دور المسجد في إصلاح الفرد والمجتمع
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 11 ديسمبر 2019 م
عدد الزيارات : 5341
مقدمة:
أتينا وفوداً إلى المسجدِ    صغاراً كباراً لكي نهتدي
أتينا لنقرأ آي الكتاب    ففيه الهداية وفيه الصّواب
سنحيا جميعاً بظلّ القلم    سنرقى به أعالي القمم
أتينا نصلّي لربّ الورى    ونركعُ، نسجدُ فوق الثّرى
صفوفاً صفوفاً وراء الإمام    جميعاً نكبّر إن كبّرا
المساجد بيوت الله تعالى هي البقاع الأرضيّة، التي تنضّرها الأنوار السماويّة وترفّ عليها الملائكة على تعاقب الليل والنّهار بأجنحة من نور، إنّها الأماكن المقدّسة التي تشهد تربتها كلّ يوم خمس مرّاتٍ هذه الجباه السّاجدة الضّارعة لبارئها، وهذه الأصلاب الرّاكعة المنحية على التّسبيح لخالقها عزّ وجلّ، إنّها مهابط لرحمة الله تعالى ورضوانه، حيث يجد فيها المسلم السّكينة والطّمأنينة على رحابها، فتغسل فيها القلوب، وينجلي صداؤها، ويجتمع فيها المؤمنون معاً على طاعة الله سبحانه وتعالى.
1- أصلح قلبك بالمسجد
إنّ للمسجد دوراً عظيماً في إصلاح القلب وصفاء الرّوح، لأنّ رسالته تتركّز في الدّرجة الأولى على التّربية الرّوحيّة، حيث تذوب كلّ الفوارق في المسجد بين البشر، وتُمحى كلّ أسباب الزّيغ والعداوة، حينما يستوي الجميع في المسجد استواءً واحداً، ويقفون موقفاً واحداً، ويخشعون خشوعاً واحداً، بل يخرّون إلى الأرض ساجدين لله تعالى، فليس لرأسٍ على رأسٍ ارتفاعٌ، ولا لوجهٍ على وجهٍ تميّزٌ، وليس لذاتٍ على ذاتٍ سلطانٌ، فهل تحقّق الإنسانيّة وحدتها في النّاس بأبدع من هذا؟! ولعمري أين يجد العالم صوابه إلّا هنا؟!
في هذا المسجد ينطلق نشيد السّماء العلويّ المقدّس (الله أكبر)، هذا الدّعاء الّذي تتجاوب أصداؤه بين الجوارح المؤمنة، فتهتزّ له القلوب الخاشعة مع كلّ صلاةٍ، فيزداد قلب المسلم تعلّقاً ببيت الله عز وجل، ويتضاعف حبّه له، لما يجد فيه من غذاءٍ روحيٍّ، وسكنٍ نفسيٍّ، واطمئنانٍ قلبيٍّ، فيكون أحد السّبعة الّذين حدّث عنهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّهم سيظلّلون بظلّ عرش الله يوم لا ظلّ إلا ظلّه، حيث قال: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ). صحيح البخاريّ: 660
وصفه بأنّه رجلٌ، والرّجال قليلٌ، ثمّ مدح قلبه الطّاهر فقال: (وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ) ظاهره من التّعليق، كأنّه شبّهه بشيءٍ معلّقٍ في المسجد كالقنديل مثلاً، إشارةٌ إلى طول الملازمة بقلبه، وإن كان جسده خارجاً عنه، ويحتمل أن يكون من العلاقة وهي شدّة الحبّ، فإنّ ارتباط القلوب بالمساجد كفيلٌ بإصلاحها، وقطع وساوسها، وبقائها مطمئنّةً في سائر يومها،  كَتَبَ سَلْمَانُ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ: يَا أَخِي لِيَكُنِ الْمَسْجِدُ بَيْتَكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَقَدْ ضَمِنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ كَانَ الْمَسَاجِدُ بُيُوتَهُ الرَّوْحَ، وَالرَّحْمَةَ، وَالْجَوَازَ عَلَى الصِّرَاطِ). المعجم الكبير للطّبرانيّ: 6143
ولكن حين تنقطع الصِّلات بالمساجد تنقطع أواصر الإيمان، وتجفّ منابع الحكمة، وتعلو القلوب طبقات الرّان، وتفقد العبادة حلاوتها، وتغدو جسماً لا روح فيه، وشكلاً لا جوهر له، وربّما غدت حِملاً ثقيلاً تئنّ تحت وطأته الأعضاء، وتشفق من حمله الرّوح.
