مقدمة:
من يتفكر في واقع الأمة يلحظ تبايناً شديداً واختلافاً واسعاً بين أفرادها، لا سيما عند العاملين في ميادين الإصلاح والتوعية والدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى، وكم حذّر القرآن الكريم والشرع الحنيف من الاختلاف والتنازع والتباغض، وكم حرص الشرع الحنيف على تقوية أواصر المحبة بين المسلمين وإزالة العوائق التي من شأنها أن تقطع وشيجة التواصل بين المسلمين.
من أجل ذلك كان لابد من النداء رغم وجهات النظر المتعددة والآراء المتباينة والأفكار والمذاهب المختلفة أنّ الاختلاف يُثري ولا يفسد للود قضيةً.
نداؤنا: رفقاً بأمة الإسلام.
1- تقديم حسن الظن بين المسلمين
قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: ١٢].
نداء محبب إلى القلوب: {يا أيها الذين آمنوا} لا تتركوا أنفسكم نهباً لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك.. لماذا؟، {إنّ بعضَ الظنِّ إثمٌ}، وبهذا تُطهِّرُ الآية الكريمة الضميرَ الحيَّ من داخله حتى لا يتلوّث بظنٍّ سيءٍ أو شكٍّ مدمِّرٍ، حتى تظلَّ القلوب بين أفراد أهل السنة صافيةً هادئةً لا يعكِّرها القلق والشك والريبة والظنُّ والتربصُ، وحتماً عند تطبيق ذلك ما أجملَها من حياةٍ، وما أسعدَها من عيشةٍ في ظلِّ مجتمعٍ تحيا فيه هذه القلوب السليمة الصافية!
ويأتي الأمر النبوي مؤكداً لهذه المعاني السامية: (إياكم والظنَّ فإنّ الظنَّ أكذبُ الحديث).
فالأصل هو إحسان الظن بالمسلمين ولو اختلفنا في وجهات النظر ولو تباينا في الأفكار والمذاهب، ومن الواقع المرير أن نرى سوء الظن منتشراً بين أفراد المسلمين حتى نراه يتعدى إلى النيات التي لا يطلع عليها إلا الباري سبحانه، وهذا من الظلم البيِّن، فالسرائرُ لا يعلمها إلا الله تعالى.
2- التماس العذر
ما أجملَ ما قاله ابن السمّاك حينما جاء إليه أخوه يوماً ليقول: "يا ابن السمّاك موعدُنا غداً نتعاتب"، قال: "بل موعدُنا غداً نتغافر".
يقول الربيع: مَرِضَ الشَّافِعِيُّ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! قَوَّى اللَّهُ ضَعْفَكَ، فَقَالَ: "يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، لَوْ قَوَّى اللَّهُ ضَعْفِي عَلَى قُوَّتِي أَهْلَكَنِي"، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! مَا أَرَدْتُ إِلا الْخَيْرَ، فَقَالَ: "لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ عَلِيَّ لَعَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تُرَدْ إِلا الْخَيْرَ".
وما أجملَ تلطفَ ابنِ القيم والتماسَهُ العذرَ لشيخه أبي إسماعيل الهروي الذي ألّف كتاباً في علم التصوف والسلوك سمّاه "منازل السائرين" فشرحه ابن القيم في كتابه القيّم "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين"، وأثنى فيه ابنُ القيم على شيخه، وبل كان يلّقبه ب "شيخ الإسلام" مع أنه قد استدرك عليه مسائل عديدة وتعقّبه في أكثر من موطن، وكان يعبّر عن ذلك فيقول: "شيخ الإسلام -الهروي- حبيبُنا ولكنّ الحقَّ أحبُّ إلينا منه".
وفي موطنٍ آخرَ يختلف معه فيقول مظهراً لقدره ومكانته: "إذا بلغ الماءُ قلتين لم يحمل الخبث".
وهذا ما التمسه الحبيب صلى الله عليه وسلم لحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه مع أنه عمل عملاً ظاهرُهُ موالاةُ الكفارِ: (إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
3- الأمة اليوم بحاجة إلى قلوب متجردة
كم نحن بحاجة الآن إلى من يضعون الخلافات جانباً وينهضون للعمل الذي يجمع الجميع تحت مظلة الإسلام ولا يزعجهم في أيِّ مكانٍ كانوا على طريق الدعوة الطويل، ولا يهُمُّهم إن كانوا في الصدارة أو في صفوف الجند ما داموا يعملون في الميدان بصدق وإخلاص وتجرُّدٍ متخذين من حديث الحبيب صلى الله عليه وسلم نبراساً لهم، الذي قال فيه: (طوبى لعبد آخذ بعِنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشفّع).
