مقدمة:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي: "لو أنني سُئلتُ أن أُجْمِلَ فلسفةَ الدين الإسلامي كلها في لفظين، لقلتُ: إنها: ثبات الأخلاق؛ ولو سُئل أكبر فلاسفة الدنيا أنْ يوجز علاج الإنسانية كله في حرفين، لما زاد على القول: إنه ثباتُ الأخلاق"
تلكم هي المدرسة التي انبثقت من سلسلة الأخلاق الفاضلة التي شملت الحياةَ كلَّها، والتي كانت منطلقَ الدعوةِ إلى الله تعالى؛ فكم من بعيدٍ اقترب بالأخلاق، وكم من شاردٍ رجع بعد أن تعرّف على مشكاة التخلُّق وما انبثق منها من أنوار، وكم قوّم فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم اعوجاج الجاهلية رغم ما كانوا يحملونه من بقية أخلاق.
وإننا لنعيش اليوم حالةً من الفوضى الأخلاقية والشَّتات السلوكي بسبب بعدنا عن مصدر الأخلاق، وما عُدنا نراها واقعاً عملياً إلا كدُرّةٍ نادرةٍ يَحتفِظُ بها بعضُ المنضبطين بتعاليم تلك المدرسة.
وما الخُطَبُ والحديثُ عن الأخلاق سوى إشاراتٍ تدُلُّ على الطريق وتذكّر بالقيم، وإنا حين نشعر بأزمتنا التربوية ومشكلتنا الأخلاقية وحاجتنا الملحة إلى التأديب والتهذيب عندئذ نضع أقدامنا على بداية الطريق.
1- لماذا الأخلاق؟
لأنها الغاية من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال: (إنما بعثت لأتمم صالحَ الأخلاق)، وفي رواية: (حُسْنَ الأخلاق).
والباري تبارك وتعالى أرسله رحمةً للعالمين فقال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: ١٠٧].
ولعلّ الرابطَ بين الآية والحديث هو تنقيةُ المجتمعِ من الرذائل، وتحليتُهُ بالفضائل.
تخيّلْ مجتمعاً تسودُهُ الخيانةُ والفواحشُ والغشُّ والخداع والاحتكار، فهل فيه شيءٌ من الرحمة؟
فإذاً لا رحمةَ للعالمين إلا بالأخلاق.
أولى الإسلامُ عنايةً بالأخلاق واهتماماً بالسلوك المنضبط لمعالجة الانفصال الشديد بين الأخلاق والعبادات.
فإنك لترى إنساناً بغاية الانضباط في المسجد بصلاته وركوعه وسجوده، وهو إنسانٌ آخر في عمله ومعاملته مع الناس!
ولسانُ حالِهِ عندما يُشارُ إليه بالبنان: هل هذا نفسه فلان؟ يقول: لا يهم، فالعبادات على ما يرام، والدينُ داخلَ المسجدِ، أما الحياةُ فهي من خصوصياتي وأعمل لها ما أريد!
كم نعاني من هذا النموذج المشوه!؟ يُغري الناسَ بعبادته ويَفتنهم بسوء خلقه.
أما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: (من لا يأمن جارُهُ بوائقَهُ).
ذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأةٌ تُذكَرُ بكثرة صلاتها وصيامها وزكاتها، غير أنها تؤذي جيرانها فقال: (هي في النار).
وبالمقابل ذُكِرَ له فلانةٌ قليلة الصيام والصلاة والزكاة، ولكنها لا تؤذي جيرانها فقال: (هي في الجنة).
دينُ الله تعالى كلٌّ لا يتجزأ: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} [البقرة: 208].
فالعبادات قسمان شعائرية وتعاملية، لا يقبل الله واحدةً دون أخرى.
2- المربي الأعظم
لو أنّ إنساناً تخيّرَ ملةً ما اختار إلا دينَك الفقراءُ
المصلحون أصابعُ جُمعَتْ يداً هي أنت بل أنت اليدُ البيضاءُ
زانَتْكَ في الخُلُقِ العظيمِ شمائلُ يُغرى بهنّ ويُولَعُ الكرماءُ
فإذا سخوتَ بلغتَ بالجود المدى وفَعَلْتَ ما لا تَفعلِ الأنواءُ
وإذا رحمتَ فأنت أمٌّ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماءُ
مدح الله حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وأتى بحرف الجر "على" الذي يفيد الاستعلاء، وكأنّ الحبيبَ قد تربع على عرش الخلق الحسن.
وقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21].