فيا من تطلب علاجاً نافعاً ودواءً ناجعاً لدائك ومرضك، فإنّ دواءك في ملازمة بيت الله سبحانه.
2- اهتمام النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالصّلاة في المسجد
ظلّ الحرص على صلاة الجماعة حاضراً في أقوال النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفي أفعاله إلى آخر لحظةٍ من حياته، ولمّا ثقل في مرضه الّذي مات فيه كان يُغمى عليه من شدّة المرض، فإذا استيقظ لا يسأل إلّا عن الصّلاة، وهاكم خبر ذلك في هذا الحديث العجيب، لنعلم أهمّية صلاة الجماعة في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: أَلاَ تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: بَلَى، ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (أَصَلَّى النَّاسُ؟) قُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَ: (ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ)، قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (أَصَلَّى النَّاسُ؟) قُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ) قَالَتْ: فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: (أَصَلَّى النَّاسُ؟) قُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: (ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ)، فَقَعَدَ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: (أَصَلَّى النَّاسُ؟) فَقُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي المَسْجِدِ، يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لِصَلاَةِ العِشَاءِ الآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا-: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا العَبَّاسُ لِصَلاَةِ الظُّهْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ لاَ يَتَأَخَّرَ، قَالَ: أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ يَأْتَمُّ بِصَلاَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ. صحيح البخاريّ: 687
فانظروا -رحمكم الله- إلى أيّ مدىً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على حضور صلاة الجماعة في المسجد، فلقد كان يُغمى عليه ثلاث مرّاتٍ، وفي كلّ إفاقةٍ له لا يسألُ إلّا: (أَصَلَّى النَّاسُ؟) وهذا يدلّ على أهمّيّة صلاة الجماعة في الإسلام، ولقد رغّب وحثّ على ذلك في كثيرٍ من الأحاديث النّبويّة، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً). صحيح مسلم: 650
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عز وجل: رَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عز وجل). سنن أبي داوود: 2494
وأشعل في المقابل نار الغضب على كلّ من تثاقل عن حضور الجماعة من دون عذرٍ شرعيٍّ يبيح له التّخلّف، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ، فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ). صحيح مسلم: 651
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ، فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى، دَعَاهُ، فَقَالَ: (هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَأَجِبْ). صحيح مسلم: 653
3- صورٌ مضيئةٌ من حياة السّلف مع صلاة الجماعة في المسجد
لقد كان أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحرص النّاس على أداء الصّلوات في جماعةٍ مهما شقّ التّكليف، التماساً لرضوان الله تعالى وتحصيلاً لعظيم الأجر، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَجُلٌ لَا أَعْلَمُ رَجُلًا أَبْعَدَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْهُ، وَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ صَلَاةٌ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: أَوْ قُلْتُ لَهُ: لَوْ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا تَرْكَبُهُ فِي الظَّلْمَاءِ، وَفِي الرَّمْضَاءِ، قَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَنْزِلِي إِلَى جَنْبِ الْمَسْجِدِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ لِي مَمْشَايَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (قَدْ جَمَعَ اللهُ لَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ). صحيح مسلم: 663