نقل الحافظ ابن حجر في تعليقه على هذا الحديث قولَ الإمام ابن الجوزي: "والمعنى أنه خاملُ الذكرِ لا يقصد السمو"، إذاً فهو متجرِّدٌ لله تعالى، ومن ثم لا تعنيه الأسماء ولا المصطلحات، ولا يريد تلميعاً سياسياً ولا إعلامياً، ولا يريد مكانةً لحزبه أو جماعته، إنما يريد أن ينصر الإسلام، ألا ما أجلَّه من هدفٍ! وما أبلغَها من غاية!
وفي هذا المقام يقفز إلى الذهن فوراً ذلكم المشهد الذي يتألق سمواً وروعةً وجلالاً، المشهدُ الذي يعلّمه لنا أبو سليمان سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه، ذلكم القائد الذي حيَّر القادةَ والفرسانَ في ساحات الوغى وميادين البطولة والفداء، ها هو يتنازل عن القيادة بأمرِ أميرِ المؤمنين عمرَ رضي الله عنه في غاية الحب لأخيه أمينِ هذه الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه ليتحول من قائدٍ مُطاعٍ إلى جندي مطيعٍ!
فليس الهدفُ من الذي يرفع الراية، المهمُّ أن تُرفعَ وأن تظلَّ خفّاقةً عاليةً.
بالله هل في لغة البشر ما نستطيع أن نعبّر به عن تجّردِ وصفاءِ ونقاءِ هؤلاء الأطهار الأبرار الأخيار الذين تربوا على عين سيد الرجال.
ورحم الله حافظ إبراهيم حينما ترجمها شعراً عذباً فقال:
سلْ قاهرَ الفرسِ والرومانِ هلْ شفَعَتْ لـه الفُتوحُ وهل أغنَى تَواليها
غَزَى فأبْلى وخَيْلُ اللـهِ قد عُقِدت باليُمنِ والنَّصْرِ والبُشْرَى نَواصِيها
يَرمي الأعادي بآراءٍ مُسَدَّدَةٍ وبالفَوارسِ قد سالَتْ مداكيها
ما واقَعَ الرُّومَ إلاّ فَرَّ قارِحُها ولا رَمَى الفُرسَ إلاّ طاشَ راميها
ولم يَجُزْ بَلدَةً إلا سَمِعْتَ بها اللـهُ أكبرُ تَدوي في نَواحيها
عِشرُونَ مَوقِعَةً مَرّتْ مُحَجَّلةً من بعد عَشرٍ بَنانُ الفَتحِ تُحْصيها
وخالدٌ في سَبيلِ اللـهِ مُوقِدُها وخالدٌ في سَبيلِ اللـه صاليها
أتاهُ أمرُ أبي حَفصِ فقبَّلَه كما يُقَبِّلُ آيا اللـهِ تالِيها
واستَقْبَلَ العَزْلَ في إبّانِ سَطْوَته ومَجْدِه مُسْتَريحَ النَّفسِ هاديها
فاعجَب لسَيِّدِ مَخُزومٍ وفارِسِها يومَ النِّزالِ إذا نادَى مُناديها
يَقُودُه حَبَشيٌّ في عِمامَتِه ولا تُحرَّكُ مَخزُومٌ عوالها
ألْقَى القِيادَ إلى الجَرّاحِ مُمْتَثِلاً وعِزّةُ النَّفْسِ لم تُجْرَحْ حَواشيها
وانضَمَّ للجُند يَمشي تحتَ رايَتِه وبالحياةِ إذا مالَتْ يُفَدِّيها
وما عَرَتْه شَكوكٌ في خَليفَتِه ولا ارتَضَى إمَرةَ الجَرّاحِ تَمويها
فخالِدٌ كان يَدري أنّ صاحِبَه قد وَجَه النَّفسَ نحوَ اللـهِ تَوجيها
ما أجمله من شعار عند الصادقين: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
4- دعونا نختلف ونأتلف
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ} [هود: 18-19].
ليست المشكلةُ في أن نختلف ولكنّ المصيبةَ أن لا نأتلف، فقد اختلف الصحابة على عهد الحبيب ولكن الائتلاف سر قبولهم وانفتاح العالم لهم ورضوان الله عليهم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَومَ الأحْزَابِ: (لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلَّا في بَنِي قُرَيْظَةَ)، فأدْرَكَ بَعْضُهُمُ العَصْرَ في الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حتَّى نَأْتِيَهَا، وقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذلكَ، فَذُكِرَ ذلكَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ واحِدًا منهمْ.
كانَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم هو المَرجِعَ للصَّحابةِ في كُلِّ شُؤونِهم؛ فإذا حَدَث اختِلافٌ ردُّوه إليه صلى الله عليه وسلم؛ ليُبيِّنَ لهُم ما أَشْكَلَ عليهم، أو يُقرَّهم على ما اجتَهدوا فيه.
