الثبات الثبات في شهر التضحيات
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 16 مايو 2019 م
عدد الزيارات : 1854
مقدمة:
إنّ شهر رمضان فيه كلّ معالم الخير والإحسان والإيثار، وفيه كلّ معاني التّضحية والثبات والانتصار، فهو شهرٌ ينتصر فيه المسلم على شهوات النّفس والأنانيّة، فيكون أقرب إلى الله بالطّاعات والعبادات، وأقرب إلى خلق الله بالمبرّات والهبات والمسرّات، فيجمع فيه بين حقّ الله تعالى في الطّاعة والعبادة، وبين حقّ أخيه في الإحسان والمساعدة والمودّة.
إنّه شهر التّغيّر إلى الخير في حياة المسلم، فهو يصوم نهاره ويقوم ليله، ويبذل المال للفقراء والمحتاجين، ويجود بالدّم والنّفس والرّوح في سبيل الله ربّ العالمين، إنّه شهرٌ تتجلّى فيه حقائق وأخلاق وأحكام القرآن كلّها، لأنّه كما قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
1- تجدّد الآلام.. على أهل الشّام.. في شهر الصّيام
أيّها المؤمنون: لقد مرّ بهذه الأمّة عبر شهور رمضان مسرّاتٌ كثيرةٌ وامتحاناتٌ متنوّعةٌ، فكانت الأمّة كالذّهب الخالص كلّما عُرض على النّار زاد بريقه ونوره وسناه، وهكذا أمّة رمضان أمّة القرآن مهما اشتدّت بها الخطوب ونزلت بساحتها الكروب واجتمعت عليه الحروب، كانت أقوى وأتقى وأبقى كما قال الله فيها: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
وها نحن اليوم في عموم المحرّر من أرض الشام المباركة، نرى ونشهد إخواننا وأهلنا يعيشون أصنافاً من الآلام والخطوب، وصنوفاً من الكروب والحروب، لو نزلت بالجبال لتصدّعت، ولو عصفت بالصّخور لتهدّمت، قصفاً لمنازلهم وتشريداً لعوائلهم ونزفاً لدمائهم وأسراً لأبنائهم، اجتمع عليهم حرّ الصيف وقيظه، وقسوة الحرب وغلظته، تكالب عليهم الأعداء بكلّ قوّتهم بالطّائرات والرّاجمات والمدفعيّات، وجاؤوهم بقضّهم وقضيضهم، وحدّهم وحديدهم، وشعارهم الخبيث النّجس: (دمّروا الإسلام، وأبيدوا أهله)، فصار حال إخوتنا كحال أصحاب نبيّنا صلى الله عليه وسلم يوم الخندق: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10-11].
خُطُوبٌ لا تُشَابِهُهَا خُطُوبُ     وَكَرْبٌ لا يُمَاثِلُهُ كُرُوبُ
وَأَضْلاعٌ سَرَى فِيهَا الْتِيَاعٌ تَكَادُ لِهَوْلِ رَهْبَتِهِ تَذُوبُ
معاشر المؤمنين: في زمن الشّدائد تظهر معادن الرّجال، وفي أيام المحن تتجلّى حقائق الإيمان، كما قال الله سبحانه: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
وإنّه ولله الحمد والمنّة قد أثبتّم يا أهل الشّام في المحرّر أنّكم رجالٌ في جبهات الجهاد والقتال، ورجالٌ في ساحات البرّ والجود والإحسان، تنشدون ما عند الله من الأجر والثّواب، وتطمعون في الوصول إلى أعلى المنازل يوم الحساب، ويصدق فيكم قول نبيّكم صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مَثَلَ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ، لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَوْ آخِرُهُ). مسند الإمام أحمد: 12327
