مقدمة:
لقد بلغت جراحات الأمة -خاصّةً في الشام- مبلغاً عظيماً تجاوز الحديث فيه المجاملات والمزايدات، ولئلّا يظنّ ظانٌّ أنّ المنبر بعيدٌ عن أحداث الأمّة وما يحلّ بها، ومن جهةٍ أخرى فإنّ غياهب السّياسة المظلمة والتّقلّبات السّريعة لتدعونا وبإلحاحٍ أن نضع خطوطاً عريضة للمسلم يخطو من خلالها بخطواتٍ ثابتةٍ في مسيره إلى الله تعالى، سيما في هذا المعترك الغامض والمنعطف الخطير، ولأنّ الجميع يتساءل عن الفاعليّة، وكلٌّ منّا يسأل بلسان الحال والمقال: ماذا عليّ أن أصنع الآن؟ وكيف لي أن أغيّر من هذا الواقع الحرج؟ كيف لي أن أحاول تضميد هذا الجرح النّازف؟ ما هو أدب الزّمان وفقه الواقع وسلّم الأولويات الآن؟
ينبغي أن ندرك أنّ الوقت لا يتسّع لتصفية الحسابات الصغيرة بقدر ما يتطلّب منّا جميعاً أن نعي خطورة الوضع الرّاهن، ومحاولة صبِّ الجهود في صناعة مشروعنا الرّبّانيّ، وأن نعي جيداً فقه أولويّاتنا وأدب الوقت الّذي نعيشه، من هنا كانت عنوان مادّتنا "أدب الزّمان"، بمعنى: أدب الوقت وفقه الأولويّات في واقعنا الّذي نعيشه.
1- ما المقصود بأدب الزّمان؟
أدب الزّمان، أو أدب الوقت: مصطلحٌ أطلقه بعض علمائنا القدامى على ما ينبغي أن يتحلّى به الفرد من آداب وأخلاق، وعلى ما ينبغي أن يقوم به من أعمال، ويقِفه من مواقف انسجاماً مع الزّمان الّذي يعيش فيه.
تتولد في كلّ زمانٍ ظروف وأوضاع جديدة، وهي تتطلّب نوعاً من الاهتمام الخاصّ والجدّيّ بأمرٍ من الأمور، أو الاهتمام بخلقٍ من الأخلاقٍ.
أمثلةٌ: يتطلب منّا عند انتشار الجهل في بلدٍ من البلدان أن نهتّم بالعِلم، وحين يكون هناك اهتمامٌ واضحٌ بالعِلم لدى النّاس فلسنا في حاجةٍ إلى أن نتحدّث عن إرسال النّاس أولادَهم إلى المدارس ما داموا يفعلون ذلك، لكن حين ينتشر الجهل في أمّةٍ فحين ذلك يكون من أدب الزّمان ومن أدب الوقت أن نركّز على أهمّيّة العلم في حياة النّاس.
عندما نكون في زمانٍ أو في بيئةٍ معيّنةٍ ينتشر فيها الفقر، يكون من أدب الزّمان حينئذٍ أن نحثّ النّاس على العمل، وعلى كسب الرّزق، وعلى اكتساب حرفةٍ يعيش النّاس من ورائها، ونحثّهم على التّدّرب، وعلى اكتساب مهارةٍ من المهارات.
ينشغل النّاس أحياناً بالدّنيا وبالمادّة، وتأتي عليهم موجةٌ يصبح جلُّ اهتمامهم فيها بالطّعام والشّراب، والحديث عن المطعم الفلانيّ، وهذا أطيب، وهذا أرخص، وهذا من البلد الفلانيّ، وهذا من كذا... في هذه الحالة يجب علينا أن نواجه هذه الموجة ليس بالاستسلام لها، وإنّما أدب الزّمان وأدب الوقت يوجِب علينا أن نجعل أنظار النّاس باستمرارٍ مشدودةً نحو الهدف الجوهريّ من وجودنا على هذه الأرض.
وإنّنا حين نستعرض سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم نجد حرصه على أدب الوقت الّذي يعيشه، فحينما يرى الأحزاب متجمّعةً حول المدينة المنوّرة في عشرة آلاف مقاتلٍ -وهو رقمٌ ضخمٌ جدّاً في ذلك الوقت- والصّحابة يعيشون تلك الضّائقة الشّديدة، والحبيب صلى الله عليه وسلم وفي وسط تلك الضّائقة لا يرى أدباً مثل بثّ روح الأمل والتّفاؤل والبشرى لأصحابه الّذين برّح بهم الخوف والقلق والتّعب، فمن وسط هذا الواقع الّذي يعيشونه يضرب الحجر الضّخم الّذي استعصى على الصّحابة، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ) فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا)، ثُمَّ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ) وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا) ثُمَّ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ) وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا).
