1- البشرية في ظلمات ثلاث
قبل نبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام بعشرات السنيين، كان الناس في هذه البسيطة -على فترة من الرسل- منقطعين عن المدد الروحي من السماء الذي هو نعمةٌ من الله على الناس جميعاً لاجتياز ظلمات المادة، فخبَط الناسُ في مآربِ الحياةِ خَبْطَ عشواء في ظلمات ثلاث: ظلمة العقائد، وظلمة القوانين البشرية، وظلمة الأنفس.
فأما ظلمةُ العقائدِ، لا يجدُ فيها الحاذقُ بصيصَ نورٍ يَهتدي به إلى هداية، أو يخلُصُ به من ضلالة، فاستبَدَّ الأحبارُ والرهبانُ بقلوب الناس وعواطفهم.
وأما ظلمةُ القوانينِ، لا يجِدُ فيها عاقلٌ ما يُعين على عدالةٍ، أو يُخرِجُ من مظلمةٍ، فاستبَدَّ العظماءُ بأموال الناس وظهورهم، فالظلمُ عندهم من شيم النفوس.
وأما ظلمةُ الأنفسِ لا يجِدُ فيها المتأمِّلُ مكاناً لرحمةٍ، أو نوراً يضيءُ ظلمةً إلا من رحم ربك.
فما زالتِ الإنسانيةُ تتخبَّطُ في هذه الظلمات الثلاث، وتنحدِرُ إلى هاويةٍ سحيقةٍ، حتى تمخَّضَتْ عن أممٍ كان مِن قسوتها وفظاعتها أن تَقتُلَ بَنيها شرَّ قِتلةٍ مخافةَ أن يشاركوهم في مأكلهم أو ملبسهم!
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إذا سَرَّكَ أنْ تَعلَمَ جهلَ العربِ، فاقرأ قول الله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 140]".
وكان من عقلها ودينها أنْ تصنع معبوديها بأيديها، ومِن مجدها التي تتغنّى به حُذّاقُها انتزاعُ الأرواح، وإيتامُ الأطفال، وإرمالُ النساء، وإثكالُ الأمهات والآباء، حتى لقد صدق قول الله فيهم: {أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
2- يخرجهم من الظلمات إلى النور
بعد هذا التخبُّطِ المقيمِ المهيمن، يبعَثُ الله الرسولَ الأمي، {نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15-16].
بَعثَهُ في الأرض، فهزَمَ كلَّ ما أمامه من الظلمات الثلاث: ظلمةِ القوانينِ وظلمةِ العقائدِ وظلمةِ الأنفس.
وما استطاعَتْ ظلمةٌ من هذه الظلمات الثلاث أن تُثاقِفَهُ أو توقِفَهُ، حتى صار لهذا الدين أنصارٌ وقادةٌ يحملونه في إحدى اليدين، وفي الأخرى يحملون الحديدَ ذا البأس الشديد، يذودون عنه الإيذاء والاعتداء، ويُخْلونَ له الطريقَ إلى القلوب والعقول، فما أجملَ الحقَّ، يَعرِضُهُ القويُّ في لينٍ! وما أجملَ القوةَ تنصُرُ الحقَّ في شجاعةٍ!
حَمَلَ هذا الدينَ رجالٌ وقادةٌ، علّمهم نبيُّهم أنْ لا يَخافَ العبدُ إلا ربه، وأنْ لا يَذِلَّ، إلا لمن ذَلَّ له كلُّ شيءٍ وخَلَقَ كلَّ شيءٍ، ولمن بيده أسبابُ الخوفِ وأسبابُ الأمنِ وحدَهُ، {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
وعلَّمهم نبيُّهم أنْ لا يتأخَّرَ عن الموت مَن طلب الحياةَ وأحبَّها، فإنّ مَن رغبَ في الموت وُهِبَتْ له الحياةُ، قال أبو بكر رضي الله عنه: "احرِصْ على الموت توهَبْ لك الحياة".
كانوا يُقدِمون على الموت إقدامَ مَن ليست حياتُهُ ملكاً له، فأخذوا بنواصي الأكاسرة، وهامات القياصرة، وذروا الترابَ على وجوه الطغاة، الذين طالما جرّعوا الإنسانَ جُرَعَ الذلِّ والهوان، وأذاقوه غَصَصَ الخسفِ والاستبدادِ.
قال تعالى في القرآن الكريم: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140].
وقال أيضاً: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
يخطئ كثيراً مَن يظنُّ أنّ هزائمَ المسلمين في عصرهم الحاضر كانت بِدْعاً في تاريخهم الطويل، كلا فالأمرُ ليس كذلك، بل إنّ أمرَ المسلمين قد يعلو تارةً، ويهبِطُ تارةً، بمقدار قربهم من ربهم وتحقيقهم لأمره في أنفسهم.
لذا فقد هبَطَ أمرُ المسلمين وذلّوا في قرونٍ مضت، حتى اغتُصِبَ الحجرُ الأسودُ بضعَ سنيين، فما عاد إلى موضعه: إلا بعد لؤى وشدائد.
