سبيل الأخيار للاستمرار على صالح الأعمال
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 5 يونيو 2019 م
عدد الزيارات : 2108
لقد دار الدّهر دورته، ومحا الزّمان أثره، وإذ برمضان الكريم يفارقنا فراق الحبيب لحبيبه، وما أشدّ فراق الأحبّة؟!
نعم لقد انقضى شهر رمضان، ويا ولهي عليه، وتصرّمت أيامه ولياليه، والله يعلم كم من صحائفٍ بُيّضت، وكم من حسناتٍ كُتبت، وكم من ذنوبٍ غُفرت، وكم من رقابٍ أُعتقت، انقضى رمضان وخفيت أنواره، وأفل نجمه بعد أن سطع، وأظلم ليله بعد أن لمع، فتفجّرت المدامع، وأظلمت المساجد والجوامع، وإنّ القلب ليحزن، وإنّ العين لتدمع، وإنّا على فراقك يا رمضان لمحزنون.
يا لائمي في البكا زدني بها كلفاً    واسمع غريب أحاديثي وأشعاري
ما كان أحسنها والشّمل مجتمعٌ    منّا المصلّي ومنّا القانت القاري
شهرٌ به يعتق الله العصاة وقد   أشفوا على جرفٍ من حصّة النّارِ
1- الثّبات على الطّاعات بعد رمضان مع الخوف من عدم القبول
انقضى شهر رمضان وطويت صحائفه، وفاز فيه من فاز، وحُرم فيه من حُرم، فيا ليت شعري من المقبول فنهنّئه، ومن المردود فنعزّيه، مضى شهر رمضان، ولكن ماذا بعد رمضان؟  هل تخرّجنا من مدرسة رمضان بشهادة المتّقين؟ هل اتّخذنا من رمضان قاعدةً للمحافظة على الصّلوات؟ والاستمرار بالطاعات في باقي الشّهور والأيّام؟ وهل جعلنا لأنفسنا منطلقاً لترك المعاصي والذّنوب؟  هل تساءلنا ماذا بقي في قلوبنا من أثر هذا الشّهر الكريم؟ وماهي أحوالنا بعده؟
كلّ هذه الأسئلة لها أجوبةٌ لعلّها تكون واضحةً بعد أن نعلم أنّ أحوال النّاس في رمضان وبعد رمضان تنوّعت إلى ثلاثة أصنافٍ: فصنفٌ من النّاس ظنّوا أنّ الله تعالى لا يُعبد إلّا في رمضان، وأنّه ليس له محارم إلّا في رمضان، فصاموا وصلّوا وقرؤوا القرآن، ودمعت أعينهم وخشعت قلوبهم، ولكن ما إن ولّى رمضان حتّى عادوا إلى ما كانوا عليه من الغفلة والإعراض عن ربّهم سبحانه، فبئس القوم هؤلاء الّذين لا يعرفون لله حقّاً إلّا في رمضان، ويا للعجب: كيف تعودون إلى الذّنوب وقد طهّركم الله منها؟! كيف تعودون إلى المعاصي وقد محاها الله من صحيفتكم؟!  أيعتقكم الله من النّار وتعودون إليها؟! أيبيّض الله صحيفتكم وأنتم تسوّدها؟! ما ينبغي أن يحدث هذا من عاقلٍ، فالحذر الحذر من الانتكاس على الأعقاب، ورجوع القهقرى إلى الوراء، ولا تكونوا ممّن قال الله فيهم: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: -92]. 
وصنفٌ آخر من النّاس: كانوا على خيرٍ وطاعةٍ قبل رمضان، فلمّا جاء رمضان شمّروا عن سواعدهم، وضاعفوا من جهودهم، وجعلوا رمضان غنيمةً ثمينةً، ومنحةً ربّانيّةً، فاستكثروا من الخيرات، وتعرّضوا للرّحمات والنّفحات، فما انقضى رمضان إلّا وقد علت مرتبتهم عند الرّحمن، وارتفعت درجاتهم في الجنان، فكانوا ولا يزالون مداومين على طاعة الرّحمن، لأنّهم علموا أنّ الله يًعبد في رمضان، وفي كلّ الشّهور والأيّام، فهؤلاء هم المؤمنون الخائفون الرّاجون، فما أحسن الحسنة بعد السّيّئة تمحوها، وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلوها، وما أقبح السّيئة بعد الحسنة، وأقبح منها السّيئة بعد الحسنة تمحقها، فلذنبٌ واحدٌ بعد التّوبة أقبح من أضعافه قبلها، وأما الصنف الثّالث: فهم قومٌ دخل عليهم رمضان وخرج رمضان وحالهم كحالهم لم يتغيّر منهم شيءٌ، ولم يتبّدل فيهم أمرٌ، بل ربّما زادت آثامهم وعظمت ذنوبهم، واسودّت صحائفهم أكثر وأكثر، ودخلوا في وعيد النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّذي قال فيه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رَقَى الْمِنْبَرَ فَقَالَ: (آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ)، قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا؟ فَقَالَ: (قَالَ لِي جِبْرِيلُ: رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا لَمْ يُدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: آمِينَ). الأدب المفرد: 646
أولئك هم الخاسرون حقّاً، فليس أمامهم إلّا التّوبة إلى ربّهم، وتدارك ما بقي من أعمارهم، ولقد جعل الله لكلّ شيء علامةً، وإنّ من علامة قبول الصّيام: الاستمرار في العمل الصّالح بعد رمضان، فراقب نفسك واحكم على صومك هل هو مقبولٌ أم مردودٌ، ثمّ اعلم أنّ عمل المؤمن لا ينقضي بانقضاء شهرٍ ولا عامٍ، فلقد خاطب الله نبيّه محمّداً صلى الله عليه وسلم فقال: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99]، اليقين أي الموت.
