خروجٌ من الدّيار.. وآمالٌ بموعود الجبّار
مقدمة:
إنّ أغلى ما يملكه الإنسان بعد دينه هو وطنه، وما من إنسانٍ إلّا ويعتزّ بوطنه ويفخر به، لأنّه مهد صباه وطفولته، وملجأ كهولته ومنبع ذكرياته، وموطن آبائه وأجداده، ولذا فإنّ محبّة الوطن تقتضي التّعلّق به والمحافظة عليه من كلّ أذى والدّفاع عنه ضدّ المعتدين.
والوطن هو تماماً كالأمّ الحنون الّتي تحتضن أطفالها وتمنحهم الشعور بالأمان والسّكينة، ومهما سافر الإنسان ومهما دار من بلدانٍ حول العالم، فلن يجد أحنّ من حضن وطنه ولا أدفأ منه، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النّساء: 66].
وعلينا أن نعلم أنّ الفراق عن الوطن لا يعني بالضّرورة التّوقف عن العمل والإنتاج وفقدان الأمل، نتعلّم أنّ الهجرة ليست النّهاية وأنّ الإخراج لا يعني الانشقاق عن الوطن، بل كلّما اشتقنا لوطننا أكثر، تحفّزنا لأن نعمل ونتعلّم كي نعود إلى وطننا وفي يدينا ما يعمّره ويفيده.
1- حبّ الوطن فطرةٌ ودينٌ
إنّ للوطن في الإسلام شأناً عظيماً، والتّفريط في حقّه خطرٌ جسيمٌ، لأنّ الإسلام دين الفطرة، والنّفوس فُطِرت على حبّ ما ترعرت فيه من البلاد، وهذا هو الوطن الخاصّ بكلّ فردٍ أو جماعةٍ، وتراهم يبذلون لرقيّه كلّ جهدٍ واستطاعةٍ، إليه تشرئبّ نفوسهم، وفيه تأنس قلوبهم، وبه تتعلّق مشاعرهم، وهذا ليس بدعاً في الدّين، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَكَّةَ: (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ).
ويتجلّى هذا الحبّ منه صلى الله عليه وسلم حين جلس إلى ورقة بن نوفل، ابن عمّ السّيّدة خديجة رضي الله عنها، ولم يلتفت صلى الله عليه وسلم كثيراً إلى ما أخبره به ممّا سيتعرّض له في دعوته من محنٍ ومصاعب من قومه، حتى قال له ورقة: "لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟!).
لما للوطن من مكانةٍ في نفسه، وحين انتقل مهاجراً مضطرّاً إلى المدينة، سأل الله أن يحبّب إليه وطنه الثّاني، وينزل عليه فيه الرّاحة والسّكينة والأمن والطّمأنينة، فقال: (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ).
وبعد أن استوطنت نفسه الطّاهرة صلى الله عليه وسلم المدينة المنوّرة أظهر لها من الحبّ والوفاء والحنين أفضل ما يكون من مواطنٍ لوطنه، ولهذا طمأن الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه قوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ} [القصص: 85].
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إِلَى مَكَّةَ".
ومن خلال نصوص القرآن نجد أنّ حبّ الوطن غريزةٌ إنسانيّةٌ لا تعادلها إلّا غريزة حبّ الحياة، وكأنّ الوطن يساوي الحياة بالنّسبة للإنسان، فقد قرّر الله تعالى النّهي عن الإخراج من الوطن بالنّهي عن قتل النّفس حين أخذ العهد على بعض الأمم من قبلنا، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84].
وهكذا فإنّ حبّ الوطن نعمةٌ من الله تعالى على العبد، ولا يعرف قدرها إلّا من حرمها.
2- واجبنا نحو وطننا
إنّ المواطنة الحقّة قيمٌ ومبادئٌ وإحساسٌ ونصائحٌ وعزّةٌ وموالاةٌ وتضحيةٌ وإيثارٌ، والتزامٌ أخلاقيٌّ للفرد والمجتمع، فأين هؤلاء الّذين يدّعون حبّ الوطن والوطنيّة، ولا ترى في أعمالهم وسلوكيّاتهم وكلامهم غير الخيانة والعبث بمقدّراته والعمالة لأعدائه ونشر الرّذيلة ومحاربة الفضيلة؟!
