مقدمة:
إنّها العظَمة الّتي أبقاها الرّحمن حجّةً باقيةً ما بقي اللّيل والنّهار، إنّه كتاب الله عز وجل، النّور المبين الّذي أضاء الله به الظّلمات، وغيّر به المفاهيم، وقلب به الموازين، ومحا به حميّة الجاهليّة، وأيقظ القلوب الغافلة، فمن أراد علاجاً لما يصيبه من أسقامٍ، ومن رام السّعادتين في الدّارين، فليلزم ما بين دفّتي القرآن تلاوةً وتدبّراً وعملاً، فقد جاوزت فضائله كلّ فضلٍ، وحاز أهله أعلى نُزلٍ، وإنّه لشرفٌ ومكانةٌ أعدّها الله لأهل القرآن في الدّنيا والآخرة، قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10].
1- ضرورة ارتباط النّاس بالقرآن والسّنّة
إنّنا نعيش اليوم واقعاً صعباً ومريراً، يوجب على العقلاء من المربّين والعلماء والدّعاة والموجّهين ضرورة ربط النّاس بالقرآن والسّنّة، لما لهما من أثرٍ عظيمٍ على حياة الفرد والأمّة، فالأمّة تعيش وضعاً لم تمرّ بمثله في تاريخها، وكلّنا يبحث عن العلاج، والعلاج موجودٌ في كتاب الله عز وجل، حيث يقول سبحانه: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].
وكلّنا يرجو السّلامة والنّجاة من مضلّات الفتن المتكاثرة، ولا نجاة منها إلّا بالقرآن، كم أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع: (وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ).
فرغدُ الحياة في كتاب الله عز وجل، ومعالجة مشكلات الحياة الفرديّة والجماعيّة، الأسريّة والاجتماعيّة في ضوء القرآن الكريم من أنجع الأدوية وأنفعها، بل من أقوى أسباب رقيّ الأمم والعودة بها إلى سابق عهدها الّذي كان يعيشه سلفنا الصّالح رضوان الله عليهم، ولكنّ هذا لا يكون بغير تدّبر كتاب ربّنا الّذي أُنزل لإصلاح شأننا.
إنّ أمّتنا اليوم تعيش وقتاً حرجاً ومرحلةً حاسمةً من تاريخها، فلقد جاءنا الغزو الغربيّ بأفكاره ومكائده لأمّة الإسلام، حيث إنّ الأعداء لا يألون جهداً في الحيلولة بين الأمّة ونهضتها في العصور السّابقة واللاحقة، ولكن من فضل الله علينا جاءت آيات الكتاب الكريم دروساً بليغةً تناسب حال من نزل عليهم القرآن، وتناسب المسلمين في كلّ زمانٍ ومكانٍ، كما قال الإمام الشّاطبيّ رحمه الله تعالى:
وَبَعْدُ فَحَبْلُ اللهِ فِينَا كِتَابُهُ فَجَاهِدْ بِهِ حِبْلَ الْعِدَا مُتَحَبِّلَا
وَأَخْلِقْ بهِ إذْ لَيْسَ يَخْلُقُ جِدَّةً جَدِيداً مُوَاليهِ عَلَى الْجِدِّ مُقْبِلَا
لقد أُنزل القرآن على أمّةٍ متناحرةٍ متشرذمةٍ، فألّف الله به بين القلوب، وجمع به الشّمل، واليوم تعيش الأمّة تناحراً وتفرّقاً وتشرذماً بسبب النّعرات الطّائفية والحدود المصطنعة، فلقد بزغ فجر القرآن ولم تكن للعرب قوّةٌ ودولةٌ وكلمةٌ، بل همجٌ رعاعٌ أتباعٌ للفرس والرّوم، فما أضحوا حتّى ملكوا كنوز كسرى وقيصر، واليوم يعيش المسلمون تبعيّةً غربيّةً من الطّراز الأوّل!
تنكّب النّاس الصّراط فغدت حضارتهم المضيئة نسياً منسيّاً.