2- وسائل الثّبات على الطّاعات بعد رمضان
أوّلاً: ملازمة الدّعاء والاستعانة بالله وحده: إنّ من أعظم الأسباب الّتي تعينك على المداومة على العمل الصّالح: ملازمة الدّعاء والابتهال إلى الله وحده، فالمداومة عليه والاستعانة بالله وحده، بأن يسأل المسلم ربه الثّبات على ما كان عليه من جميل الطّاعات والقربات، وكلّ ما يقرّبه إلى الله تعالى وحده، أكبر معينٍ للثّبات على الطّاعات، عَنْ رَجُلٍ مَنْ بَنِي حَنْظَلَةَ، قَالَ: صَحِبْتُ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: أَلاَ أُعَلِّمُكَ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا أَنْ نَقُولَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَقَلْبًا سَلِيمًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تَعْلَمُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ). سنن التّرمذيّ: 3407
فإنّ من استعان بالله أعانه، ومن أعانه الله فهو المعان، ومن استعان بغيره خذله، ومن خذله فهو المخذول، فاطلب العون من الله أن يسدّدك، وأن يوفّقك للعمل الصّالح الّذي يرضيه، فقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه حينما أمسك بيده أمراً لا بدّ منه للمؤمن، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ)، قُلْتُ: لَبَّيْكَ، قَالَ: (إِنِّي أُحِبُّكَ)، قُلْتُ: وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ، قَالَ: (أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهَا فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاتِكَ؟)، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (قُلِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ). الأدب المفرد: 690
فاعترف بفقرك وضعفك، وعجزك وتقصيرك، وقل لا حول لي ولا قوّة لي إلّا بحولك وقوّتك، فإذا استشعرت عبوديّتك لله، وفقرك واحتياجك إليه، فلسوف تجد أنّ الله يعينك ويمدّك بمعيّته ويوفّقك.
ثانياً: الاقتصاد والاعتدال في الطّاعات: لا تشدّد على نفسك ولا تسرف، فلا إفراط ولا تفريط، فلقد حذّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ). صحيح البخاريّ: 39
فلا تكلّف نفسك بعملٍ قد تعجز عنه بعد أسبوع أو أسبوعين أو شهرٍ أو شهرين، فالاقتصاد في العبادات هو من هدي سيّد الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمّدٌ صلوات الله وسلامه عليه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: (مَا هَذَا الحَبْلُ؟)، قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لاَ حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ). صحيح البخاريّ: 1150
انظر إلى هذا التّشريع العظيم (لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ)، لأنّه لا بدّ للنّفس من فتراتٍ للتّرويح، ولكن ليس ذلك بالمعصية كما يظنّ بعض النّاس الّذين فهموا الأمر على غير حقيقته. 
ثالثاً: الصّحبة الصّالحة: إنّ من أفضل الوسائل الّتي تساعدك على الاستمرار في العمل الصّالح: الصّحبة الصّالحة، فالصّاحب ساحب، فمن صاحب أهل التّقى والإيمان أضحى مثلهم وفعل فعلهم، ومن صاحب أهل الفجور والعصيان كان مثلهم، ومن جالس جانس، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ). سنن أبي داوود: 4833
فالطّباع تسرق من بعضها البعض، والإنسان قد ينشط إذا رأى إخوانه من حوله على طاعة الله تعالى، وقد يشعر بالخجل من نفسه إذا رأى إخوانه في طاعة وهو مقصّرٌ، فاحرص على صحبة الّذين يذكّرونك بالعزيز الغفّار فإنّ صحبتهم ستعينك على طاعة الله سبحانه، وستأخذ بيدك في الاستمرار والمداومة على الطّاعات والقربات، حتّى تلقى ربّك عز وجل وأنت على طاعته.
