مقدمة:
سلخ شيخنا المحدث الجليل عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله عمره المبارك بين المحابر والمنابر؛ مدرسًا ومحاضرًا وخطيبًا.
وكان تولى الإمامة والخطابة في رَيِّق شبابه، نحو سنة 1369هـ / 1948م، وهو حينئذ في نحو العشرين، في جامع الأرناؤوط بحي الديوانية، حيث استوطنت الأسر اليوغسلافية المهاجرة، وكان الشيخ الألباني رحمه الله ممن يشهد خطبته ويصلي خلفه؛ إذ كان جارا للجامع، وقد استمر شيخنا الأرناؤوط في خطابة هذا الجامع نحو خمس عشرة سنة.
ثم انتقل إلى جامع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان سعى في إنشائه مع بعض أهل الخير في حي القدم جنوبي دمشق، وتولى إمامته والتدريس فيه أيضًا، وبقي فيه عِقدا كاملا.
ثم كُلِّف الخطابةَ بجامع الإصلاح بحي الدحاديل، ودامت خطبته فيه أكثر من عشر سنين، لينتقل بعده إلى حي المِزة غربي دمشق خطيبًا لجامع المحمدي، الذي استقطب آلاف المصلين، جلهم من طلاب العلم ونخبة المثقفين، وكان للشيخ درس عام يعقده بعد كل خطبة، يجيب فيه عن أسئلة المستفتين، وكنت ممن شرفهم الله تعالى بحضور تلك الخطب والدروس والانتفاع بها سنوات، ولله الحمد والمنة.
ولم يزل الشيخ خطيبا لجامع المحمدي حتى صدر القرار الجائر بعزله عن الخطابة، بعد ثماني سنوات قضاها فيه، وذلك سنة 1415هـ.
خبر خطبته الأولى:
يقص علينا الشيخ خبر أول خطبة خطبها قائلا: "وأول خطبة خطبتها كان والدي حاضرا، فلما رآني على المنبر أخطب بكى من شدة الفرح، وقال لي بعد صلاة الجمعة: أنا الآن إذا مت في هذه الليلة أموت وأنا فرح مرتاح البال؛ لأني رأيتك في دمشق الشام تخطب يوم الجمعة والناس يسمعون لك".
صفة خطبته:
كان الشيخ يولي خطبه حقها من التحضير وحسن الإلقاء؛ أداء لأمانة المنبر التي ضيعها اليوم كثير من الخطباء، وأداء لحق المستمعين الذين قدموا إلى جامعه من كل صوب، ينشدون النصح والفائدة.
وكان رحمه الله خطيبا مُفوَّهًا مِصْقَعًا، أمَّارًا بالمعروف نهَّاء عن المنكر، صادرًا في ذلك كله عن علم غزير، وفكر سديد، وبيان مشرق، وحميَّة لدين الله جيَّاشة.
ومن فضل الله عليه أن وهبه قدرة على التأثير عظيمة، فإذا ما انطلق في خطبته رأيت الناس قد تعلقت به أبصارهم، وكأن على رؤوسهم الطير.
وكان الغالب على خطب شيخنا أن يبدأها بسرد حديث نبوي شريف، مع ذكر الصحابي راوي الحديث، والأئمة المخرجين، والترجمة لهم بإيجاز، ثم يشرع في تفسير الحديث، واستنباط الفوائد والعبر منه، يدير الخطبة كلها عليه، مستشهدا بعشرات الآيات والأحاديث الداعمة للفكرة، لا يذكر حديثًا منها إلا مخرَّجًا.
خطب المناسبات:
وكان الشيخ اجتماعيا، يشارك إخوانه ومعارفه أفراحهم وأتراحهم، مُدخلا على قلوبهم السرور، ومخففًا من أحزانهم وآلامهم.
وغالبًا ما كان يلقي كلمات نافعة في المحافل التي يغشاها؛ إذ يُلفيها فرصة سانحة للوعظ والتوجيه والدعوة إلى الله، وبخاصة بعد منعه من الخطابة.
وكان إذا ما دُعي إلى حفل، يسأل عن حال المدعوين وطبقاتهم وما يغلب عليهم من اتجاه؛ ليكون بصيرًا بحالهم فيتكلم بما يُجدي معهم ويَصلُح لهم، وفي هذا ما لا يخفى من الحكمة وعمق النظر، وامتثال لقول الحق سبحانه: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة}.
وكان الشيخ أحيانا يخطب العيدين في مصلى العيد بدعوة من شيخنا المجاهد زهير الشاويش رحمه الله، في حي الميدان، ثم في حي المهاجرين.
وكان للشيخ مشاركة في خطابة مسجد جامعة دمشق الذي كان يقصده آلاف مؤلفة من الطلاب الجامعيين، والشباب المثقفين، والحريصين على السنة الكارهين لبدع المساجد.
رحم الله شيخنا المحدث المصلح عبد القادر الأرناؤوط، ولقاه يوم القيامة جنة ونعيمًا، وجزاه عن أمة الإسلام خيرًا.
http://shamkhotaba.org