مقدمة:
قد يُستغرب العنوان من قِبل المكلومين؛ فينبري قائلهم: أما يكفينا كلّ هذا البكاء حتّى تقرحت مآقينا، حتّى تكون رسالة المنبر بعنوان (دمعة)!
أما والله لقد جفّت المآقي، وانحبست ماء العيون؛ لكثرة ما بكينا من تراكم الشّدائد والابتلاءات علينا، أما يكفينا كلّ هذا البكاء؟!
نعم ما زالت تستوقفنا المشاهد المؤثّرة، والمواقف الّتي تُبكي الحجر، غير أنّنا بحاجةٍ إلى توظيف هذه الدّموع لتكون في محراب العبوديّة لله تعالى، نحن بحاجةٍ إلى دورة لياقةٍ إيمانيّةٍ حتّى نجعل من دموعنا قرباناً لعطاءات الله تعالى ولفيوضات المنعم المتفضّل جل جلاله.
بحاجةٍ أن نجعلها دليلاً على الرّحمة كما عبّر عن ذلك سيّد الرّحماء صلى الله عليه وسلم: عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ، يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِي المَوْتِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ)، فَأَعَادَتِ الرَّسُولَ أَنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَيْهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ: (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ).
1- أين البكّاؤون لله تعالى في هذا الزّمن؟
مَن منّا اليوم يُسمع لصدره أزيزٌ من البكاء؟
من منّا له في خدَّيه خطّان أسودان من كثرة البكاء؟
من منا يُحرم من عملٍ صالحٍ فلا يجد سلوى لتقصيره إلّا فيض دموعه بين يدي الله تعالى؟
{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التّوبة: 92].
مَن منّا استشعر عظمة الله تعالى؛ فاستغرق في ذكر الله جل جلاله فأسبل الدّمع من عينيه سرّاً بينه وبين مولاه؟ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ: (رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ).
كما أنّنا بحاجةٍ إلى أولي بأسٍ شديدٍ في مقارعة أعداء الله؛ نحن بأمسّ الحاجة إلى أولئك الضّعفاء بين يدي الله تعالى، المفتقرين إليه المنكسرين ببابه، وإن كان الفريق الأوّل هم سببٌ حسيٌّ من أسباب النّصر، فإنّ الفريق الثّاني لهم أقوى أسباب النّصر المعنويّة، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: رَأَى سَعْدٌ رضي الله عنه، أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ).
تعالوا لنستعرض في تاريخنا المشرق أمثال هؤلاء الّذين عرضوا بضاعتهم على الله بدموع الضّعف والانكسار فأجابهم الله تعالى، ولعلّ من أبلغ الأمثلة: محمّد بن واسعٍ رحمه الله تعالى، قَالَ ابْنُ شَوْذَبٍ: "لَمْ يَكُنْ لِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ عِبَادَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَكَانَتِ الْفُتْيَا إِلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا قِيلَ: مَن أَفْضَلُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ؟ قِيلَ: مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ، وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ أَخْشَعَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ، وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: كُنْتُ إِذَا وَجَدْتُ مِنْ قَلْبِي قَسْوَةً غَدَوْتُ فَنَظَرْتُ إِلَى وَجْهِ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ، كَانَ كَأَنَّهُ ثَكْلَى، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: قَالَ رَجُلٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ: أَوْصِنِي، قَالَ: أُوصِيكَ أَنْ تَكُونَ مَلِكًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ: كَيْفَ هَذَا؟ قال: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ: لَوْ كَانَ لِلذُّنُوبِ رِيحٌ مَا جَلَسَ أَحَدٌ إِلَيَّ، وَقَالَ الأَصْمَعِيُّ: لَمَّا صَافَّ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ التُّرْكَ وَهَالَهُ أَمْرَهُمْ سَأَلَ عَنْ مُحَمَّدِ بن واسع، فقيل: هو ذاك في الميمنة جانحٌ على قوسه يُبَصْبِصُ بِإِصْبَعِهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، قَالَ: تِلْكَ الإِصْبَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ سَيْفٍ شَهِيرٍ وَشَابٍّ طَرِيرٍ، وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ: لا نَزَالُ بِخَيْرٍ مَا بَقِيَ لَنَا أَشْيَاخُنَا: مَالِكٌ، وَثَابِتٌ، وَابْنُ وَاسِعٍ".
كم نستشعر فقرنا في هذا الجرح النّازف لرجالٍ يستفتحون أبواب السّماء بدموع الانكسار، لرجالٍ يعرفون كيف يدخلون على الله تعالى من باب الافتقار.