هذا الحرص على حضور صلاة الجماعة لم يكن مقتصراً على الصّحابة فحسب، بل كان حال كلّ السّلف ممّن أتى بعدهم، وهاكم بعض النّماذج المشرقة لسلفنا الصّالح في محافظتهم على الصّلاة وحبّهم لها: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "مَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ مُنْذُ ثلَاثِينَ سَنَةً إِلَّا وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ". مصنّف ابن أبي شيبة: 3522
وهذا رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ يَقُولُ: "مَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَّا وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا أَنْ أَكُونَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا". شعب الإيمان: 2669
ولقد سَمِعَ عَامِرٌ بنُ عَبْدِ اللهِ بنُ الزّبير المُؤَذِّنَ وَهُوَ يَجُوْدُ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ: "خُذُوا بِيَدِي"، فَقِيْلَ: إِنَّكَ عَلِيْلٌ! قَالَ: "أَسْمَعُ دَاعِيَ اللهِ فَلاَ أُجِيْبُهُ"، فَأَخَذُوا بِيَدِهِ، فَدَخَلَ مَعَ الإِمَامِ فِي المَغْرِبِ، فَرَكَعَ رَكْعَةً، ثُمَّ مَاتَ. سير أعلام النّبلاء، ج5، ص518
تلكم هي بعض النّماذج المضيئة الرّائعة والصّور البرّاقة من سير أسلافنا مع صلاتهم، هذا خبرهم مع صلاة الجماعة، حيث أنّهم كانوا يعدّون من يتخلّف عن صلاة الجماعة منافقٌ معلوم النّفاق، فما خبرنا نحن معها؟!
إنّ ممّا يؤسف له -يا عباد الله– أنّ التّفريط في شأن الصّلاة والجماعات أصبح ظاهرةً في بلدان كثيرٍ من المسلمين -إلّا ما رحم ربّي-، وقلّب نظرك أيّها المسلم، وقارن بين أعداد المصلّين في صلاة الفجر، ثمّ في مواكب النّاس خارجةً لعملها، يرتدّ إليك الطّرف خاسئاً وهو حسيرٌ، لأنّك ستجد عزوفاً كثيراً من بعض المسلمين عن الإتيان إلى المسجد.
فآهٍ من نفوسٍ تحرّكها مصالحها ولذّاتها العاجلة، ولا تتحرّك لنداء الرّحمن يناديها لرحمته ورضوانه،
وآهٍ من غفلتنا ورقدتنا عن كنوز الحسنات، وبحار الأجور، الّتي ضيّعها من ضيّع، يوم ضيّع صلاة الجماعة.
4- دور المسجد في بناء كيان الفرد والأمّة
إذا كان المسلمون قد أنشأوا المدارس والجامعات، ووضعوا لها مناهج الدّراسة الّتي تشمل جميع العلوم والمعارف، كما أنشأوا العديد من المؤسّسات، كالمحاكم وغيرها، فإنّ المسجد هو أوّل المؤسّسات الّتي انطلق منها شعاع العلم والمعرفة في الإسلام، وإنّ روح المسجد ورسالته التّربويّة والأخلاقيّة والتّوجيهيّة، ينبغي أن تسري في المدارس والجامعات والمؤسّسات كلّها، توجيهاً وتعليماً ومناهجَ وسلوكاً، لأنّ الإسلام لا يريد الفصل بين الدّين والدّنيا، أو بين العبادة والتّعليم، أو قُل بين مطالب الرّوح ومطالب الجسد، فقد اعتبر المسجد منذ أن وُجد مؤسّسةً تربويّةً للصّغار، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَؤُمُّ النَّاسَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ وَهِيَ ابْنَةُ زَيْنَبَ بِنْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَاتِقِهِ، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ أَعَادَهَا". صحيح مسلم: 543
ولقد ثبت أنّ الرّجال الّذين تمّت صناعتهم في المسجد كانوا دائماً على مستوى المسؤوليّة، صدقاً في الكلام والفعل، ونظافةً في اليد، وطهارةً في القلب، ونقاءً في السّريرة، ووفاءً بالعهد، وشجاعةً في الحقّ، ولهذا منحهم الله نصره وتأييده، لأنّهم جنوده، وهم الّذين أشار إليهم قول الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
يتعلّم المسلم ويتربّى في المسجد على محبّة إخوانه المؤمنين، فتشيع آصرة الإخوّة والمحبّة بين المؤمنين، حيث يتلاقى المسلمون يوميّاً مرّاتٍ عديدةً في بيتٍ من بيوت الله تعالى، وقد تساقطت ممّا بينهم فوارق الجاه والمال والاعتبار، فالمسجد كفيلٌ بإيجاد تعارفٍ أخويٍّ إيمانيٍّ لا يُنسى، كما أنّ من أهمّ وظائف المسجد التّربويّة أنّه يعوّد المسلمين على التزام الجماعة والارتباط بها عدّة مرّاتٍ في اليوم الواحد، حيث يستشعر المسلم أهمّيّة أن يكون مع إخوانه يؤدّون شعائر دينهم، وهم في ذلك سواسيةٌ كأسنان المشط حين وقوفهم بين يدي الله تعالى، فهم متساوون موحَّدون متوحّدون،  وما خُصّت صلاة الجماعة بما خُصَّت به من الفضل، إلّا لما لأثر الجماعة في قوّة المجتمع المسلم ولمِّ شمله، ورفض معنى الأثرة والتّعالي والأنانيّة.