كنّا أساتذة الدّنيا وقادتها والغرب يخضع إن قمنا نناديه
كانت أوربّا ظلاماً ضلّ سالكه وشمس أندلسٍ بالعلم تهديه
واليوم تقنا لمجدٍ فرّ من يدنا فهل يعود لنا ماضٍ نناجيه
حقّا! هل يعود لنا ماضٍ نناجيه؟
الجواب: نعم إذا عدنا إلى مصدر عزّنا وسبب رفعتنا، إلى الكتاب الّذي يهدي للّتي هي أقوم، إلى السّنّة الّتي عضّ عليها الرّعيل الأكمل، فالخطوة الأولى في النّهوض بالأمّة، هي دعوة النّاس إلى التّمسك بكتاب ربّهم، والرّجوع إليه والاهتداء بهديه.
2- عزّنا في تدبّر آيات ربّنا
إنّ تدبّر الآيات الّتي تتلوها له أثرٌ كبيرٌ على قلبك وجوارحك، فتدبّر القرآن يسكب النّور وينعش الفؤاد، ويجلو الصّدأ، ويحرّك المشاعر، ويجلب للرّوح حياتها فتشرق وتستنير، وكثيراً ما نجد أنّ الله تعالى قد الآيات القرآنيّة بالإشارة إلى التّفكّر والتّدبّر: {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 242]، {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النّحل:65]، {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176].
فالقرآن يدعونا في هذه الآيات وأمثالها إلى التّفكّر وتدبّر آياته سبحانه، لأنّ تدبّر كتابه تعالى هو الغاية الّتي من أجلها أُنزل القرآن، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمّد: 24].
فالّذين أُغلقت قلوبهم وأُقفلت فأنّى لهم أن يتدبّروا كتاب ربّهم سبحانه! لأنّ استغلاق القلوب كاستغلاق الأقفال الّتي تمنع النّور والشّمس والهواء، فهي تحول بينها وبين الانتفاع بهدي القرآن.
إنّ لتدبّر آيات القرآن أثراً بليغاً في خشية القلب ورقّته وإقباله على الله تعالى، وإنّ النّاظر في أحوال كثيرٍ من أبناء المسلمين اليوم ليجد من قسوة القلب وجمود العين ما لا يتصوّره عقل عاقلٍ، تتلى عليهم آيات ربّهم الّتي لو أُنزلت على الجبال الرّاسيات لرأيتها متصدّعةً من خشية الله ولا تحرّك في هذه القلوب القاسية أمراً، وإنّها لمصيبةٌ يصاب بها العبد المسلم في حجابه عن ربّه سبحانه وهو لا يشعر بهذا الحرمان، لأنّه لم يذق حلاوة التّلذّذ بكلام الله تعالى ومناجاته.
نعم: إنّ تدبّر كلام الله تعالى يجعل المسلم هادئ البال مطمئّن القلب قرير العين، يؤمن بأنّ الله هو المعطي فلا يطلب من غيره، ويؤمن بأنّ الله هو القادر القويّ فلا يخاف إلّا منه، ويؤمن بأنّ الأمور كلّها بيده سبحانه فلا يثق بسواه، ولا يعتمد على غيره.
وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام يتأثّرون بالقرآن أشدّ التّأثر إذا قرؤوه أو قُرِئ عليهم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (اقْرَأْ عَلَيَّ)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ، قَالَ: (نَعَمْ) فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} [النّساء: 41]، قَالَ: (حَسْبُكَ الآنَ) فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: "انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ".
وهكذا كان حال أصحابه أيضاً رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: مَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَقَالَ: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، قَالَ: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ).
3- عزّنا في التزامنا بأحكام القرآن وأخلاقه
لقد أعزّنا الله تعالى وشرّفنا وكرّمنا باتّباع شرعه وقرآنه، وبيّن أنّه لا يؤمن العبد إلّا إذا رضي بحكم القرآن والسنّة، رضاءً لا يداخله شكٌّ ولا ريبٌ، فقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النّساء: 65].
ولقد أوضح سبحانه أنّه قد أعزّنا من الجاهليّة وشعاراتها وأحكامها وأرجاسها، فلا ينبغي لنا أن نرضى بحكمها بعد أن أنقذنا الله منها، فقال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
فلا تطلبوا القوانين الوضعيّة والأحكام الدّستوريّة الجائرة، بل اطلبوا حكم الله وحكم رسوله حتّى لا تضلّوا عن منهج الله، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ عز وجل حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، أَلَا إِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ).
