التّوازن رسالة حقٍّ، لا محض ادّعاءٍ
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 20 نوفمبر 2019 م
عدد الزيارات : 2154
مقدمة:
الحمد لله الّذي منّ علينا بهذه الرّسالة الخالدة، والتّربية الإيمانيّة المتكاملة؛ الّتي لا تغلّب جانباً على جانبٍ، فكلّ ما فيها مطلوبٌ ومرغوبٌ فيه، ولكلّ مقامٍ مقالٌ، ولكلّ عملٍ وقته الخاصّ به، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
هذا، وإنّ الشّخصيّة الّتي لا تتربّى على التّكامل والتّوازن تصبح ممسوخةً، فإن غلبت عليها صفات القوّة والشّجاعة والتّضحية والعزّة والنّصرة؛ فسيجأر النّاس من عدوانه وجبروته وتكبّره، وإن غلبت عليها صفات العفو والسّماحة والتّواضع والسّكينة؛ لربما وُجدت فيه شخصية الذّليل المستكين، وإن غلب عليها الاهتمام بالرّوح أهملت مستلزمات الجسد وعاشت في روحانيّةٍ سماويّةٍ وحرمت الجسد ممّا يحتاجه ويشبع رغباته، وإن تشبّعت في إعطاء الجسد زيادةً على حقّه ومرغوباته؛ فستهمل الرّوح وما تتطلّبه من غذاءٍ وتطلّعٍ إلى الملأ الأعلى فستضيق ذرعاً بدنيا المادّة، وذلك لأنّها ليست مكانها.. من هنا كان النّداء القرآنيّ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208].
"إنّ المراد بِـ (السِّلم) هنا: (الإسلام) على ما رجّحه عددٌ من المفسّرين، وإن (كافّة) حالٌ من (السِّلم) على ما نرجّحه، ويكون المراد آنذاك: الأمر بالأخذ بتكاليف الإسلام جميعها: ما تميل إليه النّفس منها، وما يخالف هواها، وتصرِّح الآية الكريمة بأنّ في عدم الأخذ بالإسلام كاملاً نوعاً من اتّباع الشّيطان، حيث إنّ المنهج الرّبانيّ يباين السّبل الأخرى في فلسفتها العامّة، وإنّ التّفريط بشيءٍ من ذلك المنهج سيكون فيه اتّباعٍ (آليٍّ) لسبيل الشّيطان حيث لا يوجد خيارٌ ثالثٌ". في إشراقة آية، للدّكتور عبد الكريم بكّار، ص73
1- كلماتٌ في مفهوم التّوازن والوسطيّة
"بادئ ذي بدء ينبغي أن نحرّر دلالة المصطلح، لأنّ أكثر ما يشيع البلبلة بين أبناء الأمّة؛ أن تختلَّ الدّلالات، وأن تضطرب المفاهيم، الوسطيّة تدور في لغة العرب على ثلاثة معانٍ:
الأوّل: أنّ الوسطية بمعنى العدل، {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] يعني أعدلهم، همُ وسطٌ يرضى الأنام بحكمهم: أي هم عدولٌ، {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، أي: عدولاً.
الثّاني: الخيريّة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط العرب نسباً.
الثّالث: أنّها الفضيلة بين الرّذيلتين، أو الحسنة بين السّيّئتين، قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29].
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].
يقول ابن القيّم الفوائد، ص140: "وللشّجاعة حدٌّ مَتى جاوزته صَارَت تهوّرا وَمَتّى نقصت عَنهُ صَارَت جبناً وخورا،ً وَحدّهَا الْإِقْدَام فِي مَوَاضِع الْإِقْدَام والإحجام فِي مَوَاضِع الإحجام، كَمَا قَالَ مُعَاوِيَة لعَمْرو بن الْعَاصِ أعياني أَن أعرف أشجاعاً أَنْت أم جَبَانًا! تقدم حَتَّى أَقُول من أَشْجَع النَّاس وتجبن حَتَّى أَقُول من أجبن النَّاس، فَقَالَ:
شُجَاعٌ إِذا مَا أمكنتني فرْصَةٌ     فَإِن لم تكن لي فرْصَةٌ فجبانُ
إذاً تعود هذه الكلمة في أصولها إلى هذه المعاني الثّلاثة، وكذلك أشار القرآن إلى معنى الاستقامة، وأشار إلى النّهي عن الغلوّ في الدِّين، والغلوّ مثل الغلاء، والغلاء في الأسعار، والغلوّ: تجاوز الحدّ المشروع إلى الوقوع في الحدِّ الممنوع، غلا الشّيء غلوّاً وغلاءً، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النّساء: 171].
