تزكية النفس
الكاتب : ياسر محمد المقداد
الخميس 9 يناير 2014 م
عدد الزيارات : 9855

تزكية النفس

الخطبة الأولى

أما بعد :

عبادَ الله  ،قال تعالى:(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى )  وقال:(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)

إنّتزكيةَ النفوس وتقويمَها وإصلاحَ القلوب وتَطهيرَها أملٌ سَعَى إليه العُقلاءُ في كلّ الثقافات وفي كل الحضارات منذ أقدَمِ العصورِ، فسلكوا إلى بلوغِهِ مسالكَ شتَّى، وشرعوا لأنفُسِهم مناهجَ وطرائقَ قِددًا، وحسِبوا أنَّ في أَخذِهم أنفسَهم بها إِدراكَ المُنى وبلوغَ الآمال في الحَظوة بالحياةِ الطيِّبة والعيش الهانِئِ السّعيد؛ فمن تعذيبٍ للجسد بأمورٍ وأعمالٍ مُضنِية، أسمَوها: رياضات ومُجاهدات، إلى إغراقٍ في الشهوات وانهماكٍ في طَلَب اللذَّات بإسرافٍ على النّفس لا حدَّ يحُدُّه، إلى عُكوفٍ على منَاهجَ فلسفيّة وتأمّلاتٍ قائمةٍ على شَطَحاتٍ وخَيالات لا سَنَد لها مِن واقعٍ، ولا ظهيرَ لها مِن عَقلٍ، إلى غير ذلك من نزَعاتٍ وطرائقَ لا يجدُ فيها اللبيبُ ضالَّتَه، ولا يبلغُ منها بُغيتَه.

غير أنَّ كلَّ من أُوتِي حظًّا من الإنصاف ونصيبًا من حُسن النظر والبَصَر بالأمور لا يجِدُ حرجًا في الإقرار بأن السعادةَ الحقَّة التي تَطيبُ بها الدنيا وتطمئنُّ بها القلوب وتزكُو النفوس هي تلكَ التي يُبيِّنُها ويكشِفُ عن حقيقتها الكتابُ الحكيم والسنةُ الشريفة بأوضحِ عبارةٍ وأدقِّها وأجمَعِها في الدّلالة على المقصود.

 

عبادَ الله،لقد أرسل الله رُسلَه وأنزل كتبَه ليُرشِد الناس إلى سُبُل تزكيةِ أنفسِهم وإصلاح قلوبهم، وليُبيِّن لهم أنَّ ذلك الأمرَ لن يتحقَّق إلا حينَ يُؤدُّون حقَّ الله عليهم في إخلاصِ العبودية له؛ إذ هي الغايةُ من خلقه سبحانه لهم، ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).

وقَد جاءَ في كتاب الله وسنّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانُ الطّريقِ إلى هذه التزكيةِ التي جعل الله فلاحَ المرءِ مرهونًا بها، وجعَل الخيبةَ والخُسرانَ مرهونًا بضِدِّها، وهو التدسِية؛ أي: تخبيثُ وتلويثُ النفس وإفسادُها بالخطايا، فقال سبحانه: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)وقال سبحانه في خطاب نبيِّه موسى عليه السلام- حين أرسله إلى فرعون: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى)

وإنّ هذا الكتاب المبارَك الذي جعله الله روحًا تحيا به القلوب، ونورًا تنجابُ به الظلمات، (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)إنّ هذا الكتابَ ليُصرِّحُ أنّ أساسَ التزكيةِ في الإسلام وروحها وعمادَها ومحورَها توحيدُ الله تعالى.

وحقيقتُه كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "أن يشهدَ العبدُ انفرادَ الربِّ تبارك وتعالى بالخلق والحُكم، وأنه ما شاء كان، وما لم يشَأ لم يكن، وأنه لا تتحرَّك ذرَّةٌ إلا بإذنه، وأن الخلقَ مقهورون تحت قبضَته، وأنه ما من قلبٍ إلا وهو بين إصبعين من أصابعه إن شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإن شاء أن يُزيغَه أزاغَه، فالقلوب بيده، وهو مُقلِّبها ومُصرِّفها كيف شاء وكيف أراد، وأنه هو الذي آتَى نفوس المؤمنين تقواها، وهو الذي هداها وزكَّاها، وألهمَ نفوسَ الفُجَّار فجورَها وأشقاها، من يهدِ الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويُضِلُّ من يشاء بعدله وحكمته، هذا فضُه وعطاؤه، وما فضلُ الكريم بممنون، وهذا عدلُه وقضاؤه، (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).

