أساليب القرآن الكريم في تنمية التفكير من خلال سورة الغاشية
إعداد
أ. رديف يوسف المقداد
مقدمة
الحمد لله رب العالمين الصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى اله وصحبه اجمعين وبعد
إنه مما يلفت النظر في كتاب الله عز وجلكثرة الآيات القرآنية التي تدعو الإنسان إلى التفكيرلتمييز الحق من الباطل، والآيات الكونية لا ندرك جمالهاوتناسقها إلا بالتفكير، بل القرآن نفسه لا ندرك علومهوإعجازه إلا بالتفكير، لذلك حرر القرآن العقل من العقباتالتي تعوق التفكير السليم، ووضع له المعالم الهادية والأسسالثابتة التي ترشده وتحفزه للتكفير السديد.
ولهذا جاءت الدعوة إلى نفس التفكر صريحة فيالقرآن الكريم، وبأسلوب التحضيض أو الاستفهام الاستنكاري،من أجل التوصل إلى الأحكام الصائبة، المبنية على الأدلةوالمقدمات الصحيحة، وجاءت الدعوة أيضاً إلى جميع العملياتالعقلية المرتبطة بالتفكير مثل: النظر والبصر والفقهوالتدبر والاعتبار والتذكر والعلم، فكلها عمليات عقليةيكمل بعضها بعضاً، ومرتبطة بالتفكير ارتباط الفرعبأصله
.
مادة نظرة وفكرفي القرآن الكريم تاتي (نظر) غالبا بعد استفهام يفيد الإنكار والتوبيخ
وحسب ما ورد في (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم)
فإن مادة ( ن.ظ.ر ) قد وردت في القرآن 130 مرة بتسع وعشرين صيغة. وهذه بعض النماذج منها:
1 ـ {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ } "العنكبوت: 20".
وهذه الآية ـ حسب ما ورد في حاشية الصاوي على الجلالين ـ خطاب لمنكري البعث ليشاهدوا كيف أنشأ الله جميع الكائنات, ومن قدر على إنشائها بدءا يقدر على إعادتها.
2 ـ {فَانظُرْ إِلَىَ آثَارِ رَحْمَةِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَىَ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} «الروم: 50"
3 ـ {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَىَ طَعَامِهِ} «عبس: 24"
في هذه الآية بيان لتعداد النعم المتعلقة بحياة الإنسان في الدنيا, إثر بيان النعم المتعلقة بإيجاده.
4 ـ {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ} «الطارق5"
5 ـ {أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ}«ق: 6".
6 ـ والملاحظ أن مادة هذا الفعل تأتي غالبا بعد استفهام يفيد الإنكار والتوبيخ. والتقدير أَعَمُوا فلا ينظرون كما في قوله: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} «الغاشية: 17», أو أغفلوا وعموا فلم ينظروا إلى آيات الله الباهرة. وفي هذا تقريع لكل ذي نظر لا يعمله في التفكير والتأمل والاتعاظ
وقدوردت في القرآن الكريم كلمة (فكر) مرة واحدة، وكلمة)تتفكروا) مرة واحدة. ولكمة (يتفكروا) مرتين، وكلمة(تتفكرون) ثلاث مرات، وكلمة (يتفكرون) إحدى عشرة مرة، فهذهثمانية عشر موضعاً، في موضع واحد منها فقط بصيغة الماضي،وفي سبعة عشر موضعاً بصيغة المضارع الدال على الاستمرار فيالمستقبل، وذلك لأن التفكير هو الذي يحرك جميع نشاطاتالإنسان المعرفية، ويهيئ له الاستفادة من الخبرات السابقة،ثم يدفعه للانطلاق من التفكير في المخلوقات إلى التفكير فيخالقها عز وجل، فيتولد لدى الإنسان الاعتبار والاتعاظالمؤدي إلى توحيد الله تعالى وخشيته، ثم إلى سلوك إيمانيصادق لقوله (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِوَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًاسُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران/ 191].