وحينما نرى منهج اختياره للمدعوّين واقترابه منهم والبدء بترسيخ الحبّ قبل الدّعوة ندرك سلّم أولوياته في الأشخاص، فالحبّ أدب الدّعوة الأوّل، وهو المرحلة الأولى من مراحلها، فالسّيّدة خديجة هي الّتي أحبّت الحبيب صلى الله عليه وسلم حبّاً جمّاً، فكان هذا الحبّ هو الطريق لتصديق العقل.
ثمّ اختار الحبيب أحبّ الرجال إلى قلبه: أبو بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه، وانتقاله بعد الصّدّيق إلى الحِبّ زيد بن حارثة، كلّ ذلك يدلّ على اهتمام الحبيب صلى الله عليه وسلم بأدب الوقت وسلّم الأولويّات، لذلك استأهل أن يكون القدوة الأوحد والأسوة الأوّل في كلّ مناحي الحياة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
2- ما السّبيل إلى معرفة أدب الوقت وأولويّة التصرّف والموقف في هذه المرحلة؟
والسّؤال الّذي يجول في أذهاننا ويتردد في خلدنا والّذي يطرح نفسه بعد هذه المقدّمة: كيف السّبيل إلى معرفة أدب الوقت وأدب الزمان؟ وكيف يستطيع الإنسان أن يعرف أولويّة التّصرّف، وأولويّة العمل، وأولويّة الموقف في هذه المرحلة، وفي هذه البيئة؟
إنّ من جملة ما يساعدنا على معرفة أدب الوقت هو أن يكون لنا مرجعيّة واضحة من العلماء الرّبانيّين المعروفين: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النّساء: ٨٣].
فبالاحتكاك بأهل العلم والسّماع منهم: من تشخيصٍ للأوضاع الحاضرة، وتشخيصهم للتّحدّيات، ورؤيتهم للمستقبل، وحثّهم للنّاس على أن يتصرّفوا تصرّفاً معيّناً أو يسلكوا سلوكاً معيّناً؛ نستطيع أن نعرف بهذا السماع وبذاك الاحتكاك وبتلك المزاحمة للرّكب بين أياديهم طبيعة الحالة الرّاهنة، وما تتطلّبه من عملٍ ومن أدبٍ وما يخصّها من فقهٍ للواقع.
وهذا ما نجده في أجوبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم لتساؤلات السّائلين بحسب الواقع الّذي يعيشه، فحينما يتطلّب الواقع سقيا ماءٍ يكون الجواب: عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ فَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ)، قَالَ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (سَقْيُ الْمَاءِ).
ومن جملة ما نستضيء به في أدب الزّمان هو محاسبتنا أنفسنا لنعيش زماننا على أفضل وجهٍ يمكنّنا من إرضاء ربّنا عز وجل.
وهذا هو خلاصة الموضوع؛ أي أن نكتشف ما يقرّبنا من الله تعالى، وما يبعدنا عن غضبه، في لحظةٍ ما، في ساعةٍ ما، في موقفٍ ما، في مرحلةٍ ما.
3- معالجة الجفاف الرّوحيّ
إنّ الظروف العصيبة الّتي نمرّ بها تقتضي منّا رجعةً صادقةً إلى الله تعالى، وحالةً إيمانيّةً نقضي من خلالها على اليأس الّذي يتسلّل إلى قلوبنا، ونملأ بها فراغنا العاطفيّ الإيمانيّ، ونقضي بها على السّغب الرّوحاني:ّ {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذّاريات: ٥٠].
ففي ظلّ الرّجوع إلى الله تعالى والاستقامة على طريق هداه نلتمس العزّة والكرامة والطّمأنينة، لأنّ الله تعال يقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النّحل: ١٢٨].
لذا فإنّ من أعظم الأولويّات في زمننا أن نحمي أنفسنا من الجفاف الرّوحيّ الّذي تشعر به الأمّة، لأنّ سعادة الإنسان في داخله، وليست في الأشياء الّتي تحيط به، سعادته في هذه الصّلة بالله تعالى: (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ).
وأوّل علاجٍ للجفاف الرّوحيّ؛ هو إيقاظ القلب: يقول ابن القيّم: "فَأَوَّلُ مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ الْيَقَظَةُ وَهِيَ انْزِعَاجُ الْقَلْبِ لِرَوْعَةِ الِانْتِبَاهِ مِنْ رَقْدَةِ الْغَافِلِينَ، وَلِلَّهِ مَا أَنْفَعَ هَذِهِ الرَّوْعَةَ، وَمَا أَعْظَمَ قَدْرَهَا وَخَطَرَهَا، وَمَا أَشَدَّ إِعَانَتَهَا عَلَى السُّلُوكِ! فَمَنْ أَحَسَّ بِهَا فَقَدْ أَحَسَّ وَاللَّهِ بِالْفَلَاحِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي سَكَرَاتِ الْغَفْلَةِ فَإِذَا انْتَبَهَ شَمَّرَ لِلَّهِ بِهِمَّتِهِ إِلَى السَّفَرِ إِلَى مَنَازِلِهِ الْأُولَى، وَأَوْطَانِهِ الَّتِي سُبِيَ مِنْهَا".
