خطبة عيد الأضحى 1440هـ - 2019 م
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الجمعة 9 أغسطس 2019 م
عدد الزيارات : 2086
مقدمة:
الحمدُ لله الّذي جعَل الأعياد في الإسلام مَصدرًا للهناء والسُّرور، الحمد لله الّذي تفضَّل في هذه الأيَّام العشر على كلِّ عبدٍ شَكُور، سبحانه غافِر الذنب وقابِل التَّوب شديد العِقاب.
1- معاني العيد ولماذا شُرع؟
معنى العيد: هو اسمٌ لكل ما يعتاد ويعود ويتكرّر، والجمع أعياد، وسُمّي العيد بهذا الاسم لأنّه يعود كلّ سنة بفرح مُجَدّدٍ.
الأعياد سنّةٌ فطريّةٌ جُبل النّاس عليها من قديمٍ، عرفوها منذ أن عرفوا الاجتماع والتّقاليد والذّكريات، ولكلّ أمّةٍ أعياد تُظهر فيها زينتها، وتعلن سرورها وفرحها.
والعيد في إدخال البهجة على النّفوس يعتبر بمثابة واحةٍ غنّاءٍ في صحراء العام، تستجمّ فيها النّفوس من عناء الحياة، وتسرّي عن نفسها ما أصابها من جهدٍ ومشقّةٍ، وهي تقطع رحلتها الطّويلة على هذه الأرض.
وفي الجاهلية قبل الإسلام: كانت للأمّة أعيادٌ، ولكنّهم كانوا يملؤونها باللهو واللعب، ولمّا جاء الإسلام صحّح أوضاع الأعياد، وعدّل مناهجها، وجعلها تشير إلى ذكرياتٍ نافعةٍ، وتدلّ على طريق الخير وتسوق النّفوس إليه، وتثبّت في المجتمع مبادئ العدل والحقّ والتّراحم بين النّاس، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: (قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَلَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ يَوْمَيْنِ خَيْرًا مِنْهُمَا، يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ). مسند الإمام أحمد: 12827
وإذا كانت الأمم تفرح في أعيادها فرحاً مطغياً، وتلعب لعباً عابثاً صاخباً، وتلهو لهواً فاجراً، ترتكب فيه الموبقات، وتنتهك فيه المحرّمات، فإنّ الأمّة الإسلاميّة تفرح بأعيادها فرحاً من طرازٍ له جلاله ووقاره.
2- أقبل العيد فامسح دموع الحزن
أقبل العيد حاملاً بين طيّاته أملاً جديداً وفضلاً إلهيّاً عظيماً، ليقول للقلوب المكلومة: هوّني عليك بعض الألم ولتمسحي دموع الحزن ولتفرحي بفضل الله وبرحمته، كما قال ابن رجب رحمه الله: "والعيد هو موسم الفرح والسّرور، وأفراح المؤمنين وسرورهم في الدّنيا إنّما هو بمولاهم إذا فازوا بإكمال طاعته، وحازوا ثواب أعمالهم بوثوقهم بوعده لهم عليها بفضله ومغفرته، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]". لطائف المعارف، ص274
وإنّ من الخطأ أن يستثير المسلم أحزانه ويستذكر آلامه يوم العيد، فإن هاجمته تلك الهواجس فليردّها باستذكار فضل الله ونعمه عليه، وليتذكّر أنّ نبينا صلى الله عليه وسلم كان يكتم أحزانه يوم العيد ويظهر الفرح والسّرور ويسمح باللهو المباح، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه، دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى تُغَنِّيَانِ، وَتُدَفِّفَانِ، وَتَضْرِبَانِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، فَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ: (دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ). صحيح البخاريّ: 3529
3- فرحة العيد لمن؟
هل تكون فرحة العيد للّذين يعصون ربّهم جلّ في علاه، أو للّذين ينافقون ويكذبون، أو يغشّون ويداهنون؟! هل هي للّذين يظلمون ويستبدّون، أو يأكلون أموال اليتامى ظلماً ويتعدّون حدود الله بغياً؟!
كلّا والله، ليس لهم فرحة العيد ولو لبسوا الجديد وأظهروا البهجة والسّرور.
فرحة العيد: لمن يهتمّ بأمر المسلمين؛ فيصلح بين المتخاصمين، ويضع عن كاهل المستضعفين، ويجعل يديه ممّراً لعطاء الله تعالى، حيث ينفق بالليل والنّهار سرّاً وعلانيةً بكرةً وعشيّةً.
فرحة العيد: للّذي كان وقّافاً عند حدود الله، لا يتعدّاها ولا ينساها، وإنّما يحفظها ويرعاها.
فرحة العيد: للّذي أحسن إلى والديه طائعاً لهما في غير معصيةٍ، شاكراً لهما، متمثّلاً قول الله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 14-15].
