مقدمة:
لقد حضّ الإسلام أتباعه دائماً أن يؤدّوا أعمالهم جميعها بالطّريقة الأفضل والأحسن، فقال عزّ من قائلٍ: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزّمر: 17-18].
فالمؤمن الّذي يريده الله تعالى، هو ذلك المؤمن القويّ الّذي يدرس الأمور دراسةً واعيةً، ويميّز بين فاضلها من مفضولها، فيتّبع أحسنها وأفضلها، سالكاً بذلك أسباب القوّة ووسائلها، بعيداً عن منهج المتكاسلين الفاشلين، الّذين يهربون من واقعهم، ويتخفّون وراء الأعذار الواهية، ليبرّروا إخفاقاتهم متذرّعين بالقضاء والقدر في غير مكانه، ولكن –وللأسف- وجود مثل هذا المؤمن الحقّ أصبح نادراً في هذا الزّمان، فقد انكمش المسلمون بعد امتداد، ووهنوا بعد قوّةٍ، وما ذاك إلّا لأنّنا ضيّعنا مصادر قوّتنا، ولم يعد الإيمان هو المسيطر على نفوسنا، والموجّه لأخلاقنا، فأصبحنا غثاءً كغثاء السّيل في ذلٍّ وهوانٍّ، فهيّا لنتعرّف من جديدٍ على مصادر قوّتنا وأسباب عزّنا!
1- المؤمن بين القوّة والضّعف
يحتاج الإنسان إلى قوّة ٍعظيمةٍ تحرّكه من سكونه، وتشدّ من أزره إذا ما ضعف أو تعرّض لمغرياتٍ عديدةٍ قد تهدّد مبادئه، وهنا يختلف المؤمن عن غيره في البحث عن مصدر هذه القوّة، حيث يجد المؤمن في الإيمان بالله تعالى أعظم هذه القوى وأسماها، ويتفاوت المؤمنون أنفسهم في درجة القوّة حسب درجة الإيمان، فمنهم الضّعيف ومنهم القويّ، وهذه القوّة على درجاتٍ، كما جاء في الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ).
القوّة الّتي يشير إليها النّبيّ صلى الله عليه وسلم هي قوّة الإيمان والعقيدة والعلم، قوّة الرّأي والنّفس والإرادة، ويضاف إليها قوّة البدن، إذا كانت معينةً لصاحبها على العمل الصّالح، ولقد جاء في شرح الإمام النّوويّ على صحيح مسلم في شرح هذا الحديث: "وَالْمُرَادُ بِالْقُوَّةِ هُنَا عَزِيمَةُ النَّفْسِ وَالْقَرِيحَةُ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ فَيَكُونُ صَاحِبُ هَذَا الْوَصْفِ أَكْثَرَ إِقْدَامًا عَلَى الْعَدُوِّ فِي الْجِهَادِ وَأَسْرَعَ خُرُوجًا إِلَيْهِ وَذَهَابًا فِي طَلَبِهِ وَأَشَدَّ عَزِيمَةً فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى فِي كُلِّ ذَلِكَ وَاحْتِمَالِ الْمَشَاقِّ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَرْغَبَ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْأَذْكَارِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَأَنْشَطَ طَلَبًا لَهَا وَمُحَافَظَةً عَلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ".
ولقد دلّ الحديث على أنّ في كلّ من القويّ والضّعيف من المؤمنين خيرٌ، لاشتراكهما في الإيمان، وقد يكون المؤمن ضعيفاً في بدنه، قويّاً في إيمانه وماله، وقد يكون نحيل الجسم، ولكنّه قويّ الفكر والقلم، وإلى هذا المعنى تشير الكلمة النّبويّة: (وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ)، فالذلّ قبيحٌ وفي قبوله هلاكٌ، ولكنّه حين يوضع موضعه الصّحيح يعتبر قوّةً وعزّاً، فقد قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]، فالذلّ مع الوالدين في حقيقته عزٌّ وقوّةٌ.