وثاني علاجٍ لمعالجة الجفاف؛ هو البحث عن النّور في ثنايا الرّوح: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزّمر: 22].
ومن جميل ما يُذكر في هذا الباب: ما كتبه الدّكتور وائل الشّيخ أمين في مقاله ظمأٌ إلى نورٍ: منذ بضعة أيّامٍ قرأت آياتٍ من كتاب الله فوقعت في نفسي عميقاً وأثّرت بي كثيراً، يقول تبارك وتعالى فيها: {نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النّور: 35-36].
بالله! كم نحتاج إلى هذا النّور في قلوبنا؟! تمرّ بنا حالات بعدٍ عن الله فنشعر بخواءٍ روحيٍّ، تظمأ روحنا فتطلب الرّيّ، وتظلم قلوبنا فتطلب النّور، فيقول لنا نور السّماوات والأرض تبارك وتعالى: من يريد هذا النّور فليذهب إلى بيوت الله! ليذهب إلى المساجد ويغرف من ذلك النّور، سيقول البعض بتململٍ: لكنّ هذا صعبٌ، فلدينا الكثير من المشاغل، فتكمل معه الآيات لتقول له: نعم هو صعبٌ ويحتاج إلى رجالٍ ليفعلوه، رجالٍ بكل معنى الكلمة، رجالٍ لا يتعذّرون بالمشاغل الآنيّة لأنّ قلوبهم متعلّقةٌ باليوم الآخر، تذكّرت بعدها دعاء الذّهاب إلى المسجد: اللهمّ اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (وَالصَّلَاةُ نُورٌ).
لا تبحث عن طرقٍ أخرى، لا تبحث عن مصادر أخرى للنّور، فكلّ الطّرقات سوى الله مظلمةٌ، يقول لك الله بعد بضع آياتٍ من الآيات السّابقة: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النّور: 40].
سبحان الله وكأنّ نور الرّوح في الدّنيا الّذي نحتاجه الآن ونتعب للوصول إليه يأتي مكافأةً يوم القيامة من الله تعالى، فنور الدّنيا موصولٌ بنور الآخرة، كما أنّ جنة الدّنيا موصولةٌ بجنّة الآخرة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي ظُلَمِ اللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
الشّيء الثّالث في معالجة الجفاف الرّوحيّ: وجود رغبةٍ أكيدةٍ، وعزيمةٍ صادقةٍ لتغيير الحال، وصلاح القلب، وانتعاش الرّوح، وعودة الحياة إليها: {إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النّساء: 35].
ولقد بين القرآن مظاهر قوّة الرّغبة في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ} [عبس: 8-10] جاءك: بنفسه، يسعى: متلهّفاً من شدّة الحاجة، وهو يخشى: يريد طوق النّجاة الّذي يقوده إلى برّ الأمان.
4- الاهتمام بالعناصر الضّعيفة
إنّ وجود الأيتام والفقراء والمرضى والأرامل والمعاقين وذوي الظّروف الصّعبة طبيعيٌّ في كلّ المجتمعات، فما بالكم بهذا الوقت وبتلك الحرب الظّالمة الّتي تكبّر فيها الطّغاة {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر: 11-12].
حتّى كثر من مخلّفاتها التّشرّد والنّزوح، وانتشر اليُتم، وعمّ الفقر والجوع.
وقد ابتلى الله تعالى اليتيم باليتم، والفقير بالفقر، والمريض بالمرض، والمعاق بالإعاقة، وابتلى الأصحّاء الأقوياء الأغنياء بهولاء؛ ليظهر علم الله تعالى كيف يتصرّف النّاس بما منحهم من الصّحة والمال والوقت والطّاقة والقوّة.
صحيحٌ أنّنا نراهم ضعفاء، لكن في الحقيقة هم على الخطّ الأوّل من الدّفاع عنّا وعن قضايانا المصيريّة، ولنصغ إلى وصف النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهم: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (أَبْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ).
وفي روايةٍ أخرى: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (ابْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ، فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ).