ولهذا جاءت الدعوة إلى نفس التفكر صريحة فيالقرآن الكريم، وبأسلوب التحضيض أو الاستفهام الاستنكاري،من أجل التوصل إلى الأحكام الصائبة، المبنية على الأدلةوالمقدمات الصحيحة، وجاءت الدعوة أيضاً إلى جميع العملياتالعقلية المرتبطة بالتفكير مثل: النظر والبصر والفقهوالتدبر والاعتبار والتذكر والعلم، فكلها عمليات عقليةيكمل بعضها بعضاً، ومرتبطة بالتفكير ارتباط الفرعبأصله.
قواعد منهجية في تنميةالتفكير
أولاً: إثارة الدافعللتفكير
التفكير ينشط إذا سبقه موقف انفعالي يحرضهويدفعه، وقد وردت في القرآن الكريم نماذج لإثارة الدافعالانفعالي المحرض على التفكير السليم، ويكتفي الباحثانبذكر واحد منها كمثال على بقيتها وهو موقف إبراهيم عليهالسلام عندما حطم الأصنام وترك الصنم الكبير، ليحرض عقولعابديها على التفكير في ضعفها وبطلان عبادتها، وقد ذكر هذاالموقف في سورة الأنبياء [51-70]، ويكتفي الباحثان بذكرموضع الشاهد [الآيات 62-67] قوله تعالى (قَالُوا أَأَنْتَفَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْكَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْفَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّنُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِيَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِمَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّلَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَاتَعْقِلُونَ)
وقد وردتفي القرآن الكريم بكثرة واضحة صيغ الاستفهام الاستنكاريوالتقريري والتوبيخي التقريعي، لأنه يشكل دافعاً قوياًلإثارة التفكير، وبخاصة
ثانياً: توجيه الفكر منالانتباه الاستسلامي الى الانتباه المقصود
الانتباهالاستسلامي هو التفكير الاجتراري غير الإرادي، الذي تتواردفيه الأفكار تلقائياً بين أشياء كثيرة دون غرض معين، ولاهدف محدد
ولتدريب العقل على التركيز الفكريبالانتباه المقصود دور كبير في تنمية التفكير، بحيث يصبحتفكيراً استدلالياً مركزاً في مقدمات معينة، موصلاً الىنتائج سليمة، ومحققاً الهدف منه.
وقد وردت فيالقرآن الكريم عدة مسالك للتوجيه الفكري الاستدلاليالمقصود، فالحروف المقطعة في أوائل بعض السور، والأقسامالعظيمة في أوائل بعض السور أو في متنها، كل ذلك للفتانتباه السامعين لما يلقى بعدها، ومثلها لفت الانتباه الىالشيء المألوف المتكرر، لأن الف الشيء وتكراره على نسقواحد قد يكون حجاباً وغشاوة تحجب تركيز التفكير والانتباهإليه، فدعا القرآن الكريم الى التأمل والتفكير حتى فيالأمور المألوفة والمشاهد المتكررة، ليتدرب العقل علىتركيز التفكير وتوجيه الانتباه القصدي الى كل ما حولنا،فمثلاً قوله تعالى في سورة الغاشية [17-20] (أَفَلَايَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَىالسَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَنُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) فإن الفالعرب لهذه المشاهد أنساهم التفكير في عظمتها، وما فيها منإبداع وإتقان دال على عظمة الخالق ووجوب توحيدهوعبادته.
فورد مثل هذه المسالك المثيرة للانتباهالفكري المركز المقصود، لهو أكبر دليل على أن التفكيرالسليم ينمو ويتحسن بالتدرب والممارسة.