2- ليس ماء العين هدفاً في ذاته
الباري سبحانه هو الّذي خلق المحيطات والبحار، وأفاض العيون، وأجرى الأنهار، وأنزل من السّماء ماءً، ويريد منك مثل رأس الإبرة من عينك، يريد منك نقطةً ولو بدأتها بالتّباكي، فلماذا يريدها الله تعالى؟!
الله أغنى الأغنياء عنك وعن دموعك وعن عبادتك، إنّما يريد منك الدّموع لقلبك، فما كانت الدّموع هدفاً بذاتها، وإنّما الهدف ليرقّ قلبك، فإذا رقّ قلبك كان موضعاً لرحمات الحقّ ولفيوضات الباري ولنظر الربّ جل جلاله.
• بالبكاء يرفع الله عنّا العذاب: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِ الحِجْرِ: (لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ).
• بالبكاء تُستجلب الرّحمات: عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ، يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِي المَوْتِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ)، فَأَعَادَتِ الرَّسُولَ أَنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَيْهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ: (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ).
• بالبكاء يُرفع البلاء: ففي قصة الثّلاثة الّذين خلّفوا يحدّثنا كعب بن مالكٍ رضي الله عنه: "فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ".
فعوض أن نبكي عاطفةً حتّى تجفّ محاجر العيون، أليس الأجدر بنا أن نجعلها لله تعالى، وفي محراب عبوديّتنا له؟! لا تدري لعلّ هذه القطرة الّتي تدنيك من رحاب الحقّ جل جلاله، لعلّ بهذه القطرة يغفر الله لك ويحرّم عينك عن النّار، لعلّ بهذه القطرة يكشف الله تعالى الكرب عنك، لعلّ بهذه القطرة يرقّ قلبك وتسخن عينك فتدخل على الله تعالى من أوسع أبواب القرب.
3- نبيّنا صلى الله عليه وسلم يبكي
ولو أنّ أحداً استغنى عن البكاء لقربه من الله تعالى ولاتّصاله بحبل الله لكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
لا بل هو سيّد الخاشعين لربّ العالمين، وإمام الخائفين من مالك يوم الدّين، وقدوة المشتاقين لرؤية وجه الله الكريم.
هو الّذي أُنزل عليه قول الله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].
بأبي وأمّي كم كان نديّ الجفن، سخيّ الدّمع، رقيق القلب، جيّاش العاطفة، كم ترك نشيجه أثراً في قلوب الأصحاب الأبرار الأطهار، حتّى زرعه في قلوبهم وحمله عنه الأكابر، ومنهم صدّيق الأمّة؛ الرّجل الأسيف الّذي لا يملك قلبه عند قراءة القرآن.
عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ) قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ؟ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: (إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي)، فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النّساء: 41] رَفَعْتُ رَأْسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ.
عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: "انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ".
يا الله! محمّدٌ رسول الله باكياً أمام النّاس، تسحُّ دموعه وتتساقط على وجنتيه الشّريفتين، يبكي من قلبٍ ملؤه الخوف من الله، ومن روحٍ عمرَها حبّ الله تعالى، ومن مشاعر متّقدةٍ شاقها الوله لرؤية وجه الله تعالى، حتّى تكاد دموعه تتكلّم.
سل نفسك يا عبد الله: متى كانت آخر مرّةٍ ردّدت فيها: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23]، فاشتقت لوجه الله ففاضت دموعك؟
متى آخر مرّةٍ غلبك الشّوق فبكيت شوقاً؟
متى كانت آخر مرّةٍ تذكّرت أنّ: (عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، فأسبلت دمعك لتنجو بعينيك؟
أرهِ دمعتك في الشّدائد، لكن وظّفها في العبوديّة له، حتّى يكشف كربك وينفّس همّك ويمنحك دموع الفرح بفرجٍ يثلج صدرك.
بكت أمّك عائشةٌ في محنتها، وأظهرت دمعتها في محراب عبوديّتها لله تعالى؛ فأكرمها بدموع الفرح في إظهار براءتها، وأظهر الثّلاثة الّذين خلّفوا دموعهم فأكرمهم بدموع الفرح، ولسان الحال:
هجم السرور عليّ حتّى أنّه من فرط ما قد سرّني أبكاني
يا عين قد صار البكا لكِ عادةً تبكين في فرحٍ وفي أحزانِ
http://shamkhotaba.org