والنّبيّ صلى الله عليه وسلم عبَّر عن هذه الوسطيّة أيضاً: (إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ). مسند الإمام أحمد: 1851
(هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ) صحيح مسلم: 2670 وهلك إشارةٌ إلى معنيين:
الأوّل: دعاءٌ، أن يهلك الله أهل التّنطّع، وهو التّعمّق في غير موضعه.
الثّاني: إخبارٌ بأنّ عاقبة التّنطّع تكون هلاكاً. من كلمةٍ مسجّلةٍ للدّكتور عصام البشير في برنامج سواعد الإخاء بعنوان: وسطية المنهج النّبويّ.
مفهوم التّوازن:
التوازن هو: إعطاء كلّ شيءٍ حقّه، من غير زيادةٍ ولا نقصٍ، أو: النّظرة المعتدلة للأمور بين أطرافٍ متناقضةٍ.
والمقصود: البعد عن طرف الإفراط والحماس الزّائد والغلوّ والتّشدّد والمبالغة، كذلك البعد عن الطّرف الآخر؛ وهو التّفريط والتهاون.
أهمّيّة التّوازن في الإسلام:
البلوغ إلى المراد بيسرٍ وسهولةٍ، وبدون مشقّةٍ وتكلّفٍ، ومن ثمّ الوصول إلى دار القرار.
الثّبات على الصّراط المستقيم، فلا يتحقّق الثّبات إلّا بالاعتدال والتّوازن، بدون إفراطٍ ولا تفريطٍ.
التّوازن طريق النّجاة والسّلامة، فالتّوازن طريقٌ لنجاة الإنسان من مهلكات النّفس والدِّين في الدّنيا والآخرة.
كذلك.. تظهر أهمّيّة التّوازن على مستوى الأمّة، فضعفها يكون بسبب غلّوها في جانبٍ وتفريطها في جوانب أخرى.
قال تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66]، وأمّةٌ مقتصدةٌ أي: معتدلةٌ، كما قال القرطبيّ رحمة الله تعالى: "وَالِاقْتِصَادُ الِاعْتِدَالُ فِي الْعَمَلِ". تفسير القرطبيّ، ج6، ص242
كذلك بيّن الله سبحانه وتعالى أنّ سبب استخلاف هذه الأمّة في الأرض كان لتحقيقهم المبدأ الوسط الّذي يعمّ جميع جوانب الحياة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ). صحيح البخاريّ: 39
2- بعض سمات التّوازن والوسطيّة
"من سمات هذه الوسطيّة: ليست وسطيّةً داجنةً، وليست وسطيّةً ساجنةً، وليست وسطيّةً ماجنةً، وليست وسطيّةً آجنةً.
ليست وسطيّةً داجنةً: أنّها تستجيب لضغطين: إمّا ضغط الحكّام أو أهواء العوامّ، إنّما تتحرّر من كلا الضّغطين، كما قال الله تعالى لنبيّه الكريم: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 143].
وليست وسطيّةً ساجنةً: أنّها رهينة المحبِسين؛ محبِس الجمود على القديم، ولا العبوديّة للجديد، تأخذ من كلّ قديمٍ نافعٍ، ومن كلّ جديدٍ صالحٍ.
وليست ماجنةً: أنّها تتميَّع وتتلوَّن وتتحوَّر كما تُحوَّر العجينة، وتتشكّل حسب مقتضيات ضغط الواقع ومطارق العصر.
وليست كذلك آجنةً: تتغيّر فيما من شأنه أن يكون ثابتاً، أو تثبت فيما من شأنه أن يكون متغيّراً.
فالشّريعة جاءت بالثبات في المقاصد الكلّيّة، في الأحكام القطعيّة، في الفرائض الرّكنية، جاءت في الضّروريات الكبرى الّتي دلَّ الاستقراء على أنّ الشّريعة جاءت لرعايتها، جاءت بالثّبات في الأهداف والغايات، وبالمرونة في الوسائل والآليّات، ليكون ذلك استيعاباً لمشكلات العصر وقضاياه.
إذا أردنا أن نعبّر بهذه الوسطيّة بعبارةٍ جامعةٍ نقول: إنّ الوسطيّة بالهدي النّبويّ هي أن نقدّم الإسلام منهجاً هادياً للزّمان والمكان والإنسان، موصولاً بالواقع، مشروحاً بلغة العصر، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، جامعاً بين النّقل الصّحيح والعقل الصّريح، منفتحاً على الحضارات دون ذوبانٍ، مراعياً الخصوصيّة بلا انغلاقٍ، منتفعاً بكلّ قديمِ صالحٍ، مُرَحِّباً بكلّ جديدٍ نافعٍ، ميسّراً في الفتوى، مبشّراً في الدّعوة". من كلمةٍ مسجّلةٍ للدّكتور عصام البشير في برنامج سواعد الإخاء بعنوان: وسطية المنهج النّبويّ
3- التوازن في شخصيّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم
حياته صلى الله عليه وسلم قدوةٌ للعالمين، إنّه معلّم الأجيال الهدى والحكمة، من حسن حظّنا -أمة الحبيب- أنّ حياته الحافلة جاءت واضحةً كالشّمس في رائعة النّهار، دوَّنها الأئمّة الأثبات الثّقات حتّى وصلت إلينا من خلالهم كابراً عن كابرٍ، ولعلّ الشّخص الوحيد الّذي دوِّنت سائر أيّامه مثل الشّمس هو الحبيب صلى الله عليه وسلم.