ثالثا: تنمية القدرة على التخيل
إن قدرة الإنسان علىالتفكير السليم تزداد كلما كانت قدرته على التخيل أكبر, والقرآن الكريم يضرب الأمثال ويصور الأمور الغائبة بصورةيتخيلها العقل وكأنما هي مشاهد محسوسة مرئية لمساعدةالتفكير على إبطال العقائد الفاسدة، فمثلاً قوله تعالى فيسورة الأعراف [40] (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوابِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُلَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَحَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) يجعل الفكريتخيل استحالة دخول الجمل في ثقب الإبرة، فكذلك استحالةدخول الكافر الجنة.
رابعاً: تنمية المهاراتاللغوية
قال تعالى في سورة الرحمن [1-4] (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)، والبيان هو التعبير عما فيالضمير بالكلام الواضح، والقدرة على فهم كلام الآخرين"لولا البيان لكان المرء بهيمة مهملة أو صورةممثلة"(28).
وقد قال الله تعالى في سورة البقرة) . وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) وذلكليكون بيانه تاماً واضحاً، ثم يلقن أولاده ألفاظ اللغةالتي بها يتكلمون ويعبرون عن الأفكارالمختلفة.
خامساً: الإحاطة بجميع المعلومات المتعلقةبموضوع التفكير
الكشف عن العلاقات المختلفة بينالأشياء أمر ضروري للتوصل إلى نتائج صحيحة في الموضوعالمراد بحثه، ولكما كانت المعلومات شاملة ومحيطة بالموضوعمن جميع جوانبه قبل إصدار الحكم عليه كان التفكير سليماًومعيناً للتوصل إلى نتائج صحيحة في الموضوع المراد بحثه،ولكما كانت المعلومات
دراسة سورة الغاشية
بسم الله الرحمن الرحيم
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
تعريفبسورة الغاشية
هذهالسورة واحدة من الإيقاعات العميقة الهادئة . الباعثة إلى التأمل والتدبر , وإلىالرجاء والتطلع , وإلى المخافة والتوجس , وإلى عمل الحساب ليوم الحساب !
وهيتطوف بالقلب البشري في مجالين هائلين:مجال الآخرة وعالمها الواسع , ومشاهدهاالمؤثرة. ومجال الوجود العريض المكشوف للنظر , وآيات الله المبثوثة في خلائقهالمعروضةللجميع . ثم تذكرهم بعد هاتين الجولتين الهائلتين بحساب الآخرة , وسيطرةالله, وحتمية الرجوع إليه في نهاية المطاف . . كل ذلك في أسلوب عميق الإيقاع , هادئ, ولكنه نافذ . رصين ولكنه رهيب !
(هل أتاك حديث الغاشية ?). .
بهذاالمقطع تبدأ السورة التي تريد لترد القلوبإلىالله , ولتذكرهم بآياته في الوجود , وحسابه في الآخرة وجزائه الأكيد . وبهذاالإستفهامالموحي بالعظمة الدال على التقدير ; الذي يشير في الوقت ذاته إلى أن أمرالآخرةمما سبق به التقرير والتذكير . وتسمى القيامة هذا الإسم الجديد:(الغاشية). . أيالداهية التي تغشى الناس وتغمرهم بأهوالها . وهو من الأسماء الجديدة الموحيةالتيوردت في هذا الجزء . . الطامة . . الصاخة . . الغاشية . . القارعة . . ممايناسبطبيعة هذا الجزء المعهودة .
وهذاالخطاب: هل أتاك . . ? كان رسول الله يحس وقع توجيهه إلى شخصه , حيثماسمع هذه السورة , وكأنما يتلقاه أول أمر مباشرة من ربه , لشدة حساسية قلبهبخطابالله - سبحانه - واستحضاره لحقيقة الخطاب , وشعوره بأنه صادر إليه بلا وسيطحيثماسمعته أذناه . . قال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبوبكربن عباس , عن أبي إسحاق , عن عمر بن ميمون , قال:مر النبي على امرأةتقرأ:(هل أتاك حديث الغاشية ?)فقام يستمع ويقول:" نعم قد جاءني " . .