همزة وصلٍ، يعني: هاتوا لي ضعفاءكم، هاتوهم لماذا؟ يمكن أن يكون قصد بذلك أن يشعرهم بقيمتهم، هاتوا هؤلاء فإنّهم من أسباب النّصر، قرّبوا لي هؤلاء الضّعفاء، ويحتمل أن يكون قال ذلك؛ ليجعلهم في جملة المجاهدين، هاتوا الضّعفاء؛ ليلحقهم بالسّرايا والجيوش الّتي كان يبعثها صلى الله عليه وسلم، ويحتمل غير ذلك، يحتمل أنّه أراد أن يعطيهم من الفيء أو نحو ذلك؛ لئلّا يتوهّم أحدٌ أنّ هؤلاء لا حقّ لهم إذا لم يخرجوا في المعركة من الغنيمة، لكنّ الفيء يعطى للفقراء والمساكين، فإنّما تنصرون وترزقون بضعفائكم، ولاحظ إلى رواية البخاريّ: عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ).
هذا استفهامٌ مضمّنٌ معنى النّفي والإنكار، يعني لا تُرزقون ولا تُنصرون إلّا بضعفائكم، والرّواية الّتي في سنن أبي داوود جاءت بصيغة الحصر: (فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ)، فالأمّة واحدةٌ متكاملةٌ منتظمةٌ، ليس هناك أحدٌ لا شأن له ولا حظّ ولا قيمة لحظّه ولقلّة حيلته، أقلّ ما يأتي منه -وهو عظيمٌ جدًّا- الدّعاء والاستغفار.
وما أجمل قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ).
وهذا الاهتمام بالعناصر الضّعيفة في المجتمع هو ليس لإفادتهم فقط، بل لنستفيد نحن، فنحن نريد أن ننمّي الخير في أنفسنا، نريد لشجرة البرّ أن تنمو في هذه النّفس، نريد لبذرة الاهتمام بالخير أن تنمو وتنمو حتّى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25].
5- تعزيز الأخوّة وروح التّضامن فيما بيننا
ما مِن وقتٍ نحن بأمسّ الحاجة إلى أن نتناسى خلافاتنا ونبتعد عن مشكلاتنا وأوهام أحقادنا كمثل الوقت الّذي تحقّق فيه تداعي الأمم على قصعتنا، عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ)، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ).
فإنّ من أعظم فقه الأولويّات اليوم هي: تعزيز روح الأخويّة، والصّداقة، والمحبّة في الله تعالى، إنّ موجة الأنانيّة القاتلة، والبحث عن الخلاص الشّخصيّ تزداد ضمن هذا الواقع الحرج، والمفترض أن نكون في أرقى درجات الإخاء لما رأينا من الموت الّذي يدنو فوق رؤوسنا، ومن الدّمار الّذي حلّ ببيوتنا، ومن التّشرّد والنّزوح الّذي أزعم أنّه ما نجى منه إلّا القليل، كلّ ذلك كفيلٌ أن يعطينا دروساً في تعزيز روح الأخوّة وروح التّضامن، يعود بنا إلى المهرجان الأوّل الّذي أقامه الحبيب صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد هجرة المهاجرين إليها، وإنّ موقفاً من هذه المواقف وأنموذجاً صارخاً من هاتيك النّماذج لا يملّ المسلم من سماعه: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ المَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ، فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا، فَأَتَى بِهِ أَهْلَ مَنْزِلِهِ، فَمَكَثْنَا يَسِيرًا أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَجَاءَ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَهْيَمْ)، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: (مَا سُقْتَ إِلَيْهَا؟) قَالَ: نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ، -أَوْ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ- قَالَ: (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ).
واللهِ إنّ الحلق ليجفّ، وإنّ القلب ليرتعد، وإنّ الكلمات لتتوارى خجلاً أمام هذه الأخوّة، ولولا أنّها من صلب ديننا وفي صحيح البخاريّ لقلنا أنّها من نسيج الخيال.
إنّ الأشياء الّتي يمكن أن نعدّها من أدب الزّمان كثيرةٌ، وكثيرةٌ جدّاً، وإنّ أيّ أدبٍ من هذه الآداب لو أردنا أن نفرد له حديثاً خاصّاً لضاق بنا الوقت والمجال، غير أنّنا اكتفينا بالأهم فالمهمّ، ابتداءً من توثيق صلتنا بالله تعالى، واهتماماً بالعناصر الضّعيفة الّتي برّحت بها هذه الشّدائد وتلك الابتلاءات، وتعزيز أواصر المحبّة فيما بيننا؛ والّتي حينما نتحدث عنها وكأنّما نستعرض أحداث قديمة، وذكرياتٍ لزمانٍ غابرٍ، ولم نعد نعيش أيّ مفردة منها واقعاً عمليّاً.
فاللهمّ صلةً بك، واهتماماً بعبادك المستضعفين، وأخوّةً صادقةً بإخواننا.
http://shamkhotaba.org