أين الوفاء للأرض الّتي عاشوا فيها وأكلوا من خيراتها وترعرعوا في رباها؟! فالواجب على كلّ مسلمٍ أن يتفانى في خدمة وطنه والدّفاع عنه، فحبّ الوطن والدّفاع عنه لا يحتاج لمساومةٍ ولا مزايدةٍ، لا يحتاج لشعاراتٍ رنّانةٍ، فأفعالنا تشير إلى حبّنا، وحركاتنا تدلّ عليه، وأصواتنا تنطق به، وآمالنا تتجّه إليه، وطموحاتنا ترتبط به، لأجل أرضٍ وأوطانٍ أُريقت دماء، ولأجل أرضٍ وأوطانٍ تشرّدت أممٌ وتحمّلت الشّعوب ألواناً من العذاب، فالوطن من أثمن ما في وجودنا، ومن أجله -وخاصّةً في هذه الفترة العصيبة- نحتاج إلى العمل الجادّ من دون مقابلٍ، لأنّ الوطن فوق كلّ شيءٍ:
بلادي هواها في لساني وفي دمي يمجّدها قلبي ويدعو لها فمي
وإنّ من الواجب علينا الآن وقد حلّ بنا ما لا يخفى على أحد، ولا يحتاج إلى شرح وتفصيل، من هجوم العدوّ المجرم الظّالم الغاشم من النّصيريّة والشّيوعيّة وزبانيتهم وحلفائهم ومن ساندهم، ممّا يتحتّم علينا توزّع المهامّ في الدّفاع والوقوف في وجه هؤلاء المعتدين المجرمين، فلا نسمح لهم تدنيس أرضنا بأجسادهم النّجسة، وأن نكون يداً واحدةً وجسداً واحداً يساند بعضنا بعضاً، ممتثلين قوله صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).
وقوله: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا).
يجب أن نكون كخليّة النّحل الّتي يقوم كلّ فردٍ فيها بعمله الموكل إليه، فنحن أولى بذلك منهم، فتعالوا لنتوزّع المهامّ الملقاة على عاتقنا تجاه ما يجري في السّاحة اليوم، ولنقم جميعاً أوّل ما نقوم به طرق أبواب الملك سبحانه بقلوبٍ منكسرةٍ ذليلةٍ واثقين بوعده سبحانه، ولا نجعل لليأس والقنوط سبيلاً إلى قلوبنا، لأنّ الله ربنّا ومولانا ولن يخذلنا أو يتخلّى عنّا، ثمّ علينا أن يقوم السّياسيّون منّا بالضّغط على كلّ الدّول الّتي تدّعي أنّها أصدقاءٌ للشّعب السّوريّ لإيقاف أنهار الدّماء الّتي تجري في بلدنا الحبيب، وليقم العسكريّون من قاداتٍ وجنودٍ وشبابٍ قادرين على حمل السّلاح بمواصلة العمل العسكريّ، لا يتخلّف شابٌّ واحدٌ ضدّ هذا المجرم ومرتزقته، بحيث نكون مستمسكين بحبل الله، واثقين بوعده، مخلصين له النّيّات، حتى تقلب الطّاولة على المجرمين بعونه تعالى، وليكن القادة أمام جنودهم في الميدان، حتى يشحذوا هممهم، ويجب أيضاً على السّوريّين المغتربين النّزول للشّوارع والاعتصام أمام السّفارات في كلّ الدّول الّتي يسكنون فيها، ومن الواجب أن تكون هناك حملات تبرّعاتٍ لعائلات المجاهدين بشكلٍ خاصٍّ والمهجّرين النّازحين بشكلٍ عامٍ لتأمين الدّفء والمسكن والطّعام والشّراب، ويجب أن لا ينسى الآباء والأمّهات وكبار السّنّ واجبهم في تشجيع أولادهم على الجهاد في سبيل الله، والتّضرّع إلى الله تعالى بخالص الدّعاء بقلوبٍ صادقةٍ تدعو بالفرَج والنّصر والفتح والتّمكين، وهكذا يتحمّل كلّ فردٍ فينا واجبه، ويقوم بأداء رسالته، ممتثلاً قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ} [المائدة: 2].