والخطاب- مع ذلك - عام لكل من يسمع هذا القرآن . فحديث الغاشية هو حديث هذاالقرآنالمتكرر . يذكر به وينذر ويبشر ; ويستجيش به في الضمائر الحساسية والخشيةوالتقوىوالتوجس ; كما يثير به الرجاء والارتقاب والتطلع . ومن ثم يستحيي هذهالضمائرفلا تموت ولا تغفل .
الدرسالأول:
بعض مشاهد يوم القيامة الوجوه الخاشعة المعذبة والناعمةالمنعمة
(هل أتاك حديث الغاشية ?). . ثم يعرض شيئا من حديث الغاشية:
(وجوه يومئذ خاشعة . عاملة ناصبة . تصلى نارا حامية . تسقى من عين آنية . ليسلهمطعام إلا من ضريع . لا يسمن ولا يغني من جوع). .
إنهيعجل بمشهد العذاب قبل مشهد النعيم ; فهو أقرب إلى جو(الغاشية)وظلها . . فهناك:يومئذ وجوه خاشعة ذليلة متعبة مرهقة ; عملت ونصبت فلم تحمد العمل ولم ترضالعاقبة, ولم تجد إلا الوبال والخسارة , فزادت مضضا وإرهاقا وتعبا , فهي:(عاملةناصبة). . عملت لغير الله , ونصبت في غير سبيله . عملت لنفسها وأولادها . وتعبتلدنياهاولأطماعها . ثم وجدت عاقبة العمل والكد . وجدته في الدنيا شقوة لغير زاد . ووجدتهفي الآخرة سوادا يؤدي إلى العذاب . وهي تواجه النهاية مواجهة الذليل المرهقالمتعوسالخائب الرجاء !
ومعهذا الذل والرهق العذاب والألم:(تصلى نارا حامية)وتذوقها وتعانيها .
(تسقى من عين آنية). . حارة بالغة الحرارة . . (ليس لها طعام إلا من ضريع لايسمنولا يغني من جوع). . والضريع قيل:شجر من نار في جهنم . استنادا إلى ما ورد عنشجرةالزقوم التي تنبت في أصل الجحيم . وقيل:نوع من الشوك اللاطئ بالأرض , ترعاهالإبلوهو أخضر , ويسمى "الشبرق" فإذا جني صار اسمه "الضريع" ولم تستطع الإبل مذاقهفهوعندئذ سام ! فهذا أو ذاك هو لون من ألوان الطعام يومئذ مع الغسلين والغساقوباقيهذه الألوان التي لا تسمن ولا تغني من جوع !
وواضحأننا لا نملك في الدنيا أن ندرك طبيعة هذا العذاب في الآخرة . إنما تجيءهذهالأوصاف لتلمس في حسنا البشري أقصى ما يملك تصوره من الألم , الذي يتجمع منالذلوالوهن والخيبة ومن لسع النار الحامية , ومن التبرد والارتواء بالماء الشديدالحرارة! والتغذي بالطعام الذي لا تقوى الإبل على تذوقه , وهو شوك لا نقع فيه ولاغناء. . من مجموعة هذه التصورات يتجمع في حسنا إدراك لأقصى درجات الألم . وعذابالآخرة
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ(13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
فهناوجوه يبدو فيها النعيم . ويفيض منها الرضى . وجوه تنعم بما تجد , وتحمد ماعملت. فوجدت عقباه خيرا , وتستمتع بهذا الشعور الروحي الرفيع . شعور الرضى عنعملهاحين ترى رضى الله عنها . وليس أروح للقلب من أن يطمئن إلى الخير ويرضى عاقبته, ثم يراها ممثلة في رضى الله الكريم . وفي النعيم . ومن ثم يقدم القرآن هذا اللونمنالسعادة على ما في الجنة من رخاء ومتاع , ثم يصف الجنة ومناعمها المتاحة لهؤلاءالسعداء:
(في جنة عالية). . عالية في ذاتها رفيعة مجيدة . ثم هي عالية الدرجات . وعاليةالمقامات. وللعلو في الحس إيقاع خاص .