3- ثمار المداومة على الأعمال الصّالحة
إنّه مَن داوم على العمل الصّالح، وذاق حلاوة القرب من الملك سبحانه ولذّة الأنس به جل جلاله؛ فاز وسعد في الدّنيا والآخرة، فما أعظم الثّمار الّتي يجنيها المسلم من استمراره على طاعة الله سبحانه، ولعلّ من أهم هذه الثّمار الزّكيّة:
أوّلاً: محبّة الله للعبد: إنّ من أعظم ثمار المداومة على العبادات أنّها سبب لمحبّة الله للعبد، ومحبّة الله للعبد أمرٌ عظيمٌ تقف عنده ألسنة البلغاء والفصحاء، فليس العجب من عبدٍ يتودّد إلى سيّده ومولاه، بل العجب كل العجب من سيّدٍ يتودّد إلى عبده، فقد جاء في الحديث القدسيّ: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ). صحيح البخاريّ: 6502
فكّر وتدبّر جيّداً معنى: أنّ الله يحبّك، فإذا تذوّقت معناها ذُبتَ خجلاً بين يديه جل شأنه، وبادلت ربّك بالحبّ حبّاً، فهو الّذي يقول: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54].
ثانياً: حسن الخاتمة والفوز بالجنّة: إنّ من الثّمار العظيمة للمداومة على العمل الصّالح: أنّها سببٌ لحسن الخاتمة والفوز بالجنّة، وتفصيل ذلك: إنّ الله أجرى سنّته بجوده وكرمه، أنّ من عاش على شيءٍ مات عليه، ومن مات على شيءٍ بُعث عليه، عن أنس رضي الله عنه قال: ثال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ)، قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ: (يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ مَوْتِهِ). مسند الإمام أحمد: 12036
وعن جابرٍ رضي الله عنه قال: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: (يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ). صحيح مسلم: 2878
فالعبرة بالخواتيم، ولا يثبت إلّا من رسخ الإيمان في قلوبهم، وخالطت بشاشته القلوب، قال تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [إبراهيم: 27].
ثالثاً: تفريج الكربات والمصائب والأزمات: ما أكثر المصائب والمحن والكروب والشّدائد التي حلّت بالمسلمين اليوم، من قتلٍ وتدميرٍ وتهجيرٍ وتشريدٍ وغير ذلك، محنٌ لو أُنزلت على الجبال الرّاسيات لصدعتها، كروبٌ عظيمةٌ يبحث المسلم عن مخرجٍ منها وعلاجٍ لها فيخطئ الطّريق، مع أنّ العلاج بيده، وما عليه إلّا أن يستعمله، ألا وهو: دوام الاتصال بالخالق العظيم، وملازمة بابه والوقوف على أعتابه، فإنّه علاجٌ نافعٌ وسببٌ لتفريج الكربات والهموم، ورفع المصائب والمحن، عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه قال: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (يَا غُلامُ، أَوْ يَا غُلَيِّمُ، أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ؟) فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: (احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ). مسند الإمام أحمد: 2803
فالمداومة على العمل الصّالح من أعظم الأسباب للنّجاة من الكروب والشّدائد، ولقد حكى القرآن لنا عن نبيٍّ من أنبيائه وقع في كربٍ وشدّةٍ، فكان رصيده المدّخر عند ربّه من قبل، من تسبيحٍ وذِكرٍ لربّه سبباً في إنقاذه ممّا وقع فيه، إنّه نبيّ الله يونس عليه السلام قال الله تعالى عنه: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143-144].
ونحن اليوم يا عباد الله: لن يخلّصنا ممّا نحن فيه إلّا رصيدنا -على قلّته وضعفه- من العبادات والطّاعات الّتي تقرّبنا إلى ربّنا جل جلاله.
فهيّا يا عباد الله فلنفتح صفحةً جديدةً مع الله سبحانه بعد رمضان، نعاهده فيها على الاستمرار في القربات والطّاعات الّتي تقرّبنا إليه وتؤهلنا لننال شهادة المتّقين الّذين استفادوا من مدرسة رمضان، وحقّقوا الغاية المرجوّة منه من خشية الله ومراقبته، وهذه هي المرتبة الثّالثة من مراتب الدّين؛ مقام الإحسان الّذي وصفه النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ). صحيح البخاريّ: 50
فلنبقَ على العهد صامدون ثابتون، غير مبدّلين ولا متراجعين، ليتحقّق فينا قول ربّنا سبحانه: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
 

http://shamkhotaba.org