لقد حفظ القرآن الحقوق، وصان الأعراض، وهذّب الأخلاق، تأمّل معي -على سبيل المثال- كيف جعل للمرأة حقوقاً وكرامةً، وكيف صان شرفها فأحياها بعد أن كانت موءودةً، وأعزّها بالقرار في بيتها والحجاب والعفّة والبعد عن التّبرّج والسّفور، فقال سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ} [الأحزاب: 33].
في حين أنّ الكثير يعتبر هذا الحجاب تخلّفاً وتقييداً لحريّة المرأة، فيتّبع حكم الغرب، ويرفض حكم القرآن، ويعتبر التّقدّم بالتّفسّخ والعريّ، واقتراف المحرّمات، والحريّة المزعومة بنزع الأخلاق والآداب، ليكون في ذلك عنواناً للتّطوّر والحضارة والازدهار.
وللأسف: زَهِدْنَا في الميراث الحقّ من هدي القرآن الكريم ونوره، وبحثنا عن زبالات الأفكار، وصديد الأقوال وغثائها، لم نرفع رأساً لهدى الله تعالى الّذي أتى به رسوله، فكانت النّتيجة شقاءً وضنكاً، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ} [طه: 124].
4- هو نبأٌ عظيمٌ ولكنّنا عنه معرضون
قال تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 67].
آيةٌ من كتاب ربّنا سبحانه تحمل في طيّاتها العتب الشّديد، والرّقراق العذب بنفس الوقت، وفيما يبدو ينحطّ أوّل ما ينحطّ علينا نحن المسلمين في هذا العصر، على الرّغم من هذا التّنويه الّذي أشرنا إلى بعضٍ منه في كتاب الله في بيان أهمّيّة الإقبال عليه، وعلى الرّغم من تنويه المصطفى صلى الله عليه وسلم ودعوته المتكرّرة إلى الاحتفاء بخطاب الله جلّ وعلا لنا، وحديثه عن الأجر العظيم الّذي يدّخره الله لمن يتلوه ويتدبّر معانيه، ننظر إلى جلّ المسلمين في هذا العصر فإذا هم عن هذا الكتاب معرضون، إعراض استخفافٍ واستهانةٍ، أو إعراض نسيانٍ، اللهمّ إلّا فئةً قليلةً تلتفت إلى كتاب الله وتعنى به بشكلٍ ما، ويستأنسون به بين الحين والآخر.
وأما السّواد الأعظم في هذا العصر من المسلمين فإنّهم عنه معرضون، في الوقت الّذي يرون فيه أنّهم يسيرون على طريق الهداية والرّشد، وفي الوقت الّذي يتحدّثون فيه عن مشكلاتٍ اجتماعيّةٍ ونفسيّةٍ مختلفة، ويزفرون ويتأفّفون بحثاً عن علاجاتٍ لها.
لم يتوّج الله عز وجل الإنسان بتاجٍ في الدّنيا أعظم من هذا الخطاب الّذي خاطب الله به الإنسان من خلال كتابه العظيم، والّذي جعل الإنسان أهلاً لأن يخاطب به ولم يكن لذلك من قبل أهلاً، وحسبكم ما تقرؤونه في كتاب الله عز وجل من الآيات الّتي توضّح عظم هذه المنّة، وتوضّح أهمّيّة هذه الصّلة الّتي انعقدت بين الإنسان وربّه، فقال سبحانه: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [المائدة: 15].
ولكن على الرّغم من معرفة النّاس أنّ هذا القرآن هو مصدر عزّهم ومجدهم ورفعتهم في الدّنيا والآخرة، على الرّغم من ذلك كلّه لم يكونوا من الشّاكرين لربّهم سبحانه على هذه النّعمة، بل أعرضوا عنه فكانت النّتيجة حياةً ملؤها الضّنك والشّقاء والعناء، لأنّهم تكبروا على أوامر الله بغير حقّ، فصرفهم الله تعالى عنه، مصداقاً لقوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأعراف: 146].