(لا تسمع فيها لاغية). . ويطلق هذا التعبير جوا من السكون والهدوء والسلاموالاطمئنانوالود والرضى والنجاء والسمر بين الأحباء والأوداء , والتنزه والارتفاععنكل كلمة لاغية , لا خير فيها ولا عافية . . وهذه وحدها نعيم . وهذه وحدها سعادة. سعادة تتبين حين يستحضر الحس هذه الحياة الدنيا , وما فيها من لغو وجدل وصراعوزحامولجاج وخصام وقرقعة وفرقعة . وضجة وصخب , وهرج ومرج . ثم يستسلم بعد ذلكلتصورالهدوء الآمن والسلام الساكن والود الرضي والظل الندي في العبارة الموحية:(لاتسمعفيها لاغية)وألفاظها ذاتها تنسم الروح والندى وتنزلق في نعومة ويسر , وفيإيقاعموسيقي ندي رخي ! وتوحي هذه اللمسة بأن حياة المؤمنين في الأرض وهم ينأون عنالجدلواللغو , هي طرف من حياة الجنة , يتهيأون بها لذلك النعيم الكريم .
وهكذايقدم الله من صفة الجنة هذا المعنى الرفيع الكريم الوضيء . ثم تجيءالمناعمالتي تشبع الحس والحواس . تجيء في الصورة التي يملك البشر تصورها . وهي فيالجنةمكيفة وفق ما ترتقي إليه نفوس أهل الجنة . مما لا يعرفه إلا من يذوقه !
(فيها عين جارية). . والعين الجارية:الينبوع المتدفق . وهو يجمع إلى الري الجمال. جمال الحركة والتدفق والجريان . والماء الجاري يجاوب الحس بالحيوية وبالروح التيتنتفضوتنبض ! وهو متعة للنظر والنفس من هذا الجانب الخفي , الذي يتسرب إلى أعماقالحس.
(فيها سرر مرفوعة). . والارتفاع يوحي بالنظافة كما يوحي بالطهارة . .(وأكوابموضوعة). . مصفوفة مهيأة للشراب لا تحتاج إلى طلب ولا إعداد !(ونمارق مصفوفة). . والنمارقالوسائد والحشايا للاتكاء في ارتياح !(وزرابي مبثوثة). . والزرابي البسطذاتالخمل "السجاجيد" مبثوثة هنا وهناك للزينة وللراحة سواء !
وكلهامناعم مما يشهد الناس له أشباها في الأرض . وتذكر هذه الأشياء لتقريبهاإلىمدارك أهل الأرض . أما طبيعتها وطبيعة المتاع بها فهي موكولة إلى المذاق هناك . للسعداءالذين يقسم الله لهم هذا المذاق !
ومناللغو الدخول في موازنات أو تحقيقات حول طبيعة النعيم - أو طبيعة العذاب - فيالآخرة . فإدراك طبيعة شيء ما متوقف على نوع هذا الإدراك . وأهل الأرض يدركونبحسمقيد بظروف هذه الأرض وطبيعة الحياة فيها . فإذا كانوا هناك رفعت الحجب وأزيلتالحواجزوانطلقت الأرواح والمدارك , وتغيرت مدلولات الألفاظ ذاتها بحكم تغير مذاقها, وكان ما سيكون , مما لا نملك أن ندرك الآن كيف يكون ! إنمانفيد من هذه الأوصاف أن يستحضر تصورنا أقصى ما يطيقه من صور اللذاذةوالحلاوةوالمتاع .