وأتى هنا بحرف الجر "في" الذي يفيد الظرفية، أي أنّ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملةٌ بكلِّ تفاصيلها هي أسوةٌ لمتبعيه ومَنِ اقتفى أثره، فهو الشخص الوحيد على وجه الأرض الذي يستطيع كلُّ إنسانٍ أن يقتدي به.
فقد عاش صلى الله عليه وسلم الأحوال كلَّها، عاش الفقر لا يوقد في بيته نارٌ الهلالَ والهلالان، وإنماطعامه الأسودان؛ وعاش الغنى تأتيه غنمٌ تسُدُّ ما بين جبلين فينفقها في سبيل الله؛ عاش حالة القوة، وعاش حالة الضعف؛ عاش حالة الحاكمية بالمدينة، وعاش حالة المحكومية بمكة؛ عاش العزوبية وعاش الزواج؛ حياتُهُ قدوةٌ للعالمين، وإنّ من حسنِ حظِّنا أنَّ حياة الحبيبِ صلى الله عليه وسلم جاءت واضحةً كالشمس في رائعة النهار لا تشوبها شائبةٌ.
كلُّ سطرٍ في حياته كتابُ هدى تقرؤه الأممُ والأجيالُ فتشرقُ أيامهم بنوره، وها نحن الآن على موائده في حديثنا عن الأخلاق.
فقد كان مشكاةَ الأخلاقِ ومصدرَ انبعاثِها واستقرارِها في قلوب أصحابه، حتى كانوا منابعَ هدى ملكوا أعلى مستوى من التربية الأخلاقية.
3- خصائص التربية الأخلاقية
الأخلاق في شريعتنا تشمل جميع جوانب الحياة: علاقة الإنسان مع ربه، ومع الناس، ومع زوجه وأولاده ووالديه، في بيته وفي عمله، في خلواته وجلواته، في البيع والشراء والسلم والحرب والظاهر والباطن؛ ولكل هذه الجوانب أخلاقٌ تدعو المسلم إلى التميز بالسلوك الفاضل في جميع مجالات الحياة وبصورة متكاملة.
الأخلاق في شريعتنا متوازنة لا تغلِّبُ جانباً على حساب آخر.
وحينما نستعرض حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم نجد أثر التوازن البالغ فيها، فهو نفسه صلى الله عليه وسلم من يعطي للسيدة عائشة رضي الله عنها حقَّ الراحةِ حينما يسابقُها فتسبقه ثم يسبقها ويقول مازحاً: (هذه بتلك يا عائشة).
وهو هو الذي يبكي بين يدي ربه ولصدره أزيزٌ كأزيز المرجل؛ وهو ذاته الذي يقول عنه عليٌّ رضي الله عنه: "كنا إذا حمي الوطيسُ اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم".
وهو الذي يقول لمعاذ رضي الله عنه: (والله إني لأحبك يا معاذ).
ويقول للحِبِّ ابن الحِب مغضباً: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟).
فالأخلاق مع تكاملها متوازنةٌ، تدعو إلى العزة والتواضع، وإلى الانتصار والعفو.
كرمٌ بغير إسرافٍ ولا بخلٍ، وشجاعةٌ من غير تهوُّرٍ ولا جبنٍ، ولينٌ في غير ضعفٍ؛ بذلك تتكوّن معالم الشخصية الإسلامية ذات الأخلاق المتوازنة.
4- الضمير الأخلاقي
لقد أودع الله تعالى في فطرة الإنسان ما تدرك به فضائل الأخلاق ورذائلها، إنه "الحسّ الأخلاقي"، وبه يستحسنون الفعل الحسن ويرتاحون إليه ويمدحون فاعله، ويستقبحون الفعل القبيح وينفرون منه ويذمون فاعله.
وإليه أشار الله عز وجل بقوله: {ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها} [الشمس: 7-10].
5- طرق تحصيل الأخلاق الحسنة
• الدعاء والالتجاء إلى الله: بتغيير أخلاقنا إلى أحسنها ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم كما حسنت خَلقي فحسن خُلقي).
• التدريب العملي والممارسة التطبيقية: ولو مع التكلف في أول الأمر (ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبّر يصبره الله).
• الغمس في البيئة الصالحة: واحذر مجالسة السفيه فإنه يعدي كما يعدي الصحيحَ الأجربُ؛ لذا قيل: "إنّ الطبع للطبع يسرق".
وما أجملَ تشبيهِ المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الجليس الصالح كحامل المسك، إما أن تبتاع منه أو يحذيك، أو تجد من ريحاً طيبة).
http://shamkhotaba.org