وحقّقتم مدح رسولكم في شامكم: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ دِمَشْقَ وَمَا حَوْلَهُ، وَعَلَى أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ، لَا يَضُرُّهُمْ خِذْلَانُ مَنْ خَذَلَهُمْ، ظَاهِرِينَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ). المعجم الأوسط للطّبراني: 47
صدق فيكم قول الشّاعر:
عُبّادُ ليلٍ إذا جنَّ الظّلام بهم    كم عــابدٍ دمعه في الخدّ أجـــراهُ
وأُسْدُ غابٍ إذا نادى الجهاد بهم    هبّوا إلى الموت يستجدون لقياهُ
وإنّنا معاشر المسلمين حريٌّ بنا أن نغتنم هذا الشّهر المبارك شهر رمضان، فثواب الأعمال في مضاعَفةٌ، والأجور فيه متزايدةٌ، ومنادٍ ينادي من قبل ربّ البريّة: "يا باغي الخير أقبل"، نعم أنت المقصود يا ابن الشّام الحرّ البارّ، أنت المقصود اليوم بهذا النّداء، فالبلاء في أهلنا قد زاد، والعدوّ اجتمع علينا من كلّ واد، ورمونا عن قوسٍ واحدةٍ، ومرادهم ليس فصيلٌ أو كتيبةٌ، بل مرادهم قتل أهل السّنة والجماعة، والقضاء على التّوحيد والعقيدة، لذا وجب النّفير العامّ؛ على جبهات القتال والجهاد، وفي ساحات البذل والجود والعطاء، ذلك امتثالاً لأمر الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
2- الثّبات الثّبات على كلّ الجبهات
أيّها المؤمنون: يظنّ المرجفون والمثبّطون أنّ ما ينزل بنا من أهوال وطامّات، وما يُحاك علينا من مؤامراتٍ وخيانات، أنّ ذلك سيُضعف عزيمتنا ويكسر قوّتنا ويحني ظهورنا، وما علموا أنّنا أمّةٌ لا تعرف الخضوع إلّا لله ولا تحني الجبهات إلّا لله ولا تنتصر إلّا بالله، وما علموا أنّنا أمّةٌ متمسّكةٌ بنداء ربّها: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
وأنّها أمّةٌ تردّد بلسان حال المجاهدين على الجبهات:
أنا لا أستقيل ولا أقيل وأقول ما قالت الأسودُ    أنا من كنانة سيّد الثّقلين صاروخٌ جديدُ
لا ينقص الأجل المسمّى بالكتاب ولا يزيدوا    أنا المحمّـديّ إن مادت الجبال لا أميدُ
فحيّا الله المجاهدين على الجبهات في شهر الثّبات والتّضحيات.
اعلموا يا أهل الثّبات أنّ لأمّتنا في هذا الشّهر العظيم تاريخٌ مجيدٌ من الانتصارات والفتوحات، ففيه كانت معركة بدرٍ الكبرى فصلت بين معسكر المشركين ومعسكر المسلمين فكان {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ}، وكان في شهر رمضان فتح مكّة ودخول رايات التّوحيد إلى بيت الله في الكعبة.
دخلتَ مكّة والرّايات خافقةٌ    لو شئتَ أسلمتها للحرّق والعدمِ
عفوتَ لمّا رأيتَ العين دامعةً    أخٌ كريمٌ وأذروا عبرة النّدمِ
يا منقذ الكون من جهلٍ أحاط به    لولا الهداية ما ثرنا على الصّنمِ  
وكذا انهزمت جحافل التّتار في شهر رمضان أمام المظفّر أسد الله قظز رحمه الله في معركة عين جالوت، فهُزموا شرّ هزيمةٍ، فما ترى لهم من باقية، واليوم إخوانكم المجاهدون يسطّرون معالم البطولة والفداء، ويقفون مواقف الرّجولة والكبرياء، في ريف حماة والغاب وإدلب، فالله الله في مؤازرتهم والوقوف معهم والدّعاء لهم، فهم على الجبهات بسلاحهم وأنتم في السّجدات بدعواتكم، ولا تحقرنّ ما تقدّموه، فإنّ الخوافي قوّةٌ للقوادم.