ان هذه المقارنات العظيمة بين الحالين المختلفين والمشهدين المفترقين دعوة الى الى تنمية الفكر والتفكير من خلال التخيل والتصور للمشاهد الغيبية في العالم الاخر
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
الدرس الثاني
دعوة للتأمل في آيات الله في الكون
فدعا القرآن الكريم الى التأمل والتفكير حتى فيالأمور المألوفة والمشاهد المتكررة، ليتدرب العقل علىتركيز التفكير وتوجيه الانتباه القصدي الى كل ما حولنا
وتنتهيهذه الجولة في العالم الآخر , فيؤوب منها إلى هذا الوجود الظاهر . الحاضر. الموحي بقدرة القادر وتدبير المدبر , وتميز الصنعة , وتفرد الطابع . الدال على أنوراءالتدبير والتقدير أمرا بعد هذه الحياة , وشأنا غير شأن الأرض . وخاتمة غيرخاتمةالموت:
(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت , وإلى السماء كيف رفعت , وإلى الجبال كيف نصبت, وإلى الأرض كيف سطحت ?). .
وتجمعهذه الأيات الأربعة القصار , أطراف بيئة العربي المخاطب بهذا القرآن أولمرة. كما تضم أطراف الخلائق البارزة في الكون كله . حين تتضمن السماء والأرضوالجبالوالجمال [ ممثلة لسائر الحيوان ] على مزية خاصة بالإبل في خلقها بصفة عامةوفيقيمتها للعربي بصفة خاصة .
إنهذه المشاهد معروضة لنظر الإنسان حيثما كان . . السماء والأرض والجبالوالحيوان. . وأيا كان حظ الإنسان من العلم والحضارة فهذه المشاهد داخلة في عالمهوإدراكه. موحية له بما وراءها حين يوجه نظره وقلبه إلى دلالتها .
والمعجزةكامنة في كل منها . وصنعة الخالق فيها معلمة لا نظير لها . وهي وحدهاكافيةلأن توحي بحقيقة العقيدة الأولى . ومن ثم يوجه القرآن الناس كافة إليها:
(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ?). . والإبل حيوان العربي الأول . عليها يسافرويحمل. ومنها يشرب ويأكل . ومن أوبارها وجلودها يلبس وينزل . فهي مورده الأولللحياة. ثم إن لها خصائص تفردها من بين الحيوان . فهي على قوتها وضخامتها وضلاعةتكوينهاذلول يقودها الصغير فتنقاد , وهي على عظم نفعها وخدمتها قليلة التكاليف . مرعاهاميسر , وكلفتها ضئيلة , وهي أصبر الحيوان المستأنس على الجوع والعطش والكدحوسوءالأحوال . . ثم إن لهيئتها مزية في تناسق المشهد الطبيعي المعروض كما سيجيء . .
لهذاكله يوجه القرآن أنظار المخاطبين إلى تدبر خلق الإبل; وهي بين أيديهم , لاتحتاجمنهم إلى نقلة ولا علم جديد . .(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ?). . أفلاينظرونإلى خلقتها وتكوينها ? ثم يتدبرون:كيف خلقت على هذا النحو المناسب لوظيفتها, المحقق لغاية خلقها , المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعا ! إنهم لم يخلقوها . وهيلمتخلق نفسها , فلا يبقى إلا أن تكون من إبداع المبدع المتفرد بصنعته , التي تدلعليه, وتقطع بوجوده ; كما تشي بتدبيره وتقديره .
(وإلى السماء كيف رفعت ?). . وتوجيه القلب إلى السماء يتكرر في القرآن . وأولىالناسبأن يتوجهوا إلى السماء هم سكان الصحراء . حيث للسماء طعم ومذاق , وإيقاعوإيحاء, كأنما ليست السماء إلا هناك في الصحراء !
السماءبنهارها الواضح الباهر الجاهر . والسماء بأصيلها الفاتن الرائق الساحر . والسماءبغروبها البديع الفريد الموحي . والسماء بليلها المترامي ونجومها المتلألئةوحديثهاالفاتر . والسماء بشروقها الجميل الحي السافر .