5- سل نفسك: كيف حالك مع القرآن
أكرم الله هذه الأمّة بأن جعلها أفضل الأمم، وشرّفها بأن أنزل خير كتبه على خير رسله، فقال سبحانه: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [المائدة: 15].
فالنّور هو سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم الّذي أظهر الله به الحقّ، والكتاب المبين هو القرآن الّذي أنزله الله ليكون منهج حياةٍ وهدايةٍ للنّاس عامّةً، ومرشداً إلى أقوم وأنجح سبيلٍ، فبقدر ما نقترب من القرآن ونلازمه قراءةً وتدبّراً وعملاً؛ بقدر ما ننال من بركاته ويفتح لنا من خيراته، وبقدر ما نبتعد عنه بقدر ما تحيط بنا الهموم والغموم، ومن ثمّ تضيق الصّدور، وتخيّم علينا الأحزان، ولذلك كان النّبي صلى الله عليه وسلم يوصي بهذا الدّعاء الجامع المانع: (مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟ قَالَ: (أَجَلْ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ).
فهو ربيع القلوب، ونور الصّدور، وجلاء الأحزان، ومذهب للغموم والهموم، وهو العصمة الواقية، والنّعمة الباقية، والحجّة البالغة.
فهل سألت نفسك ما هو حالك مع القرآن؟ وما منزلته في نفسك وحياتك؟ فالنّاس من خلال تعاملهم مع القرآن أصناف:
• فصنفٌ يلازمون القرآن تلاوةً وتدبّراً وتعلّماً وتعليماً ودعوةً وتطبيقاً، وهؤلاء في أعلى وأسمى وأشرف المنازل عند الله تعالى، ففضلهم ليس كفضل أحدٍ، وعزّهم ليس كعزّ أحدٍ، رفعوا قدر القرآن فرفع الله قدرهم، فهم أهل الله وخاصّته، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: (هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ).
• وصنفٌ يلازمون القرآن قراءةً فقط، وهمّهم تقليب الصّفحات وإنهاء الختمة إثر الختمة، والبعض لا يعرف القرآن إلّا في رمضان، والبعض لا يقرؤه إلّا في الصّلوات والمناسبات كالعزاء ونحوه، بل يوجد أناسٌ لا يقرؤونه أبداً، والمصيبة العظمى عند من ينتسب لأمّة القرآن وهو يكذّب بالقرآن ويصدّ عنه ويطعن فيه، ويصف أحكامه بأنّها لا تتناسب مع العصر الّذي نعيش فيه.
فلنحرص على أن نكون من الصنف الأوّل الّذين يلازمون القرآن تلاوةً وتدبّراً وعملاً، والحذر من الأصناف الباقية الّذين لا يتدبّرون كلام ربّهم، فضلاً عن أن يطبّقوا أحكامه ويعملوا بأوامره.
وختاماً: فلنعلم أنّ كلّ ما يمرّ بنا من أزماتٍ، وما يعترضنا من مشكلاتٍ، وما يصيبنا من ابتلاءاتٍ، فإنّ الحلّ الأمثل والمخرج منه التّمسّك بكتاب الله تعالى، فهو مفتاح نصرنا وعزّنا، فلنحرص عليه ولنستمسك به، ينصرنا الله ويثبت أقدامنا.
إن الأمّة اليوم بحاجةٍ إلى رجالٍ يتربّون على موائد القرآن كما تربّى عليها من سبقهم ممّن انقادوا لربّهم، فقادوا البشريّة إلى ما فيه خيرها وصلاحها، وسادوا الأمم وحكموها بقوّتهم الإيمانيّة والأخلاقيّة، تلك القوّة الّتي تغذّت من نور القرآن العظيم الّذي ملأ حياتهم فأيقنوا أنّهم أمّةٌ ذات رسالةٍ وهدفٍ أسمى، فانتقلوا بالقرآن من عبّاد الحجر إلى قادةٍ للبشر تسود البلاد والعباد.
إنّه القرآن الّذي أعزّهم ورفع ذِكرهم في الأوّلين والآخرين، وضمن لهم الأمن والأمان والسّعادة، فأصبح الواحد منهم يعدل أمّةً، ولن يصلح آخر هذه الأمّة إلّا بما صلح به أوّلها.
http://shamkhotaba.org