الباحث:
مقدمة:
الإنسان مخلوق سريع الانفعال شديد التأثر، وأكثر ما يؤثر فيه الكلمة الناصعة البيان، فهي أمضى من السيف وأفرى من الحسام، ولهذا كان القادة وأولي الأمر على مر الزمان يعدون عدة الحرب فيبترونها بإمضاء سيف الكلمة.
عبر العصور المتعاقبة استفادت الأمم من الخطبة لاستنهاض الهمم، فكانت خير محفز وأنجع محرض، إذ ينبري الخطباء المفوهون والنجباء المتكلمون فيرفعون ويخفضون، فتتحرك مع حروفهم المشاعر، ومع كلماتهم الأحاسيس.
وكحال أي أمة لم تغفل أمة الإسلام من قدر الخطبة الحربية، بل أضفت عليه صفة دينية، بل وجعل منها سنة متبوعة وهدي مشروع، بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذه عنه ناشروا الدين.
إذ للخطابة دور كبير وحظ وفير في تشجيع المجاهدين على القتال وتحفيز المقاتلين على الصبر والمجالدة، لذلك استغلها النبي في غزواته، ومن ذلك خطبته في غزوة بدر التي كان لها أعظم الأثر والدور الأكبر، حيث خَرَجَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلَى النَّاسِ فَحَرَّضَهُمْ، وَقَالَ: (وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يُقَاتِلُهُمْ الْيَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، إلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ)، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، وَفِي يَدِهِ تَمَرَاتٍ يَأْكُلُهُنَّ: بَخْ بَخْ ، أَفَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا أَنْ يَقْتُلَنِي هَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَذَفَ التَّمَرَاتِ مِنْ يَدِهِ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ.
واليوم لم تزل الأمم القوية تستفيد من الخاطبة في المعارك وتستنهض الشعوب لما يحقق لها المصالح، بينما تبقى الأمم الهزيلة تتجرع كأس التخبط فهي مهزومة نفسياً منحطة خطابياً غير قادرة على أن تبدع كلمة تغير مساراً أو تحقق هدفاً.
ومن ذلك خطبة عبد الله بن طاهر، إذ خطب الناس وقد تيسر لقتال الخوارج؛ فقال: "إنكم فئة الله المجاهدون عن حقه، الذابّون عن دينه، الذائدون عن محارمه، الداعون إلى ما أمر به من الاعتصام بحبله، والطاعة لولاة أمره، الذين جعلهم رعاة الدين، ونظام المسلمين فاستنجزوا موعود الله ونصره بمجاهدة عدوّه وأهل معصيته، الذين أشروا وتمردوا وشقوا العصا، وفارقوا الجماعة، ومرقوا من الدين، وسعوا في الأرض فسادا، فإنه يقول تبارك وتعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، فليكن الصبر معقلكم الذي إليه تلجئون، وعدتكم التي تستظهرون؛ فإنه الوزر المنيع الذي دلكم الله عليه، والجنة الحصينة التي أمركم الله بلباسها؛ غضوا أبصاركم، وأخفتوا أصواتكم في مصافّكم، وامضوا قدما على بصائركم، فارغين إلى ذكر الله والاستعانة به كما أمركم الله؛ فإنه عزو جل يقول: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [الأنفال: 45]، أيدكم الله بعز الصبر، ووليكم بالحياطة والنصر".
المنبر والربيع المعاصر:
أعني بالربيع المعاصر هو تلك الحركات الثائرة التي نهضت ضد أنظمة الطاغوت وأشكال الجبروت، على شكل سلمي تحول في كثير من البلدان إلى مسلح، على أننا في ضربيه لا نستطيع إلا أن نجزم بكونه ضرباً من ضروب الجهاد المشروع، لقد شغل المنبر في كثير من الأحيان دور الشرارة التي تشعل فتحرك وتستنهض الهمم للنهوض والانتفاض، ولا أدل على هذا من أن أغلب الحركات التحريرية كانت تنطلق من المساجد بعد خطب الجمعة، وصار يوم الجمعة هو يوم الثورة الدوري عموماً.