هذهالسماء . في الصحراء . . أفلا ينظرون إليها ? أفلا ينظرون إليها كيف رفعت ? منذا رفعها بلا عمد ? ونثر فيها النجوم بلا عدد ? وجعل فيها هذه البهجة وهذاالجمالوهذا الإيحاء ? إنهم لم يرفعوها وهي لم ترفع نفسها . فلا بد لها من رافع ولابدلها من مبدع . لا يحتاج الأمر إلى علم ولا إلى كد ذهن . فالنظرة الواعية وحدهاتكفي. . .
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
والى الجبال كيف نصبت
الجبال عند العرب ملجأ بصفة خاصة
وملاذ, وأنيسوصاحب ,,واستهلالاجلالاومشهدها يوحي إلى النفس الإنسانية حيثيتضاءل الإنسان إلى جوارها ويستكين , ويخشعللجلال السامق الرزين في أحضان الجبل تتجه بطبيعتها إلى الله, وتبعدعنواغشالأرض وضجيجها وحقاراتهاالصغيرة .
ولم يكن عبثا ولا مصادفة أن يتحنث الرسول صلى الله عليه وسلم في غار
.من الزمنيتجه إلى الجبل من يريدون النجوة بأرواحهم فترات
والجبالهنا (كيف نصبت)لأن هذه اللمحة تتفق من الناحية التصويرية مع طبيعةالمشهدكما سيجيء .
(وإلى الأرض كيف سطحت ?). . والأرض مسطوحة أمام النظر , ممهدة للحياة والسيروالعمل, والناس لم يسطحوها كذلك . فقد سطحت قبل أن يكونوا هم . . أفلا ينظرونإليهاويتدبرون ما وراءها, ويسألون:من سطحها ومهدها هكذا للحياة تمهيدا ?
إنهذه المشاهد لتوحي إلى القلب شيئا . بمجرد النظر الواعي والتأمل الصاحي . وهذاالقدر يكفي لاستجاشة الوجدان واستحياء القلب . وتحرك الروح نحو الخالق المبدعلهذهالخلائق .
ونقفوقفة قصيرة أمام جمال التناسق التصويري لمجموعة المشهد الكوني لنرى كيفيخاطبالقرآن الوجدان الديني بلغة الجمال الفني , وكيف يعتنقان في حس المؤمن الشاعربجمالالوجود . .
إنالمشهد الكلي يضم مشهد السماء المرفوعة والأرض المبسوطة . وفي هذا المدىالمتطاولتبرز الجبال "منصوبة " السنان لا راسية ولا ملقاة , وتبرز الجمال منصوبةالسنام. . خطان أفقيان وخطان رأسيان في المشهد الهائل في المساحة الشاسعة . ولكنهالوحةمتناسقة الأبعاد والاتجاهات ! على طريقة القرآن في عرض المشاهد , وفي التعبيربالتصويرعلى وجه الإجمال .
تأتي ينطرون بعد استفهام يفيد الإنكار والتوبيخ. والتقدير أَعَمُوا فلا ينظرون كما في قوله: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} أو أغفلوا وعموا فلم ينظروا إلى آيات الله الباهرة. وفي هذا تقريع لكل ذي نظر لا يعمله في التفكير والتأمل والاتعاظ
الدرسالثالث: واجب الرسول التذكير وتهديد الكفار بالعذاب
والآنبعد الجولة الأولى في عالم الآخرة , والجولة الثانية في مشاهد الكونالمعروضة, يلتفت إلى الرسول يوجهه إلى حدود واجبه وطبيعة وظيفته , ويلمسقلوبهماللمسة الأخيرة الموقظة:
فذكرإنما أنت مذكر . لست عليهم بمسيطر . إلا من تولى وكفر . فيعذبه الله العذابالأكبر. إن إلينا إيابهم . ثم إن علينا حسابهم . .
فذكربها وذاك . ذكرهم بالآخرة وما فيها . وذكرهم بالكون وما فيه . إنما أنتمذكر. هذه وظيفتك على وجه التحديد . وهذا دورك في هذه الدعوة , ليس لك ولا عليكشيءوراءه . عليك أن تذكر . فإنك ميسر لهذا ومكلف إياه .