وفي هذا الحديثِ: قالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَومَ الأحزابِ: (لا يُصلِّينَّ أحدٌ العَصرَ إلَّا في بني قُرَيظةَ)، أي: أرادَ الحثَّ على الاستعجالِ في الذَّهابِ إلى بني قُرَيظة لا حقيقةَ تَركِ الصَّلاةِ؛ فإنَّه أرادَ إزعاجَ النَّاسِ إليها لِمَا كان أَخبَره جِبريلُ أنَّهُ لم يَضَع السِّلاحَ بَعدُ، وأَمَره ببني قُرَيظة، فأَدرَك بَعضُهم العَصرَ في الطَّريقِ، فقالَ بَعضُهم: لا نُصلِّي حتَّى نَأتيَها، لا نُصلِّي حتَّى نَأتيَها عَملًا بظاهِر قولِه: (لا يُصلِّينَّ أَحدٌ)؛ لأنَّ النُّزولَ مَعصيةٌ للأمرِ الخاصِّ بالإسراعِ؛ فخصُّوا عُمومَ الأمرِ بالصَّلاةِ أوَّلَ وقَتهِا بما إذا لم يَكُن عُذرٌ، وأن يُمتَثل أَمرُ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وإن تأخَّرت الصَّلاةُ عن فَضيلتِها في أوَّلِ الوقتِ تَمسُّكًا بحُدودِ نُطقِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال بعضُهم: بل نُصلِّي؛ نظرًا إلى المعنى لا إلى ظاهِرِ اللَّفظِ، لم يُرِدْ منَّا ذلك، أي: إنَّ وصيَّته صلى الله عليه وسلم بذلك إنَّما هي على سَبيلِ الحَثِّ لهُم في السَّير كما فُهِمَ بامتثالٍ ما أَمَرَ به، فلمَّا دَخَل عليهم وقتُ العَصرِ، وعَرَفوا مَقصودَ رَسولِاللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِن ذلك، رَأوا أن يَنالوا فَضيلةَ الصَّلاةِ في وقتِها، وأنْ يَذهبوا إلى بَني قُرَيْظةَ مُمتَثلينَ أمْرَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم في الوُصولِ إليها، "فذُكِرَ ذلك" الفِعلُ المَذكورُ مِن فِعلِ الطَّائفتين "للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فلَم يُعنِّف واحدًا منهُم"، لا التَّاركينَ ولا الَّذين فَهِموا أنَّهُ كنايةٌ عن العَجَلةِ; لأنَّهُم مُجتهِدون.
وفي هذا الحَديثِ: إثابةُ المجتهِدِ في كُلِّ ما يُسوَّغُ الاجتِهادُ فيه.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: خرجَ رجلانِ في سفَرٍ، فحضرتِ الصَّلاةُ وليسَ معَهُما ماءٌ، فتيمَّما صَعيدًا طيِّبًا فصلَّيا، ثمَّ وجدا الماءَ في الوقتِ، فأعادَ أحدُهُما الصَّلاةَ والوضوءَ ولم يُعدِ الآخرُ، ثمَّ أتيا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فذَكَرا ذلِكَ لَهُ فقالَ للَّذي لم يُعِد: (أصبتَ السُّنَّةَ، وأجزَأتكَ صلاتُكَ)، وقالَ للَّذي توضَّأَ وأعادَ: (لَكَ الأجرُ مرَّتينِ).
اختلف الإمام الشافعي مع أبي موسى الصدفي في مسألة، فقال له يا أبا موسى ألا يحسن بنا أن نبقى إخواناً ولو اختلفنا، لذا قال الشيخ محمد الغزالي المصري: سعة العلم يولِّد رحابة الصدر.
5- ولا تبخسوا الناس أشياءهم
قد أنصف الحبيب شيطاناً فكيف لا ننصف بعضنا ونحن جميعا منتسبون إلى الإسلام والسنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعليّ عيال ولي حاجة شديدة، فخلّيتُ عنه فأصبحتُ فقال النبي صلى الله عليه و سلم: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟)، قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك وسيعود)، فعرفت إنه سيعود، فرصدتُه فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعليّ عيال لا أعود. فرحمته فخلّيت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟)، قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه كذبك وسيعود)، فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود ثم تعود، قال: دعني أعلّمك كلماتٍ ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة:255]. حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح؛ فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما فعل أسيرك البارحة؟)، قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلماتٍ ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: (ما هي؟)، قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح -وكانوا أحرص شيء على الخير-، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟). قال: لا، قال: (ذاك شيطان).
http://shamkhotaba.org