ليس هذا فحسب، بل كان المنبر مقود التوجيه والقيادة الثورية، يأخذ عنه المتظاهرون ما يرشدهم للحق، لكونه الأداة التي تصوغ لهم أهدافهم على شكل شرعي علمي موزون، لذا فقد امتلأت ساحات التظاهر بمنابر الجهاد، تصدع بخطب عصماء وقصائد بديعة تلهب الحماسة وترشد الضال وتهدي الضائع.. ولا أزال أذكر كلمة أحد زعماء دعاة الشرعية في مصر المحروسة وهو يقول: "ثورتنا سلمية.. سلميتنا أقوى من الرصاص".
نعم.. في كثير من الأحيان لا يرتقي المنبر لأن يحاكي نبض الشارع ومتطلباته، وهذا نتيجة لتخاذل أربابه وتهاون في فهم رسالته ومعرفة حقيقتها، إلا أن تلك البدائل التي أبدعها الربيع الجهادي أدت شيئاً من ذلك الدور الذي قصر فيه الكثيرون.
ليبقى المنبر المتطرف والمغلي في فهم الشريعة أكبر مساوئ منبر لكفاح اليوم، وذلك مرده إلى غياب ضوابط لشريعة عموماً وقصور في فهم تطورات الحال ومقتضياته، حيث استطاع بعض الأغرار حرف مسار التحرر نحو أهداف وغايات غير مدروسة خداعة برونق شعاراتها.
أساليب الخطابة الحربية:
وسأذكر هنا بعضاً من الأساليب التي كان الخطباء يستفيدون منها إلهاباً لحماسة المجاهدين:
التحفيز: لا يخفى ما لهذا الأسلوب من دور في تحريك المقال نحو الوجهة التي يريدها الخطيب، من خلال الترغيب بالقتال، والتحفيز على الجهاد، بإلقاء خطب عصماء تذكر فضل القتال في سبيل الله، وما يتبعه من عظيم نتائج، فبه ترفع راية الإسلام، وتعلو كلمة الدين.
ولا بأس بأن يذكر الخطيب ما أعده الله للمجاهد من أجر في الدارين، فالجنة تتزين والحور تتهيأ لمن قُتل في سبيل الله، أو قَتَلَ من يقاتل في سبيل الطاغوت، وأن من قتل فهو شهيد ومن قاتل فهو منصور من الله العزيز الحميد، ليلون الخطيب مندوحاته بالآيات الكريمة المصدقة لحسن ما قال، فيزرع ذلك في قلب السامع روح الحماس ويذكي جمرة الغضب على من يعرقل طريق الدعوة
ومثال ذلك خطبة المنصور في سنة (674هـ)، التي كانت فيها موقعة الدونونية، حيث التقى جيش المسلمين المكون من عشرة آلاف مقاتل بقيادة المنصور المريني رحمه الله بجيش قوامه تسعون ألفاً من الصليبيين، وعلى رأسهم (دون ننيو ديلارا) وهو من أكبر قواد مملكة قشتالة.. فخطب المنصور الناس وأخذ يحفّزهم على القتال ويرغبهم بما عند الله، فكان مما قاله في هذه الخطبة الشهيرة: "ألا وإن الجنة قد فتحت لكم أبوابها، وزينت سورها وأترابها، فبادروا إليها وجدوا في طلابها، وابذلوا النفوس في أفنانها، ألا وإن الجنة تحت ظلال السيوف، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، فاغتنموا هذه التجارة الرابحة، وسارعوا إلى الجنة بالأعمال الصالحة، فمن مات منكم مات شهيداً، ومن عاش رجع إلى أهله سالماً غانماً مأجوراً حميداً، فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون".