ولكنّ هذا التاريخَ الذي هبط بالمسلمين سرعان ما علا وارتفع، وهكذا أصبح تاريخ المسلمين يتأرجح بين مدٍّ وجزْرٍ، في صورة حقيقيةٍ لا ينكرها إلا غرٌّ مكابرٌ.
3- أممٌ لم تبصر النور ولو ادعته
إنّ أهلَ الكفر هم أبعدُ الناسِ عن العدالة، وأنأى الناس عن الرحمة، وإن زعموا العدلَ في محاكمهم الدولية، لقد صار غبياً عندهم من يحاول أن ينال حقَّهُ باسم العدالة أو الرحمة الدولية، أو القوانين الخاصة أو العامة أو باسم المدنية والإنسانية، وصار المغبونُ حقاً، هو ذلك الضعيفُ المهزولُ، الجاثي على ركبتيه المهزولتين، أمام تلك القوى الكافرة الظالمة، يستجديها حقَّهُ، ويسألُها إنصافَهُ ويطلُبُ إليها بمدمَعه لا بمدفعه، أنْ يمسح الدمَ عن أظافيره الدامية، ويُطهِّرَ فمَهُ من لحوم الضعفاء الأبرياء، ويناديه باسم المدنيّة، وباسم الحقوق الإنسانية، فصار لا يوجد العدل إلا حيث يوجد الجور، ولا يوجد السِّلمُ إلا حيث توجد الحرب، وصارت القوى الكافرة الظالمة، لا تَذكُرُ العدالةَ ولا الحقوق الإنسانية إلا إذا تحدثوا إلى الأقوياء الباطشين أمثالِهم، أما الضعيفُ العاجزُ عن المدافعة، فما له عندهم إلا البؤس والشقاء!
إنّ الإرهاصاتِ المتتابعةِ، التي أذكاها أهلُ الكفر والشرك لم تذهب سدىً، فنحن نرى بين الفينة والأخرى نفوساً ضعيفةً، وأقلاماً مأجورةً، ترعرعت في كنف الكفر، فأخَذَتْ تبُّثُّ دعاياتٍ مضلِّلةً، مفادُها هدمُ ركنٍ ركينٍ، وأصلٍ أصيلٍ من أصول الإسلام، ألا وهو ركن الولاء والبراء، الولاء للمؤمنين، والبراء من الكافرين، الولاء والبراء الذي هو من لوازم كلمة التوحيد، ذلك اللازم المؤكد في قول الله عز وجل: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28].
وفي مثل قوله: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].
4- الدين عند الله الإسلام
هذا الركنُ الركينُ والحصينُ، مالَتْ فيه نفوسٌ ضعيفةٌ، اجتالتها الشياطين عن فطرة التوحيد، مالَتْ بهم إلى نبذه من واقع حياتهم، فيما يسمّونه بالعالمية، أو زمالةِ الأديانِ أو التطبيعِ بين الكفر والإسلام، ومعنى تلك المسميات كلِّها، هو: توسيعُ دائرةِ الولاءِ، بحيث يدخُلُ فيها كلُّ الأقوامِ والأديان والأوطان، حتى يصبحَ المسلمُ لا يشعُرُ بالفارق بينه وبين غيره من الكفار في بقاع الأرض، وقد يطغى على هذا المبدأ ألفاظٌ براقةٌ خادعةٌ كالحرية والإخاء، والعدل والمساواة، وبذلك يُطمَسُ الولاءُ والبراءُ، وتُقصَمُ ذروةُ سنام الإسلام، وهي الجهاد في سبيل الله، وقد ذمَّ الله هذا الصنيع وحذّر منه بقوله: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف: 86].
إنّ شعوباً لا تعرف إلا الله لن يَغلبَها مَن لا يعرف الله، وإنّ مَن لا يعرف إلا الحقَّ لن يَغلبَهُ مَن لا يعرف إلا الباطل؛ فجندُ الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف واللسان.
ولن يخلوَ زمانٌ أو مكانٌ من تلك المعركة الضارية، غير أنّ النورَ الذي حمله رسولُ الله ليضيء الدنيا لن ينطفئ أبداً، بل هو باقٍ خالدٌ في أيدي المسلمين، يحملونه
إلى البشرية ليضيء الدنيا مرةً أخرى بأمرٍ من الله، ويوحِدَ الكلمة، ويجمعَ الشتات، وإن للمسلمين في وعد ربهم، ما يشد عزائمهم للثبات على دينهم، قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي امر الله وهم على ذلك).
قال ابن كثير: "أي يظهر على سائر الأديان"، كما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله زوى لي الأرضَ، فرأيت مشارقَها ومغاربَها، وإنّ ملكَ أمتي سيبلغ مازوي لي منها).
فليعلم الذين يقصون شرع الله من واقع حياتهم، أو يخرجون جانباً من جوانب الإسلام، في سياسةٍ أو حكمٍ أو اقتصادٍ أو ما شابه ذلك، ليعلموا أنّ ركبَ الإسلام سائرٌ بإذن الله، وأنّ الله سيبلِّغُ هذا الدينَ ما بلَغَ الليلُ والنهارُ، ولن يدَعَ اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله هذا الدينَ بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليلٍ، عزاً يُعِزُّ به الإسلامَ، وذلاً يُذِلُّ به الكفرَ.