(لست عليهم بمسيطر). . فأنت لا تملك من أمر قلوبهم شيئا . حتى تقهرها وتقسرهاعلىالإيمان . فالقلوب بين أصابع الرحمن , لا يقدر عليها إنسان .
فأماالجهاد الذي كتب بعد ذلك فلم يكن لحمل الناس على الإيمان . إنما كان لإزالةالعقباتمن وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس . فلا يمنعوا من سماعها . ولا يفتنوا عندينهمإذا سمعوها . كان إزالة العقبات من طريق التذكير . الدور الوحيد الذي يملكهالرسول.
وهذاالإيحاء بأن ليس للرسول من أمر هذه الدعوة شيء إلا التذكير والبلاغ يتكررفيالقرآن لأسباب شتى .
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
فيأولها إعفاء الرسول من حمل هم الدعوةبعد البلاغ ,
وتركها لقدراللهيفعلبها ما يشاء . إلحاح الرغبة البشرية بانتصار دعوة الخير وتناول الناسلهذاالخير, إلحاحعنيف جدا يحتاج إلى هذا الإيحاء المتكرر بإخراج الداعية لنفسهولرغائبههذه من مجال الدعوة, كيينطلق إلى أدائها كائنة ما كانت الاستجابة , وكائنةما كانت العاقبة. فلايعني نفسه بهم من آمن وهم من كفر . ولا يشغل بالهبهذاالهم الثقيل حين تسوء الأحوال من حول الدعوة, وتقلالاستجابة , ويكثرالمعرضونوالمخاصمون.
وممايدل على إلحاح الرغبة البشرية في انتصار دعوة الله وتذوق الناس لما فيها منخيرورحمة , هذه التوجيهات المتكررة للرسول وهو من هو تأدبا بأدب الله ومعرفةلحدودهولقدر الله . . ومن ثم اقتضى إلحاح هذه الرغبة هذا العلاج الطويل المتكرر فيشتىالأحيان . .
ولكنإذا كان هذا هو حد الرسول , فإن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد . ولا يذهبالمكذبونناجين , ولا يتولون سالمين . إن هنالك الله وإليه تصير الأمور:
(إلا من تولى وكفر . فيعذبه الله العذاب الأكبر). .
وهمراجعون إلى الله وحده قطعا , وهو مجازيهم وحده حتما . وهذا هو الإيقاعالختاميفي السورة في صيغة الجزم والتوكيد .
(إن إلينا إيابهم . ثم إن علينا حسابهم). .
بهذا يتحدد دور الرسول في هذه الدعوة . ودور كل داعية إليها بعده . . إنما أنت مذكر وحسابهم بعد ذلك على الله . ولا مفر لهم من العودة إليه , ولا محيد لهم من حسابه وجزائه . غير أنه ينبغي أن يفهم أن من التذكير إزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس وليتم التذكير . فهذه وظيفة الجهاد كما تفهم من القرآن ومن سيرة الرسول سواء , بلا تقصير فيها ولا اعتداء . .
الخاتمة
الحمد لله رب العالمين والصلاةو السلام على سيد المرسلين محمد وعلى اله وصحبه اجمعين
قيل قديما انا افكر اذا انا موجود التفكير هو الوجود والحياة الانسان بلاعقل يفكر ليس له وجود
صدق الله عزوجل في قوله(( ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولى الالباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارضربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار))
اللهم اجعلنا ممن يستمعون اياتك وينظرون في ارضك وسمواتك ويقلبون النظر بين مخلوقاتك فيتفكرون فيها اناء الليل واطراف النهار
المراجع
- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريممحمد فؤاد عبد الباقي
- عباسمحمود العقاد،التفكيرفريضةإسلامية
- مقالة : أساليب كثيرة ذكرها القرآن الكريم تدعو العقل إلىالإنتاج وتطوير الفكر د.جمال بدوي
- تأسيس التفكير العلمي بآيات النظر والاستدلال
د.ناول عبد الهادي