فلم يكن في حياته غموضٌ مريبٌ، ولم يشأ يوماً واحداً أن يخرج من قميصه البشريّ الّذي ألبسه الله إيّاه، لقد عاش بشراً، يجوع كما يجوع النّاس، ويشبع كما يشبع النّاس، ولو لم يكن بشراً تجري عليه سائر خصائص البشر؛ لما استأهل أن يكون سيّد البشر.
حياته العظيمة دوّنها التّاريخ بأدّق التّفاصيل؛ فيها فرحه وحزنه، ورضاه وغضبه، وانتصاره وانكساره، وقوّته وضعفه.
تقرؤه في صحائف السّيرة النّبويّة بطلاً تفرّق من ذكره الملوك على عروشها، وفارساً مقداماً تحتمي وراءه الأبطال الكماة، وتقرؤه في التّربية أباً رحيماً، وجدّاً حليماً، وزوجاً ودوداً حبيباً، دامع العين، دافئ القلب، لا سيف أمضى من سيفه، ولا قلب أرحم من قلبه، ولا عين أسخن من عينه، وبين زنده الحديد وقلبه البريء تختصر كلّ فضائل بني آدم.
كلّ سطرٍ من حياته كتاب هدىً، بنى حياته على التّوازن، حتّى أعطى كلّ موقفٍ حقّه، بحكمةٍ دقيقةٍ وأسلوبٍ مناسبٍ، جلّ وقته التّبسّم، وإذا انتهكت حرمات الله غضب حتّى ظهر في وجهه ومحيّاه، فهو الّذي عبد ربّه حتى تورّمت قدماه، ولكنّه كان يمزح ويمازح، يسابق عائشة؛ تسبقه مرّةً ويسبقها مرّةً، هذه بتلك، يربّي بالحُبّ فيقسم لمعاذٍ أنّه يحبّه، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِهِ يَوْمًا، ثُمَّ قَالَ: (يَا مُعَاذُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ)، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أُحِبُّكَ، قَالَ: (أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ). مسند الإمام أحمد: 22119
وهو نفسه الّذي أقسم لمعاذ على الحُبّ، قطّب الجبين بوجه الحِبّ لمّا طلب طلباً بغير مكانه، عن عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ الفَتْحِ، فَفَزِعَ قَوْمُهَا إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَسْتَشْفِعُونَهُ، قَالَ عُرْوَةُ: فَلَمَّا كَلَّمَهُ أُسَامَةُ فِيهَا، تَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (أَتُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ)، قَالَ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَ العَشِيُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ خَطِيبًا، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا). صحيح البخاريّ: 4304
يضحك حتّى تبدو نواجذه، ويبكي حتّى يبلّ الثّرى..
ما أجمل هذا التّكامل والتّوازن في شخصية الحبيب صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهو الّذي جعله الله تعالى لنا أسوةً حسنةً في كلّ مناحي حياتنا، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
4- التّوازن بين المادّيّة والرّوحيّة
"النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو الّذي يعلّم أنّ الإنسان مركّبٌ من عنصرين: من عنصر قبضة الطّين، ونفخة الرّوح، الطين تعبيرٌ عن حوائج الجسد، ونفخة الرّوح هي الّتي تسمو به إلى الملأ الأعلى، فأعطى كلّ شيءٍ حقّه من الواجب والاهتمام، ولو أراد الله تعالى أن يكون الإنسان روحيّاً؛ لحلَّق كالملائكة، ولو أراده أن يكون طينيّاً؛ لكان شأن البهائم الّتي تستجيب لغرائزها، ولكنّه جاء مركّباً بين هذين العنصرين، ومن هنا كان هديه عليه الصّلاة والسّلام أن يجعل من هذه الوسطيّة بناءً متوازناً.
العقل بالعلم، والجسد بالعافية والنّشاط، والرّوح بالتّزكية، والوجدان بالقيم، ليظلَّ بناء الإنسان متماسكاً متكاملاً متناغماً منسجماً متوازناً". من كلمةٍ مسجّلةٍ للدّكتور عصام البشير في برنامج سواعد الإخاء بعنوان: وسطية المنهج النّبويّ
"لقد أعلن الله تعالى أنّ الوسطيّة بين المادّيّة والرّوحيّة صبغة دينه الحقّ، فقال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].