نعم: ينطلق كثيرٌ من النّاس اليوم في مفهوم القوّة والضّعف من منظورٍ مادّيٍّ واعتباراتٍ أرضيّةٍ، فهذا يقدّر القوّة والضّعف بحسب إقبال الدّنيا وإدبارها، وآخرٌ يقدّر القوّة بممارسة الجبروت والبغي والطّغيان، وثالثٌ يركن في قوّته إلى ماله أو جاهه أو ولده أو منصبه، ولكنّ القوّة ليست في ذلك كلّه، بل إنّ أول ما يجب أن تتمثّل قوّة المؤمن فيه هي عقيدته، فإنّ صحّة العقيدة وسلامتها هي المَعين الّذي لا ينضب، والأمّة بحاجةٍ إلى هذا المؤمن القويّ في عقيدته، والّتي تضفي على صاحبها قوّةً تظهر في أعماله كلّها.
إنّ الأمّة في أوضاعها الرّاهنة لفي حاجة ماسّةٍ إلى شبابٍ أقوياءٍ في عقيدتهم، يستشعرون قول الله عز وجل: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145].
إنّه أخذٌ بعزيمةٍ لا رخاوة معها، ولا قبول لأنصاف الحلول، ولا هزال ولا استهزاء، فبقوّة العقيدة والإيمان جعل الله لرسوله من الضّعف قوّةً، والقلّة كثرةً، ومن الفقر غنىً، حيث قال سبحانه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ} [الضّحى: 6].
ولقوّة العقيدة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه: (إِيهًا يَا ابْنَ الخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ، إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ).
وهذه فضيلة ٌعظيمةٌ لسيّدنا عمر رضي الله عنه؛ تقتضي أنّ الشّيطان لا سبيل له عليه لقوّة إيمانه، لا أنّ ذلك يقتضي وجود العصمة.
2- القوّة في الإيمان بالحقّ
إنّ إيمان العبد بالحقّ الذي يعتنقه، والّذي أنزله الله تعالى ليكون الحكم بين النّاس على أساسه، وأقام الله عليه السّماوات والأرض، يولّد عند صاحبه قوّةً لا تقهر، لأنّ الإيمان تصديق القلب بالله ورسوله، تصديقٌ لا يرد عليه شكٌّ ولا ارتيابٌ، تصديق المطمئنّ الثّابت المستيقن الّذي لا يتزعزع ولا يضطرب، ولا تهجس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشّعور، فالقلب متى تذوّق حلاوة الإيمان واطمأنّ إليه وثبت عليه، لا بد سيندفع لتحقيق حقيقةٍ خارج القلب، وقوّة الإيمان هذه هي الّتي تصرف الإنسان عن المعاصي، فيهون عليه كيد الخلق أمام عقاب الخالق {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33].
نعم: إنّ الإيمان بالله تعالى والحقّ الّذي أنزله يكسب صاحبه قوّةً يستغنى بها عن التّستّر بستار الدّجل والاستغلال والمداهنة والمجاملة المذمومة، بل إنّما يصدع بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؛ لا تأخذه في الله لومة لائم، فالمنكر إذا أظهر وأعلن، فإنّه يشرع إنكاره علناً، وإذا أخفي وأسرّ به شرع إنكاره سراً، وهذا أيضاً نوعٌ من القوّة تكون محمودةً في معاصٍ معلنةً جاهر أصحابها بها، لأنّهم تجرّؤوا على الله تعالى، ولم يخجلوا حتّى من عباد الله سبحانه، وخرجت روائح جرائمهم القبيحة، فوجب على المؤمن الحقّ أن يقوم بالإنكار عليهم، متسلّحاً بالحقّ الّذي يعتنقه، فهو لا يعمل من أجل شهوةٍ عارضةٍ، ولا لمنفعةٍ شخصيّةٍ، ولا لعصبيّةٍ جاهليّةٍ، بل يعمل للحقّ الّذي قامت عليه السّماوات والأرض، والحقّ أحقّ أن ينتصر، والباطل أولى أن يندثر، قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].
نعم: إنّ المؤمن خليفة الله في أرضه، إن تظاهر عليه أهل الباطل؛ {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التّحريم: 4].
فكيف يضعف المؤمن أمام البشر ومن ورائه الملائكة الكرام؟! بل كيف ينحني للخلق ومعه الخالق؟!