3- مرارة الإخراج من الدّيار
إنّ من أشدّ ما يتعرّض له الإنسان من أنواع الابتلاءات؛ ألم الإخراج من الدّيار، والطّرد من الأوطان، والتّهجير القسريّ بقوّة السّلاح، لأنّ فيه تركاً للمألوف وإقبالاً على المجهول، وفيه انخلاعٌ من الأملاك الّتي أفنى الإنسان عمره في تشييدها وتحسينها وتنميتها، فينتقل المهجّر قسريّاً من عزّ بلده وعشيرته إلى ذلّ أقوامٍ غريبين عنه، ومن غنائه بملكه إلى فقره وحاجته إلى غيره، فلا عجب إذاً أن يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم مخاطباً مكّة: (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ).
وإنّ من قلّب صفحات التّاريخ وتدبّر الواقع، وجد أنّ المسلمين هم أكثر الأمم تهجيراً من بلادهم وإخراجاً من ديارهم.
هكذا يفعل بهم أعداؤهم على مختلف أجناسهم وأديانهم، بيد أن المسلمين أيّام قوّتهم وعزّهم لم يهجّروا أهل البلاد الّتي فتحوها، بل ضمّوهم إلى نظامهم وأدخلوهم في ذمّتهم ووفّوا لهم عهودهم وحفظوا لهم حقوقهم، ولم يهجّروا أحداً منهم إلّا لخيانةٍ ظهرت منهم فيكون الإجلاء اتّقاءً لشرّهم.
ألا ما أعظمه من دينٍ عاشت في كنفه الدّول المتعاقبة، أهل الملل والنحل والطّوائف، فأقام العدل فيها ورفع الظّلم عنها، ولم يضّطر أهلها إلى التّهجير ومغادرة البلاد.
4- الأمل يُولد من قلب التّهجير
الأمل هذه الكلمة الّتي تتوقّف عليها كلّ حركة الإنسان في هذه الحياة، لأنّ الأمل يمثّل تطلّع الإنسان للمستقبل في قضاياه كلّها، في حركاته وفي أهدافه وفي عمره كلّه.
الهجرة تُعلّمُ المؤمنين صناعة الأمل، الأمل في موعود الله، الأمل في نصر الله، الأمل في الفرَج بعد الشّدّة، والعزّة بعد الذّلة، والنّصر بعد الهزيمة، والقوّة بعد الضّعف، والوحدة بعد الشّتات والفُرقة، دروسٌ ودروسٌ نأخذها من النّزوح والتّهجير القسريّ تصبّراً وتسليماً لله وتسليةً لقلوبنا وثقةً بأنّنا ما هُجّرنا إلّا لأنّنا نوحّد الله وندعو لدينه، ولنا في كليم الرّحمن موسى عليه السّلام أسوةٌ، كليمُ الله، وواحدٌ من أولي العزم، يباشر التّهجير القسريّ حينما ينأى بقومه بني إسرائيل من مصر عابراً بهم البحر، حيث يحدّثنا كتاب ربّنا عز وجل عن ذلك فيقول: {وَقَالَ مُوسَىٰ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 104-105].
ويقول أيضاً: {قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 109-110].
وآياتٌ كثيرةٌ تدلّنا كيف سار موسى عليه السّلام بقومه حتّى عبروا البحر باتّجاه فلسطين، نائياً بهم من طغيان فرعون وبطشه، وأيضاً لقد كانت موافقة رسول الله لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، ومن ثَم َّإلى المدينة المنوّرة لتتأسّس نواة الدّولة الإسلاميّة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحجّ: 40].