ومن هنا نبثّ رسائل لا بدّ منها في هذه السّاعات الحرجة والظّروف القاسية:
الرّسالة الأولى: إلى المجاهدين الأبطال، رسالةٌ قرآنيّةٌ ربّانيّةٌ في شهر القرآن من الله إليكم، اسمعوها وأنصتوا لها لعلّكم تُنصرون وتَغلبون: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
أنتم اليوم على ثغرٍ عظيمٍ من ثغور الإيمان، وعلى بابٍ كبيرٍ من أبواب الجنان، ريح دمائكم أطيب من مسك رؤوس الرّؤساء، وتراب أقدامكم أشرف من ثروات الأغنياء، (فاثبتوا وأبشروا) فقد وعدكم الله إحدى الحسنين؛ إمّا الشّهادة والجنّة، أو النّصر والغلبة، قال الله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمً} [النساء: 74].
الرّسالة الثّانية: إلى الطّابور الخامس من أهل النفاق والشّقاق، المخذِّلين الّذين يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم، الّذين وهنت قلوبهم وضعفت عزائمهم وخارت قواهم، الذين يروجون للوهن والذل، هم كأسلافهم ممن قال للمؤمنين ليرهبوهم {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}.
إلى هؤلاء نقول لهم: سينجز الله وعده ويحقّق للمؤمنين نصره، وعمّا قريب سنردّد على منابر المساجد، وفي منائر المآذن وفي محراب الصّلوات قول الله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الانعام: 45].
{وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 51].
الرّسالة الثّالثة: إلى الأعداء وأبواقهم وإعلامهم، إنّكم مهما حاولتم وقتلتم منّا وشرّدتم من عوائلنا ودمّرتم من ديارنا وسلبتم من أرضنا، فكلّ هذا لن يدوم: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].
فقد مرّ التّتار من هنا ثمّ انصرموا مهزومين، ومرّ قبلكم المستعمرون ثمّ ولّوا هاربين، وما أنتم إلّا أذنابٌ لهم، ونحن على قطع الأذناب بعون الله لقادرون، لأنّ معنا القوّة الّتي لا تُقهر، ومعنا العزيمة الّتي لا تفتر، ومعنا الإيمان الّذي لا يُكسر، ومعنا سلاحنا في وجه كلّ عدوّ وغاشمٍ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
أعلمتم من نحن؟       
نحن الّذين بايعوا محمّداً    على الجهاد ما بقينا أبداً
مَعنا اللَّهُ الَّذِي مَا لنا سِوَاهُ    وَكَيْفَ يَخَافُ مَنْ مَعَهُ الإِلَهُ؟!
3- لا تبطلوا جهادكم وتلوثوا صحائفكم بمناصرة نظام الإجرام
يامن منّ الله عليكم بسابقة الجهاد، يامن منّ الله عليكم بنعمة مناصرة المظلومين ومقارعة المبطلين المجرمين، احذروا أن تبطلوا جهادكم، احذروا أن تسوّدوا صحائفكم بالوقوف في صفوف قوات النظام المجرم وأعوانه المرتزقة، فماعند الله خير وأبقى.
 واعلموا أنما هي موتة واحدة، فلتكن في عزٍّ وطاعةٍ، فلتكن موتةً يتبعها رضا الله جل جلاله، أم تطمعون في موتةِ ذلٍّ ومهانةٍ في الدنيا وبوارٍ وخسارةٍ في الآخرة!؟ 
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].
يا أبناءنا: اليوم يغرّر نظام الإجرام بكم ويدفعكم إلى جبهاته لتقتلوا إخوانكم ممن كانوا بالأمس في صفوفكم، إنه يريدكم أن يضرب أبناء الثورة بعضهم ببعض، ويقتل هؤلاء بهؤلاء، ولقد تواترت الأخبار عن مخططات هذه العصابة المجرمة للدفع بأبناء المناطق التي خضعت للمصالحات والتسويات إلى الجبهات الساخنة ليحافظ على جنوده الذين لا يشك في ولائهم، فاليوم أنتم للمحرقة وسوء الخاتمة، أفرضيتم بهذا الهوان!