وفي هذا المشهَدِ يتحقَّقُ للعبد مقامُ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) علمًا وحالاً؛ فتثبُت قدمُ العبد في مقام العبودية الخاصة، فإنه إذا تيقَّن العبد أنّ الضرَّ والنفع والعطاءَ والمنعَ والهُدى والضلال والسعادةَ والشقاء؛ كلُّ ذلك بيد الله لا بيد غيره، وأنه الذي يُقلِّبُ القلوب ويُصرِّفها كيف يشاء، وأنه لا مُوفَّق إلا من وفَّقه وأعانَه، ولا مخذولَ إلا من خذَلَه وأهانَه وتخلَّى عنه، وأن أصحَّ القلوب وأسلمَها وأقومَها وأرقَّها وأصفاها من اتخذَه وحده إلهًا ومعبودًا، فكان أحبَّ إليه من كل ما سواه، وأخوفَ عنده من كل ما سواه، وأرجَى له من كل ما سواه . . فهذا علامةُ حياة القلب بالعبودية الحقيقية لربه ومولاه .

فيشعر حينها أن لا عاصمَ من غضبه وسخَطه إلا هُو،ولا مفرّ من عقابه إلا إليه فيفرّ من الله إلى الله!! كما يستشعر أن لا سبيلَ إلى طاعته إلا بمعُونته، ولا وصول إلى مرضاته إلا بتوفيقِه؛ فمواردُ الأمور كلِّها منه، ومصادرُها إليه،فلا مُستعانَ للعباد إلا به، ولا مُتَّكَل إلا عليه، كما قال شعيب خطيب الأنبياء: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

أيها الأحبة : إنّ أثر التوحيد في التزكية في حياة المسلم ليَبدو جليًّا في توحيد الهدف والغاية واتفاق العلم والعمل؛ حتى يكون فهمُ المسلم وعقيدتُه وعلمُه وعملُه وقصدُه واتجاهاتُ قلبه ونشاطُه منتظمًا في سلكٍ واحد، مُتوافقٍ مُؤتلِف، لا تعارُض فيه ولا تضارُب، ليخلص بذلك من اضطراب النفس وقلقها ، فإن قلق النفس و اضطرابها إنما يأتي من فراغها أو عدم تبصّرها لطريقها وغايتها وهدفها .

أيها الأخوة : وإنّ مما يُزكِّي النفوس: تجديدُ الإيمان فيها على الدوام؛ إذ الإيمانُ يخلَقُ كما تخلَقُ الثياب، ولذا كان صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذُ أحدُهم بيد الآخر فيقول: (تعالَ نُؤمن ساعة) فيجلِسان فيذكُران الله تعالى .

وفي ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه وطاعته والازدلافِ إليه أعظمُ ما يُجدِّدُ الإيمانَ في نفس المؤمن الذي يعلَمُ أن الإيمان يزيدُ بالطاعة وينقُص بالمعصية، فيعمل على زيادة إيمانه بصدق الالتجاء إلى الله تعالى الذي تكون أظهرُ ثِماره المُباركة تزكيةُ النفوس كما جاء في الدعاء النبويّ الكريم: ((اللّهمّ آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها)).

ومما يُزكِّي النفسَ ويُصلِحُ القلب: دوامُ تذكُّر نعم الله التي أنعمَ بها على عباده؛ فإن إحصاءها خارجٌ عن مقدور البشر، كما قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)  فإن هذا التذكُّر لهذه النعم يُورِثُ الذاكِر لها كمالَ تعلُّقٍ بربّه، وتمامَ توجُّهٍ إليه، وخضوعًا وتذلُّلاً له سبحانه؛ فإنّ كلَّ ما وهبَه من حياةٍ وصحةٍ ومالٍ وولدٍ وجاهٍ وغيرها إنما هو منَّةٌ منه، وفضلٌ وإنعامٌ أنعمَ به كيف ومتى شاء، ولو شاء لسلَبَ ذلك منه متى شاء؛ فإنه مالكُ الملك كلِّه، بيده الخيرُ يُؤتيه من يشاء، ويصرِفُه عمن يشاء.