وهكذا نتعلّم من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من وطنه الأصليّ العظات والعبر، ونرى كيف انبثق الفرَج من رحِم الظّلمة، وخرج الخير من قلب الشرّ، فما بعد ألم المخاض إلّا الولادة، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشّرح: 5-6].
ولنستبشر بوعد الله تعالى الّذي وعد به عباده المظلومين المقهورين حينما قال: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195].
فقد جمع الله تعالى في هذه الآيات بين الأسباب والنّتائج، فمن حصلت له الأسباب من الهجرة والإخراج من الدّيار والإيذاء في سبيل الله والجهاد في سبيله والقتل ابتغاء مرضاته، حقّق الله له وعده الّذي وعده به من تكفير السّيئّات والدّخول إلى الجنّات، وكلّ ذلك تفضّلاً وثوابا من ربّ الأرض والسّماوات، ثمّ يختم الله تعالى الآيات بتسليةٍ لقلوب المكلومين حتّى لا ينخدعوا بالنّعيم الّذي يتقلّب فيه الكفّار لأنّه متاعٌ زائلٌ وبعده عذاب النّار، بَيد أنّ عقبى المتّقين جنّاتٌ وأنهارٌ، يوضّح ذلك ربّنا بقوله: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 196-198].
نعم يا عباد الله: لكلّ سلعةٍ ثمنٌ، وعلى قدر قيمة السّلعة يكون دفع الثّمن، فالأمّة الّتي تريد العزّة والرّفعة، الأمّة التي تريد هداية النّاس إلى الحقِّ والخير، لا بدّ أن تتعلّم من التّهجير القسريّ دروساً وعبراً تخرجها من الكبوة الّتي سقطت فيها وتعيدها إلى الصّدارة، تعيدها إلى صناعة التّاريخ، تعيدها إلى موقع الفعل، فتكون فاعلةً منفعلةً، بدلاً من أن تكون مفعولاً بها، وعليها أن تفرّق بين الدّين الحقّ وأهله، وبين المتاجرين المنفّرين عن الدّين بأساليب وفتاوى ليس لها في الدّين ولا من الدّين أصلٌ، بل تُخالف الدّين وتصطدم معه.
على الأمّة أن تعلم أنّ الإسلام هو دين بذلٍ وتضحيةٍ، وعلمٍ وعملٍ ومعرفةٍ ودعوةٍ للحقّ، وليس دين رهبنةٍ ومسكنةٍ وخنوعٍ.
5- دورنا تجاه إخواننا المهجّرين
ما أحوج المسلمين في هذه الظّروف القاسية والأيّام العصيبة الّتي هُجّر فيها قسريّاً الآلاف المؤلّفة من بيوتهم وديارهم، متنقّلين من مكانٍ لآخر في شتاء باردٍ، يفترشون الأشجار ويلتحفون السّماء، لا يجدون مأوى يؤون إليه سوى فئةٍ قليلةٍ جدّاً ممّن آوى بعض العائلات القليلة القليلة، وبقيت الكثرة الكاثرة تذوق ألم التّهجير المرّ والذّلّ والهوان، والمبيت في العراء وعلى جوانب الطّرقات وتحت أشجار الزّيتون، ممّا يتوجّب علينا القيام بدورٍ فعّالٍ تجاه هؤلاء الإخوة، متذكّرين ما فعله سلفنا الصّالح من الأنصار رضي الله عنهم حينما استقبلوا إخوانهم المهاجرين وليس في بيوتهم من الزّاد إلّا قوت صبيانهم، فكانوا يؤثرونهم على أنفسهم وعيالهم، حيث يقول الواحد منهم: علّلي الأولاد حتّى يناموا وأطفئي السّراج وقدّمي ما عندك للضّيف، فكانت تفعل ويجلس الزّوجان مع ضيفهما على المائدة ويأكل الضّيف وحده ويبيت الزّوجان طاويين، ويغدو الأنصاريّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ).
وينزل الله تعالى قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
ومعنى خصاصة: أي تعبٌ وجوعٌ وفقرٌ واحتياجٌ، وهذا قمّةٌ في الكرم والجود، ألّا تجد شيئاً وتؤثر أخاك!