وهذا الإيمان هو الّذي جعل بضعة شبّانٍ كأهل الكهف يواجهون بعقيدتهم ملكاً جبّاراً، وقوماً شديدي التّعصّب، غلاظ القلوب، مع قلّة العدد، وانعدام الحَول والطَّول، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف 13-15].
3- القوّة في الهمة العالية وترك الدّعة والكسل
إنّ قوّة الإرادة وعلّو الهمّة وطرح الدّعة والكسل، أمرٌ في غاية الأهميّة من حيث الحاجة إليه، لأنّه لا يقوم بدين الله إلّا الأقوياء من أصحاب الإرادة القويّة والهمّة العالية، فإنّ هذا الدّين دينٌ قويمٌ امتحن الله به النّاس ليرى مَن الّذي يقوم به وينتصر له ويدافع من أجله، ممّن يتقاعس ويتكاسل ويتخاذل، خصوصاً في واقعنا الّذي نعيشه، والّذي أصبحنا فيه في حالة هزيمةٍ على المستوى الفرديّ والجماعيّ، حيث تيسرّت فيه للإنسان كلّ سبل الرّاحة والدّعة، ففضّل الرّاحة وإيثار اللّذات على القيام بواجباته، فكانت النّتيجة أن سقطت الهمم، وفترت العزائم، فقد تجد شابّين يتساويان في نباهة الذّهن وذكاء العقل، ولكنّ قوّة الإرادة وعلوّ الهمّة عند أحدهما تكسبه التّفوّق على زميله الآخر، وتبلغ به هذه القوّة من المحامد والمراتب ما لا يبلغه الآخر، بل إنّ هناك بعض الشّباب قد يكون أقلّ من زميله في الإمكانيّات، ووسائله أضعف، وفراغ وقته أقلّ، لكنّه بقوّة إرادته وعلوّ همّته، وبإصراره على التّقديم يفوق أقرانه، ويكون عطاؤه في الواقع أفضل من الآخر الّذي أعطاه الله عز وجل نباهة الذّهن وذكاء العقل، لكنّه آثر الدّعة والرّاحة والسّلامة.
نعم: إنّ قوّة المؤمن من تكون إرادته تحت سلطان دينه وعقله، وليس عبداً لشهواته، فتعس عبد الدّرهم، وتعس عبد الدّينار، وتعس عبد الدّنيا..
4- القوّة في الأخلاق الفاضلة
إنّ الإسلام هو دين الأخلاق الفاضلة والشّمائل الطّيّبة الحسنة، لقد دعا إلى التّحلي بالفضائل والتّخلي عن الرّذائل، وحضّ على مكارم الأخلاق والصّفات الحميدة، فجعل حُسن الخُلق أساس العقيدة والعمل، فما الفائدة من العقيدة والعمل إذا كان لا يصحبهما خلقٌ كريمٌ؛ يقود صاحبه نحو العزّة والكرامة والرّفعة، ولقد بيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم الغاية من بعثته: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ).
ولقد فتح المسلمون الأوائل كثيراً من البلاد بقوّة الأخلاق دون أن تتحرّك جيوشٌ أو تتزلزل عروشٌ، وبعض المسلمين اليوم جمع من العلم فأوعى، ولكنّه خلا من الخلق الأوفى، فالقوّة في الأخلاق دليل رسوخ الإيمان، فإلقاء السّلام عبادةٌ، وعيادة المريض عبادةٌ، وزيارة الأخ في الله عبادةٌ، وتبسّمك في وجه أخيك عبادةٌ، ومن القوّة ثبات الأخلاق، ورسوخ القيم في الفرح والشّدة، والحزن والألم، مع الصّديق والعدوّ، والغنيّ والفقير، والكبير والصّغير.
5- القوّة في الإيمان بالخلود
إنّ المؤمن يحتمل الصّعاب وسوء الأحوال وقسوة الظّروف، لقناعته الرّاسخة بالخلود الأبديّ والنّعيم المقيم، وأنّ الآخرة هي دار الجزاء، وهذا الإيمان المطلق بالدّار الآخرة يقدّم له المواساة في كافّة المصائب، الّتي قد يبتليه الله تعالى بها في الدّنيا، فتتوّلد عنده قوّةٌ على تحمّل ذلك.