اعلموا أنه لا عذر لكم في الالتحاق في صفوف هذا النظام المجرم ولا بأي شكل أو عذر، لا عذر لكم في مواجهة إخوانكم ممن كانوا بالأمس جنباً إلى جنب معكم، كانوا يقاسمونكم الهموم والخوف والحاجة والرعب..
وإن القلب ليذوب من كمد عندما نسمع عن مقتل أحدٍ من هؤلاء في صفوف النظام المجرم وعلى جبهاته، إنه موقف الصبر الذي يريده الله منكم، فاجعلوا ثقتكم ويقينكم بالله ولا تبطلوا جهادكم وتخونوا أهلكم وتبوؤوا بحسن الخاتمة. 
4- المواساة والإيثار يا أهل البرّ والإحسان
المواساة خلقٌ نبيلٌ، ووصفٌ جميلٌ، وهو من أنفس أنواع البرّ، يكافئ الله عليه بالمزيد، وهو متنوّعٌ، مواساةٌ بالمال وبالجاه وبالكلام الطّيّب، مواساةٌ بحسن الوفادة وكرم الضّيافة...
إنه يزيد الألفة ويُعلي مقام العبد في الجنة، لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ). المعجم الأوسط للطّبرانيّ: 5787
فـلله درّكم ما أجملكم وما أروعكم يا أهلنا الكرام في شامنا الميمون، لقد تناقلت الرّوايات وتواترت الأخبار عن كرم وفادكم وطيب استقبالكم لأهلكم وإخوانكم النّازحين؛ الّذين جاؤوكم منحازين لفئةٍ مؤمنةٍ، جاؤوكم متحصّنين بنخوتكم الأبيّة، فهم يعلمون أنّ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، وأنّ: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ). صحيح مسلم: 2564
يردّدون قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وقوله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}.
لا تَعْجَبُوا إِنَّهُمْ أَحْفَادُ مَنْ بَلَغُوا    آفَاقَ هَذِي الدُّنَا، وَالعِرْقُ دَسَّاسُ
نعم لقد حقّقتم معاني هذا الشّهر العظيم المبارك؛ في الإيثار والمواساة والمساعدة والمؤاخاة، إنّ هذا الشهر ميدان سباقٍ بالجود والعطاء، وساحة السّعي في البرّ والسّخاء، فقد كان رسولكم محمّدٌ صلى الله عليه وسلم: "أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ". صحيح البخاريّ: 1902
اعلموا معشر الصّائمين الأبرار: أنّ المواساة من أجمل معاني هذا الشّهر العظيم، فإيّاك أيّها الصّائم إيّاك أن تنسى إخوانك الوافدين، فقد تركوا الدّيار والمال، وهُجّروا من منازلهم وأراضيهم، فارّين بدينهم وأبنائهم وأعراضهم، وهم إخواننا في الدّين، ونصرتهم ومواساتهم واجبةٌ علينا أجمعين، فقد أمرنا الله تعالى في حقّهم فقال: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}.
وتركي مواساةَ الأخلَّاءِ بالّذي    تنالُ يديّ ظلمٌ لهم وعقوقُ
وإنِّي لأستحيي مِن الله أن أُرَى    بحالي اتِّساع والصَّديق مضيقُ
إنّ بين المسلمين رابطةٌ لا تُفصم وعروةٌ لا تُقسم، إنّها رابطة الدّين، بل إنّها لتزداد وتتوثّق في زمن الشّدة والبلاء، هكذا كان جيل الرّعيل الأوّل، كلّما اشتدّ عليهم الخطب وزاد بهم الكرب، تلاحموا وتراحموا وتباذلوا وتعاونوا، {هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38].