ما أجمل هذا الخلق الكريم الّذي تخلّق به أفراد ذلك المجتمع الإسلاميّ، فأصبح شعاراً لهم ورمزاً لإيمانهم، ووالله سيبقى صنيع الأنصار منار هدايةٍ وإشعاع للإنسانيّة في تيه المطامع والأثرة والشّحّ والإمساك ما أقبل ليلٌ وأدبر نهارٌ، ودعوةٌ للنّاس للبذل والسّخاء والإيثار.
وحذاري أن تفهموا أنّ الإيثار لا يكون إلّا في الأموال فقط، لا وألف لا، بل قد يكون في الأرواح أيضاً، فلقد فدا الصّحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرواحهم، فهذا سيّدنا سعدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقف يوم أحدٍ مدافعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحارب المشركين ويرميهم، فيُسّر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدعو له بدعوةٍ ما جمع فيها رسول الله بمثلها لأحدٍ قبله، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: (يَا سَعْدُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي).
واليوم فإنّنا نجد من يسطّر أروع البطولات ممّن يؤثر حياة الآخرين على حياته من أصحاب القبّعات البيضاء؛ الّذين تنحني لهم الجباه احتراماً وإجلالاً وتقديراً لجهودهم المبذولة، حيث يعرّضون حياتهم للخطر والموت فداءً لإخوانهم، الّذين تُقصف بيوتهم فوق رؤوسهم بحمم الموت، فيسارع هؤلاء الأبطال الأكارم إلى مكان الحدث غير آبهين بالموت، ليبذلوا كلّ ما في وسعهم بل وفوق طاقتهم من أجل إنقاذ روحٍ مسلمةٍ ولو كلّفهم ذلك الأرواح والمهج، ونسأل الله تعالى أن يجزيهم خير الجزاء.
ونحن يا عباد الله: علينا واجبٌ كبيرٌ تجاه إخواننا المهجّرين الّذين لا تخفى معاناتهم على أحدٍ منّا، ممّا يتوجّب على كلّ من عنده فضل مسكنٍ أو طعامٍ وشراب وأثاثٍ أن يقدّمه لهم راحماً وضعهم ومأساتهم الّتي لا توصف، حتّى يرحمنا الله تعالى، فإنّ الجزاء من جنس العمل ومن رَحِم رُحِم.
ولقد مدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأشعرييّن عندما كانوا يتقاسمون ما عندهم بالسّويّة، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ).
إنّ الأشعرييّن إذا أرملوا في الغزو: بمعنى: لم يبق عندهم شيءٌ، وكأنّ الإنسان الّذي صار إلى هذه الحال لم يبق عنده إلّا الرّمل، ولهذا يقال للمرأة الّتي فقدت زوجها: أرملةٌ، لأنّ عائلها قد مات، فلنتراحم فيما بيننا حتّى تشملنا رحمة الله تعالى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ).
ولنكن في حاجة إخواننا يكن الله في حاجتنا، ولنيسّر عسر إخوتنا ما استطعنا، ييسّر الله عسرنا، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ).
ومن لا يريد أن يتاجر هذه الصّفقة الرّابحة مع الله تعالى بإيواء إخوانه وتقديم المساعدات والعون لهم، فعلى أقلّ تقديرٍ يجب ألّا يرفع لهم في أجار البيوت، وليرضَ بالقليل، وليتجنّب استغلال حاجة إخوانه، فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ).
6- وصيّةٌ وتحذيرٌ
علينا أن نعلّق قلوبنا بالله، ونثق بوعده بأنه سينصر جنده المؤمنين، ويهزم الكفرة المجرمين، وإن زعموا أنّهم منتصرين، فقد قال ربّنا في كتابه الكريم: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 44-45].
فالواجب علينا أن نزداد إيماناً وتسليماً لأمر الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173-174].
فلنحذر من سوء الظّنّ بالله، واليأس والقنوط من كرمه ورحمته، من أن يتسرّب إلى القلوب.
http://shamkhotaba.org