ومعرفةُ ذلك ودوامُ تذكُّره باعثٌ على مَعرِفة العبد بعَجزِه وضعفه وافتقاره إلى ربّه في كلّ شؤونه، غير أنّ تذكُّر النّعم لا بد من اقترانه بالعمل الذي يرضاه الله ويُحبُّه ويُثيبُ عليه يوم القيامة، وحقيقتُه: فعلُ الخيرات، وتركُ المنكرات ، مع عنايةِ الخاصةِ بالفرائضِ التي افترضَها الله على عباده؛ إذ هي أحبُّ ما يتقرَّبُ به العبدُ إلى ربه، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه.: ((إن الله تعالى قال: من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعيذنَّه)) .

ومما يُزكِّي النفسَ أيضًا: أعمالُ القلوب؛ فإن القلبَ ملكُ الجوارح، تصلُح بصلاحه، وتفسُد بفساده، كما جاء في الحديث عن حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: ((ألا وإن في الجسد مُضغةً، إذا صلَحت صلَح الجسدُ كله، وإذا فسَدت فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب))

ومن أهمّها وأعظمها: نيةُ المرء ومقصودُه من كلّ عملٍ يعمله؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نَوَى؛ فمن كانت هِجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرتُه إلى دُنيا يُصيبُها أو امرأةٍ ينكِحُها فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه))

فاتقوا الله عبادَ الله، واتّخذوا من كتاب ربِّكم وسنّة نبيِّكم صلى الله عليه وسلمخيرَ مَنهجٍ لتزكية النفوس وإصلاح القلوب، ابتغاءَ رضوان الله، واقتفاءً لأثر الصفوة من عباد الله، (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

أما بعد :

عباد الله، إنَّ النقص والتقصيرَ والخطأ لا يَنفَكُّ عنه إنسان، ولا يَسلمُ منه إلا مَن عصمَه الله، ولذا جاء الأمرُ بالتوبة للناس جميعًا بقولِه سبحانه: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

والتوبةُ -يا عبادَ الله- من أعظم أسباب التزكيةِ للنفس والإصلاحِ للقلب؛ فإنَّ عبودية التوبةِ كما قال ابن القيم رحمه الله: "من أحبِّ العبوديات إلى الله وأكرمها عليه، فإنه سبحانه يحبُّ التوابين، ولو لم تَكن التوبةُ أَحبَّ الأشياء إليه لما ابتَلَى بالذَّنبِ أكرمَ الخلق عَليه، فلِمَحبَّته لتوبة عبده ابتلاه بالذنب الذي يُوجِبُ وقوعَ محبوبِه من التوبة وزيادة محبَّته لعبده.

فإنَّ للتوبة عنده سبحانه منزلةً ليست لغيرِها من الطاعات، ولهذا يَفرَحُ سبحانه بِتوبَة عبده حين يتوبُ إليه أعظَمَ فرحٍ يُقدَّر، كما مثَّله النبيُّ صلى الله عليه وسلم بفرَح الواجِدِ لراحِلَته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرضِ الدويَّة المُهلِكة بعدما فقدَها وأيِسَ من أسباب الحياة، ولم يجِئ هذا الفرح في شيءٍ من الطاعات سوى التوبَة.

فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه ، فإن نبيكم كان يتوب في اليوم أكثر من مئة مرة، كما في الحديث : ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله؛ فإنّي أتوبُ في اليوم إليه مائةَ مرة))

واعلموا أن التوبة كما تكون من الذنب تكون كذلك من التقصير في الخيرات أو عدم المسارعة فيها ، أو التوبة من مرتبة أدنى من التعبد توقاً لمرتبة أرقى .

 

 


http://shamkhotaba.org