فعانق الناس بعضهم بعضاً للوداع وبكوا جميعاً، فانفض غبار المعركة وقد فتح الله على المسلمين ونصرهم نصراً مؤزراً بحمده ومنه، وكانت نتيجتها أن قُتل من النصارى ستة آلاف من بينهم قائدهم (دون ننيو) وأُسر ثمانية آلاف، وغنم المسلمون غنائم هائلة ثم وصل الجيش المسلم فحاصر اشبيلية حتى أخذ الجزية من أهلها، وفتح جيان ، ومثله تبشير النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بقصور الشام والعراق رفعاً للمعنويات ساعة حفر الخندق.
ومثلها خطبة لأبي سفيان رضي الله عنه يوم اليرموك، حيث كان يقف على الكراديس ، فيقول: "الله الله، إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل النصر على عبادك".
التخويف: كثيراً ما كان الخطباء قبل أو في أثناء المعارك يهولون من أمر الهزيمة لو حلت، ويخوفون جندهم من مصيبتها إن نزلت، ويتوعدون بالخزي والعار في الدنيا أبد الدهر، وغضب الرب والنار.. ومن ذلك أن قتيبة بن مسلم رحمه الله أثناء حصار السغد بلغه أن ملك الشاش وإخشاذ فرغان وخاقان، قد جهزوا جيوشاً للقائه، وأجمعوا أن يبيتوا عسكره فخطب أصحابه فقال: "إن عدوكم قد رأوا بلاء الله عندكم، وتأييده إياكم في مزاحفتكم ومكاثرتكم، كل ذلك يفلجكم الله عليهم، فأجمعوا على أن يحتالوا غرتكم وبياتكم، واختاروا دهاقينهم وملوكهم، وأنتم دهاقين العرب وفرسانهم، وقد فضلكم الله بدينه، فأبلوا الله بلاء حسنا تستوجبون به الثواب، مع الذب عن أحسابكم".
قال أحد قادة جيش قتيبة: "فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا الشريد، وأقمنا نحوي الأسلاب ونحتز الرؤوس حتى أصبحنا، ثم أقبلنا إلى العسكر، فلم أر جماعة قط جاءوا بمثل ما جئنا به، ما منا رجل إلا معلق رأسا معروفا باسمه، وأسير في وثاقه".
الإغراء: فيقوم الخطيب بكلماته ليصف حسن الانتصار وما يتبعه من لذة، وما يزخر بها جانب العدو من غنائم نفيسة وحور أنيسة وجواهر متاع..
ومن صوره خطبة خالد بن الوليد في معركة الولجة ، بين المسلمين والفرس، فلما التقى الجمعان اقْتَتَلُوا بِهَا قِتَالا شَدِيدًا، حَتَّى ظَنَّ الْفَرِيقَانِ أن الصبر قد فرغ، وَاسْتَبْطَأَ خَالِدٌ كَمِينَهُ، وَكَانَ قَدْ وَضَعَ لَهُمْ كَمِيناً فِي نَاحِيَتَيْنِ، عَلَيْهِمْ بُسْرُ بْنُ أَبِي رُهْمٍ وَسَعِيدُ بْنُ مُرَّةَ الْعِجْلِيُّ، فَخَرَجَ الْكَمِينُ فِي وَجْهَيْنِ، فَانْهَزَمَتْ صُفُوفُ الأَعَاجِمِ وَوَلَّوْا، فَأَخَذَهُمْ خَالِدٌ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَالْكَمِينُ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَلَمْ يَرَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مَقْتَلَ صَاحِبِهِ، وَمَضَى الأندرزغرُ فِي هَزِيمَتِهِ، فَمَاتَ عَطَشًا، وَقَامَ خَالِدٌ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَرَغَّبَهُمْ فِي بِلَادِ الْأَعَاجِمِ وَزَهَّدَهُمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وقال: "ألا ترون ما هاهنا مِنَ الْأَطْعِمَاتِ؟ وباللَّه لَوْ لَمْ يَلْزَمْنَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالدُّعَاءُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا الْمَعَاشُ لَكَانَ الرَّأْيُ أَنْ نُقَاتِلَ عَلَى هَذَا الرِّيفِ حَتَّى نَكُونَ أَوْلَى بِهِ، وَنُوَلِّيَ الْجُوعَ وَالْإِقْلَالَ مَنْ تَوَلَّاهُ مِمَّنِ اثَّاقَلَ عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ".