والتّوازن بين الأمرين ملحوظٌ، فنجد الإسلام في الوقت الّذي دعا فيه العباد إلى حسن الصّلة بالله تعالى؛ فحضَّ على قيام الليل وصوم النّهار وكثرة ذكر الله وتلاوة القرآن، نحو قوله تعالى في وصف عباده المؤمنين: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64].
وقوله: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذّاريات: 17-18].
نجده في الوقت نفسه يدعو إلى أخذ الزّينة الحلال وأكل الطّيّب المباح، وإلى إعطاء النّفس حظّها من المركب والمنكح والمنام وسائر الشّهوات الّتي تتوقّف عليها مصالح العباد، نحو قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172].
وقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النّحل: 8]". من كتاب من مشكاة التّذكير، للشيخ نذير مكتبيّ، ص ٥٦-٥٧
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32].
وكم كنّا ننصح الدّعاة بالتّوازن في دعوتهم مع النّاس، فعلى سبيل المثال كثرت نصيحتهم للنّاس بإغلاق الجوّال عند الدّخول إلى المسجد، لكن فات الكثير منهم أن يذّكر النّاس عند الخروج من المسجد بفتح هاتفه، فلربّما إنسانٌ له مريضٌ في المشفى ينتظر خبراً مفرحاً بتخريجه معافى، لذا همسنا في آذان قلوبهم:
أخي الدّاعية: كما كتبت على باب مسجدك الّذي أكرمك الله بخدمته: اقطع صلتك بالخلق، واتّصل بخالقك، لا تنسَ إغلاق هاتفك، لا يفوتك أن تكتب من الدّاخل ليراها عند خروجه: لا تنسَ فتح هاتفك؛ فالجميع بانتظارك...
فالدّعوة إسعادٌ النّاس في الدّارين، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
5- ترسيخ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمعنى التّوازن في سلوك المسلمين
لقد قام الرسول عليه الصّلاة والسّلام بترسيخ معاني هذه الوسطيّة في حياة المسلمين وسلوكهم، فلما أتاه نبأ الثّلاثة الّذين قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي). صحيح البخاريّ: 5063
ولما وقع بصره على رجلٍ قائمٍ في الشّمس، سأل عنه فقالوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ). صحيح البخاريّ: 6704
لقد رفض منه تلك الرّوحيّة المغرقة الّتي تقضي على جسده، وتعرّضه للتّلف.
وكان يبارك لأصحابه استجابتهم لهذه الصّبغة الإيمانيّة الرّائعة، وتناصحهم في الله من أجلها، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ؟ قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ: سَلْمَانُ قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (صَدَقَ سَلْمَانُ). صحيح البخاريّ: 1968
لأنّه أصاب جوهر الإسلام وروح الشّريعة وصبغة دين الفطرة، إنّها الوسطيّة بين المادّيّة والرّوحيّة. 
وختاماً:
"النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرتّب الأسبقيّات، لأنّ كثيراً من النّاس اليوم لا يقبل أن تقول له: هنالك قشورٌ ولبابٌ، هنالك جوهرٌ ومظهرٌ، هنالك أدنى وأعلى، يريد أن تقدّم حقائق الدِّين جملةً واحدةً، ونحن نعلم أنّ الإيمان في الهدي النّبويّ شعبٌ؛ أدنى وأعلى، والذّنوب كبائرٌ وصغائرٌ، والواجبات فرائضٌ ومندوباتٌ، وهكذا في كلّ القضايا.
إذاً الوسطيّة هنا أيضاً أن نعطي كلّ شيءٍ حقّه وفق تسعيرته المحدّدة الّتي جاء بها من الشّرع الحنيف، فلا نقدّم ما حقّه التّأخير، ولا نؤخّر ما حقّه التّقديم، لا نهوِّن العظيم، ولا نعظِّم الهيِّن، إنّما نعطي حسب الاهتمام، ونوازن هذه الدّوائر.
إذاً الوسطيّة تقوم على الاستيعاب المتكامل لنحقّق من خلال هذا الهدي النّبويّ للوسطيّة مقام الشّهادة على النّاس {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
ولكن قبل أن نشكّل شهادتنا على النّاس نحقق الشّهادة على أنفسنا؛ قياماً بالقسط والحقّ والعدل والخير والجمال". من كلمةٍ مسجّلةٍ للدّكتور عصام البشير في برنامج سواعد الإخاء بعنوان: وسطية المنهج النّبويّ

http://shamkhotaba.org