رسالةٌ إلى كلّ أفراد المجتمع: تعالوا لنجعل شهر رمضان شهر التّكافل والتّكاتف، شهر المودّة والألفة، فقد حثّنا رسولنا الكريم عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على أدنى أنواع المواساة والعطاء في شهر رمضان فقال: (مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ). مسند الإمام أحمد: 17033
وقال صلى الله عليه وسلم: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ). صحيح البخاريّ: 1417
فيا معشر الصّائمين: اعقدوا النّيّة من هذه السّاعة على أن تخرجوا من فوركم إلى الُأسر النّازحة، والبيوت المستورة، والعائلات الفقيرة؛ فتطعموا جائعهم، وتواسوا مصابهم، وتكفلوا يتيمهم، وتعينوا محتاجهم، محقّقين قول الله في مدح الأبرار: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8].
اعلموا أيّها المؤمنون: أنّ التّكافل الاجتماعيّ بين المسلمين كان ومازال وسيبقى هو الصّفة البارزة والحقيقة المميّزة لأخلاق المسلمين، فالمسلم الصّادق يبذل في زمن المحن الغالي والرّخيص، ويقدّم لإخوانه النّفس والنّفيس، محقّقاً قول الله في وصف المجتمع المسلم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
أُولَئِكَ هُمْ آبَاؤُكُمْ وَلأَنْتُمُ     كَآبَائِكُمْ وَالفَرْعُ لِلأَصْلِ يُنْسَبُ
فحيّا الله وبارك من مدّ يد العون للمحتاجين، وحيّا الله وبيّا كلّ من آوى نازحاً وضمّ إلى بيته مشرّداً، وهنيئاً وبشرى لكلّ من فرّج كرب مكروبٍ، ونفّس همّ مهمومٍ، وأغاث ملهوفاً وأعان محتاجاً، فقد تكاثرت الأحاديث وتواترت الرّوايات في مدح صانعي المعروف وفاعلي الخير، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلنها قويّةً مدويّةً لتصل إلى أسماعنا جيلاً بعد جيلٍ، فيقول بأبي هو وأمّي: (مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ فِي الدُّنْيَا سَتَرَهُ اللهُ فِي الْآخِرَةِ وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ، مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ). السّنن الكبر للنّسائيّ: 7246
ورحم الله القائل:
النّاس بالنّاس مادام الحياءُ بهم    والسّعد لا شكّ تاراتٌ وهبّاتُ
وأفضل النّاس ما بين الورى رجلٌ    تُقضى على يدهِ للنّاس حاجاتُ
لا تمنعنّ يد المعروف عن أحدٍ    ما دمت مقتدراً فالسّعد تاراتُ
واشكر فضائل صنع الله إذ جُعلت    إليك لا لك عند النّاس حاجاتُ
قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم    وعاش قومٌ وهم في النّاس أمواتُ
أخي المبارك: الآن وبلا تسويفٍ؛ بادر قبل أن تُغادر، اغتنم الأجر والثّواب في مساعدة أهل الحاجة والمصاب، فبادروا وقدّموا لأنفسكم، وازرعوا لآخرتكم ونوّروا صحائفكم بالصّدقات، قبل أن يأتي يومٌ يقول القائل فيه: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِين} [المنافقون: 10].
فيكون الجواب القاسي الشّديد: {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 11].
يا أهلنا في الشّام؛ شام البطولة والإباء، شام البذل والعطاء: إنّ ما ينزل بكم من الهموم والنّكبات، وما تعانونه من الضيق والمدلهمّات، واللهِ وتاللهِ عمّا قريبٍ سينجلي، فقد وعدكم الله ذلك فقال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
فنور الله لا يُطفئ، وسنا جهادكم لا ينكأ، وأنتم منذ سنواتٍ عدّةٍ ثابتين صامدين مردّدين: "هي لله"، "ما لنا غيرك يا الله"، واللهِ ثمّ واللهِ لن يخذل الله من ينصره، وهو القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
فأبشروا وأمّلوا، واعملوا وانصروا المجاهدين بأموالكم ودعائكم، وانصروا إخوانكم النّازحين بعونهم ومساعدتهم، يرزقكم الله وينصركم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقّهم: (ابْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ، فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ). سنن التّرمذيّ: 1702
 

http://shamkhotaba.org