وهذا الكلام يشحذ الهمم ويقوي العزم ويحيي القلب ويفجر الطاقات، فتنطلق بعد ذلك النفوس المؤمنة مجاهدة في سبيل الله تعالى بكل طاقاتها وإمكاناتها وقدراتها.
التعنيف والتقريع: إذ أحسن الخطيب من جانب الجند الخور والضعف، أو شعر فيهم وهناً وعجزاً قد يؤدي إلى نتائج غير مرجوة، بادر إلى الإنذار والوعيد، والتخويف والتهديد، بإنزال العقوبة والتنكيل بالمتهاونين والمفرطين.
ومن ذلك ما حدث في معركة الحرة، حيث كان يقود جيش يزيد في هجومه على المدينة المنورة مسلم بن عقبة، فانفض عنه جنده، وقتلت جماعة من خاصته، فنهض يحرض الجيش على قتال أهل المدينة، فأخذ مسلم رايته ونادى: "يَا أهل الشام، أهذا القتال قتال قوم يريدون أن يدفعوا بِهِ عن دينهم، وأن يعزوا بِهِ نصر إمامهم! قبح اللَّه قتالكم منذ الْيَوْم! مَا أوجعه لقلبي، وأغيظه لنفسي! اما والله ما جزاؤكم عليه إلا أن تحرموا العطاء، وأن تجمروا فِي أقاصي الثغور شدوا مع هَذِهِ الراية، ترح اللَّه وجوهكم إن لم تعتبوا!"، فمشى برايته، وشدت تِلَكَ الرجال أمام الراية، فصرع الفضل بن عباس، فقتل وما بينه وبين اطناب مسلم بن عقبه الا نحو من عشر أذرع، وقتل مَعَهُ زَيْد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف، وقتل معه ابراهيم ابن نعيم العدوي، فِي رجال من أهل الْمَدِينَة كثير وانتصر جيش يزيد في نهاية الأمر واستباح المدينة.
وقد استفاد المسلمون من المنبر زيادة في تحفيز الجند وتحريضهم بعرض خططهم للقاء أعدائهم، فلربما ضمّن القائد خطبته خطة المعركة الواجب على أتباعه اتباعها، ومن خطبة المستور بن علفة الخارجي التي جاء فيها: "وإني قَدْ نظرت فِيمَا استشرتكم فِيهِ فرأيت ألا أقيم لهم حتى يقدموا علي وهم جامون متوافرون، ولكن رأيت أن أسير حَتَّى أمعن، فإنهم إذا بلغهم ذَلِكَ خرجوا فِي طلبنا، فتقطعوا وتبددوا، فعلى تِلَكَ الحال ينبغي لنا قتالهم، فاخرجوا بنا عَلَى اسم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ".
الإرشاد والتوجيه والنصح: فقد كانت الخطب تحفل بنصائح للجند تحضهم على التمسك بكتاب الله وشرعه وعدم التهاون في تطبيقه، ومن صور ذلك أنه عندما تدفقت الجيوش العثمانية تقتحم القسطنطينية، تقدم الشيخ آق شمس الدين إلى السلطان الفاتح وجنده المنصورين ليذكرهم بشريعة الله في الحرب وبحقوق الأمم المفتوحة كما هي في الشريعة الاسلامية، فخطبهم قائلاً: "يا جنود الإسلام، اعلموا واذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأنكم: (لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ) ، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويغفر لنا، ألا لا تسرفوا في ما أصبتم من أموال الغنيمة، ولا تبذروا وأنفقوها في البر والخير لأهل هذه المدينة، واسمعوا لسلطانكم وأطيعوه وأحبوه".
ثم التفت الى الفاتح وقال له: "يا سلطاني، لقد أصبحت قرة عين آل عثمان فكن على الدوام مجاهداً في سبيل الله، ثم صاح مكبراً بالله في صوت جهوري جليد".
http://shamkhotaba.org