركا. والوصاية من حيث المبدأ لا غبار عليها؛ إن كانت من مشفق عالم، بما يصلح الناس. لكن هذا المسلك لا يصلح في الوقت الراهن. الناس قد تفتحت أعينها على كل شيء. وبحكم الفوضى العلمية السائدة؛ أصبح قبول الناس ورجوعهم لخطيبهم أمر غير مسلم به.
بعض الخطباء يفاقم هذا الوضع المتفلت والمرجعية المهزوزة فيزيدها اهتزازا؛ بهجومه على الفتاوى الميسرة، ونقده لمن يستمع لهؤلاء المفتين. إنه بذلك يكون قد حكم على نفسة بالرفض التام من المصلين!. وبعض الخطباء يقيس الضرورة والحاجة على نفسه وقدرته على التحمل، فما يحتمله ويستطيع الإتيان به، أو يعتبر شهلا ميسرا في بلده. لا يعني بالضرورة أنه سهل ميسر بالنسبة للمصلين، أو لمن هم في غير بلدة، وغير ظروفه.
رفع سقف المطالبة: وبالتالي فافتراض أن الخطيب أعلم بما يصلح لم يعد مضمونا؛ وعليه أن يذهب إلى الحد الذي فرضه الشارع: القدر الدنى الذي يقو به الجميع. كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنت إمامهم، واقتدِ بأضعفِهم، واتَّخِذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا).
والمقصود بالاقتداء هنا طول الصلاة وقصرها، لكنه يحمل أيضا على الأمر والنهي، وهو مفهوم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ). فالتيسير مقصد من مقاصد الشريعة.
يجب أن يعلم الخطيب أن الانفعال النفسي في جماعة يزيد عنه في الانفعال النفسي الفردي. فالعقل الجماعي يميل للانفعال النفسي في كلي الاتجاهين (الفرح والغضب) زيادة عنه في الانفعال النفسي. لذلك تجد الناس تنفعل بشكل أكبر في الجماعات، منها عندما تكون منفردة أمام نفس المؤثر. فترى لمشاهدة مباراة القدم طعما في الجماعة انفعالا وهيجانا أعلى منه عندما تكون المشاهدة فردية!. كما يجب أن يعلم أن الإدراك العقلي في جماعة يقل عنه عندما يكون منفردا. وهذا ظاهر بين من خلال الواقع. وعليه يجب ان ينتبه الخطيب لأمرين في نفس الوقت. الأول: صعوبة الموضوع؛ فيتأكد انه سهل ميسر قريب من فهم الجميع بدون استثناء. والثاني: أن ينتبه لخطابه الا يكون جارحا منفرا فإن رد فعل الناس سيكون سليا جدا. وعكسه سيكون إيجابيا جدا إن كان لطيفا مبشرا إيجابيا.
الثامنة: سوء الأداء:
قد تكون الخطبة مستكملة لكل عناصر النجاح الموضوعية؛ لكنها تعجز عن الوصول للمصلين بسبب سوء الإلقاء. يقل في الخطباء من هو ماهر في الإلقاء الخطابي. وبعضهم يصل ضعفه لحد السوء الذي يعطل المصلين عن الإفادة من الخطبة. مهارات الإلقاء لها حلقة خاصة لأهميتها. لكن مظاهر الضعف في الإلقاء ترجع لثلاثة أسباب وهي:
الضعف الخِلقي: يقصد بذلك عدم مناسبة قدرات الخطيب البدنية والفسيولوجية للخطابة. وقد يكون هذا الضعف أو عدم المناسبة دائما. قد يكون الخطيب ضعيف الصوت. لا يكاد يسمع. حتى إن حاول الاستعانة بالمكبر الصوتي لا يتحسن أداؤه. وفي بعض الأحيان تختلط مخارج الحروف مع محاولة رفع الصوت إلى حد الإبهام!. وبعض الناس فيه عيوب نفسية أو مرضية في الأداء مثل التأتأة. في بعض الأحيان يكون الضعف طارئا مستديما. ناتج عن كبر السن والضعف العام. أو كأن يكون مصابا بمرض الأزمة، أو أمراض الرئة مثل: "السل". أو قد يكون عارضا مؤقتا مثل الزكام الشديد، أو التهاب القصبة الهوائية. هذه العيوب تجعل عملية الاستماع مزعجة للمصلين. وتشغل العقل بدلا من التفكر في الموضوع إلى محاولة التقاط الكلمات وفهمها بشكل أولي. خصوصا وأن المصلي يعتمد بشكل تام على السماع في التلقي. على الخطيب الذي يعاني من هذا العيب أن يتوقف عن الخطابة (مؤقتا إن كان العارض مؤقتا). وهذا العيب يحول دون أداء الخطبة على الوجه المقبول الذي تحثل به الفائدة ف حدودها الدنيا.
غياب المهارات: كل خطيب يمكنه من خلال عدة جلسات أن تتحسن لده مهارات الإلقاء (حلقة مستقلة عن المهارات). لكن الإشكال أن الخطباء معرضون عن التعلم. ولا يرون في مهاراتهم في الخطابة عيبا!.
عدم مناسبة شكل الموضوع: ما كل موضوع يصلح شكله وصياغته أن يكون خطبة جمعة لأسباب فنية، وما كل كتابة تصلح أن تلقى من فوق المنابر. كثيرا ما لا يفرق الخطيب في خطبته بين النص المكتوب الذي يقرأ، والنص المسموع. فالنص المسموع يكمن التحدي فيه بين الموازنة بين قدرة الاستيعاب وسرعة التنقل بين المواضيع. فإن كان الموضوع فقيرا والجمل مطولة فارغة والمعنى قد وصل إلى ذهن المستمع؛ ادى ذلك غلى الشعور بالملل . وإن كانت الجمل قصيرة ناقصة أو مضطربة فيما تحمله من معاني، أو تكثفت المعاني بشكل لا يمكن المستمع من التقاطها والحفاظ عليها في الذهن بما يصنع منها نسقا متكاملا شعر المصلون بالعجز والإحباط. هناك "المواضيع المشجرة". التي تتكون من تفريعات هرمية كثيرة. وفي كل فرع نقاط عديدة. وقد تكون النقاط في الفرع الأول مرتبطة موضوعيا بنقاط في الفرع الثاني.. هنا يستحيل على عقل المصلي العادي المتابعة. وقد يكون الموضوع: متسلسلا من عدد كبيرا من الأفكار التي يؤدي بعضها لبعض في نباء تصاعدي؛ بحيث عن فقد المصلي أو غفل عن فقرة فقد الموضوع بالكامل. كل هذه أمثلة لخطبة لا تصلح للإلقاء. وقد تصلح للشرح أو العرض عبر وسائط أخرى.
http://shamkhotaba.org