وهكذا فإنّ المسجد يُعتبر مركزاً كبيراً لنشر العلوم والمعارف والثّقافة الإسلاميّة، كما أنّ له أثراً كبيراً في تربية النّفوس على الحلم والأناة والرّفق بالآخرين، والبعد عن الشّدة والقسوة، فقد روى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي المَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ). صحيح البخاريّ: 6128
ولمّا كان للمسجد هذه الأهمّيّة الكبيرة في إصلاح الفرد والمجتمع، فإنّنا نجد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل من أولّ أعماله إبّان وصوله إلى المدينة المنوّرة (حاضرة دولة الإسلام الوليدة)، هو أن عمد إلى تأسيس وإرساء قواعد المسجد، ليبدأ دورها في تربية المجتمعات الإسلاميّة، ولتصبح مع مرور الزّمن لا يقتصر دورها على أداء الصّلوات الخمس فحسب، بل لتقوم بجمع شمل الأمّة الإسلاميّة، وجمع قلوب المسلمين على المحبّة والاحترام، وإحياء روح الإسلام فيما بينهم.
هذا هو المسجد، وهذا دوره يا عباد الله، تجلّى لنا بوضوحٍ أنّ المسجد هو مبعث النّور في دنيا الظّلمات الحالكة، ومصدر الحياة في بيداء الحياة الموحشة، يؤهّل المسلمين للحياة النّافعة الكريمة، ويحثّهم على التّقوى والتّطهير، ويطالبهم بألّا يدخلوه إلّا بطهارة قلوبهم وأبدانهم، قال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التّوبة: 108].
5- همسةٌ في أذن شبابنا
لِنعُد إلى بيوت الله يا شباب الإسلام، ولنُعِد لها قدرها، ولنعلّق القلوب بها، وإذا أُغلقت دوننا أبواب الدّنيا وأهلها، فباب الله لا يغلق، وبيته مفتوحٌ لمن قصده، وما خاب من قضى وقته ببيت ربّ الأرباب، وعلّق قلبه بالمساجد مناجياً الإله الوهّاب.
إنّ الحاجة اليوم ماسّةٌ إلى تفعيل دور المساجد، وتوظيفها في إصلاح أحوال المسلمين، فليس في الإسلام رهبانيّة تقطع المسلم عن مجريات الحياة، بل إنّه دينٌ كاملٌ شاملٌ لكلّ جوانب الحياة، ومن هذا المنطلق فإنّ البيت الّذي اختُصّ للعبادة في الإسلام، لا بدّ أن ينطلق من هذه الشّموليّة، ويستوعب جميع المجالات، ويهتمّ بجميع عناصر المجتمع الإسلاميّ، ويقوم باستخدام طاقات الشّباب ومواهبهم استخداماً نافعاً للإسلام، ويزوّد أبناء الجيل بزادٍ من التّقوى والإحسان والسّلوك والمعرفة، ويغرس فيهم حبّ الإيمان والعمل الصّالح.
 

http://shamkhotaba.org