فرحة العيد: للّذي وصل أرحامه وأحسن إليهم وتفقّد أحوالهم، فإن كانوا محتاجين ساعدهم بما يستطيع، وإن كانوا مرضى عادهم ودعا لهم، فينال بهذا رضى الله تعالى، فإنّ صلة الرّحم تتنوّع حسب الرّحم الموصولة، وإنّ الرّحم لتدعو لصاحبها إذا وصلها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَ: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ، فَقَالَ: أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَذَلِكِ لَكِ)، ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمّد: 22]. صحيح البخاريّ: 7502
فرحة العيد: لمن غسل قلبه من الأحقاد والأضغان والغلّ والحسد، وجعل قلبه سليماً على إخوانه المسلمين عامّةً وأقربائه خاصّةً، فسلامة الصّدر هي خير زادٍ يرحل به العبد إلى مولاه، فقد قال تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشّعراء: 87-89].
فرحة العيد: لمن أقبل إلى إخوانه الّذين حصلت بينه وبينهم فجوةٌ وانقطاعٌ من أجل عرضٍ من أعراض الدّنيا، فسارع إلى الاصطلاح معهم تنفيذاً لأمر الله تعالى، وابتغاءً لمرضاته، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ: فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ). صحيح البخاريّ: 6077
4- العيد يوم التّضحية والفداء
عيد الأضحى يوم التّضحية والفداء، يوم الفرح والصّفاء، يوم المكافأة من ربّ الأرض والسّماء، للنّبيَّين الكريمَين إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام، صاحبَي الفضل والعطاء، إبراهيم الّذي امتُحن بامتحاناتٍ شديدةٍ من ربّه سبحانه، فاجتازهنّ بنجاحٍ، حيث قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124].
اجتازهنّ بسهولةٍ مع مراتب الشّرف، بتوفيق الله له مع مقامات اليقين، لأنّه قال: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصّافات: 99].
إبراهيم عليه الصلاة والسلام يُمتحن ليُمنح، ويُختبر ليعلو، ويُبتلى ليسمو، وهكذا هو طريق الأنبياء عليهم السّلام، ومن سار على دربهم، إنّه امتحان صعبٌ وشاقٌّ ابتلي به سيّدنا إبراهيم، قال تعالى عنه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصّافات: 106]. 
وما أشدّه من امتحانٍ أن يُبتلى بذبح ولده الوحيد، وأن يذبحه بيده وهو المحبوب إلى قلبه وفلذة كبده، فيصبر ويستسلم لتنفيذ أمر الله تعالى، فيأتي الفرج من الله تعالى، ويجيء الفداء من السّماء، قال تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصّافات: 107]. 
ولا يقتصر المنح والاصطفاء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإنّما لكل المحسنين والمخلصين، فقد قال تعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصّافات: 110].
فليت الأمّة اليوم تتعلّم الفداء، فالإسلام تكاثر عليه الأعداء، وتكالبت عليه الأكلة من الأمم، فقد سُلبت المقدّسات، وانتُهكت الأعراض، وسُفكت الدّماء، وأصبح الإسلام غريباً في وطنه، فهل يوجد اليوم من يكون كإبراهيم في هذه الأمّة، فالإسلام أحوج ما يكون اليوم إلى مضحّين وفادين من أوقاتهم ومن أبنائهم ومن أموالهم، ومن كلّ ما أعطاهم الله لهم؛ حتّى يسمو الفرد وتعلو الأمّة، وحتّى ينتصر الدّين وتعلو راية الحقّ المبين.
5- تذكيرٌ بسنّة الأضحية
في هذا الأيّام تُذبح الضّحايا ويوسّع على الفقراء والمساكين والأرامل واليتامى، فاذبحوا ضحاياكم طيّبةً بها نفوسكم، اذبحوها مبتغين بها وجه الله تعالى بعد صلاة العيد، وحتّى آخر أيام التّشريق، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَضْحَى بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا قَضَى خُطْبَتَهُ نَزَلَ مِنْ مِنْبَرِهِ وأُتِيَ بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، وَقَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا عَنِّي، وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي). سنن أبي داوود: 2810
فاقتدوا بنبيّكم، واعلموا أنّ الأضحية تربّي في المسلم خُلق التّضحية لله وحده، لنضحّي بالشّهوات والملذّات ابتغاء وجه ربّ الأرض والسّماوات، ولنضحّي بما يفنى، ابتغاء الحصول على ما يبقى، عند ربنّا سبحانه في جنّة المأوى.
والله نسأل أن يُدخل الفرحة في هذا اليوم إلى كلّ بيتٍ، وأن يجعلها تعمّ كلّ أسرةٍ، إنّ ربّنا سميعٌ مجيبٌ، والحمد لله ربّ العالمين.
 

http://shamkhotaba.org