يستمدّ المؤمن قوّته من الخلود الّذي يؤمن به، فحياته ليست أيّاماً معدودةً في أماكن محدودةٍ فحسب، بل إنّما هي حياة الأبد، وهو ينتقل من دارٍ إلى دارٍ، كما قيل:
وما الموتُ إلّا رحلةٌ غير أنّها من المنزلِ الفاني إلى المنزلِ الباقي
فهذا عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ في غزوة بدرٍ يسمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ)، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ)، قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: (نَعَمْ)، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟)، قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: (فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا)، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.
تقدّم بشجاعةٍ وبسالةٍ، وظلّ يقاتل محتسباً لوجه الله سبحانه مقبلاً غير مدبرٍ مسارعاً إلى موعود الله تعالى بالجنّة غير متباطئٍ ولا متوانٍ، ولا ملتفتٍ إلى الدّنيا وزينتها، ضارباً أروع الأمثلة في البطولة والاستشهاد.
6- القوة في الإيمان بالأخوّة
لقد أرشدنا كتاب ربنا عز وجل إلى أنّ المؤمنين كلّهم إخوةٌ، ليسوا إخوة بالنّسب، بل إنّهم إخوة بالإيمان بالله عز وجل، وإنّ رابطة أخوّة الإيمان هي أقوى من رابطة أخوّة النّسب، لأن أخوّة النّسب تنقطع بالموت، بينما أخوّة الإيمان بالله عز وجل تنفع صاحبها قبل الموت وبعده، حيث قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
فالمؤمن ضعيفٌ لوحده، قويٌّ بإخوانه، فيستمدّ قوته من إخوانه المؤمنين، فهو يشعر بأنّهم له، وأنّه لهم، يعينونه إذا حضر، ويحفظونه إذا غاب، ويؤنسونه عند الوحشة، ويأخذون بيده إذا عثر، ويسندون ظهره إذا خارت قواه، فهو حينما يعمل يحسّ بمشاركتهم، وحينما يجاهد يضرب بقوّتهم، فإذا حارب جيشٌ من ألف مؤمنٍ شعر كل فردٍ منهم أنّه يقاتل بقوّة الألف لا بشخصه وحده، فإذا ضربت الألف بالألف كان المجموع المعنويّ ألفَ ألف رجلٍ في الحقيقة، وإن كان ألفاً واحدةً في لغة الأرقام والإحصاء، وقد شبّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم قوّة المؤمن بإخوانه باللّبنة في البناء المتين، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ.
فاللّبنة وحدها ضعيفةٌ مقدورٌ عليها، ولكنّها داخل البنيان أصبحت مرتبطةً به ارتباطاً لا ينفصل، وأصبحت جزءاً من الكلّ الكبير، فلا يسهل كسرها، أو زحزحتها عن موضعها، فإنّ قوّتها هي قوّة البنيان كلّه الّذي يشدّها إليه.
وجِماع ذلك كلّه يا عباد الله: إنّ القوّة هي عزيمة النّفس، وإقدامها على الحقّ في أمور الدّنيا والآخرة، وصبرٌ على الأذى في الدّعوة إلى الله، واحتمال المشاقّ في ذات الله تعالى، وعلينا أن نعلم أنّ مصادر القوّة في الدّنيا بكلّ أنواعها إنّما هي بيد الله تعالى يصرّفها كيف يشاء، فبين لحظةٍ وأخرى تتغيّر الموازين، وتتقلّب حقائق الأمور، وتتبدل الأحوال من حالٍ إلى حالٍ، ورحم الله القائل:
ما بين غمضة عينٍ وانتباهتها يغيّر الله من حالٍ إلى حال
إنّ القوّة لا تُطلب من الخلق أبداً، فكلّهم ضعيفٌ حتّى وإن كان مسلماً، بل إنّ القوّة الحقيقيّة تحدث عندما تصل الأرض بالسّماء، والدّنيا بالآخرة، وتتعلّق القلوب بالقويّ المتين، فقوّته فوق كلّ شيءٍ، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود: 66].
وقال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
ولقد أمرنا الله سبحانه بإعداد العدّة، والأخذ بأسباب القوّة، كائنةً ما كانت، معنويّةً كانت أو مادّيّةً، فقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
http://shamkhotaba.org