مقدمة:
حديث النّاس اليوم في مشارق الأرض ومغاربها يدور حول داءٍ أقضّ مضاجعهم، وأرهب نفوسهم، وأصبح شغلهم الشّاغل في وسائل الإعلام، وفي المجالس والمنتديات.
إنّه وباءٌ اجتاح بلاد العالم اليوم، ولم تعرفه الأمّة من قبل، بل لم يعرفه العالم أجمع عبر تاريخه، ولم يكتشف له دواءً حتّى الآن ليقضي عليه ويزيل آثاره المدمّرة الفتّاكة، حيث إنّ هذا الوباء يقضي على كلّ من هاجمه أو لامسه، إنّه وباء: (الكورونا).
ولكن -ونحن نعايش هذا الدّاء ونتخوّف منه- علينا أن نعلم ونستيقن أنّ كلّ مخلوقٍ من المخلوقات له أجلٌ قد قُدّر فلا هو بالّذي يتقدّم عليه أو يتأخّر عنه، بل سيموت في حينه الّذي قدّره الله له، ولا يغني حذرٌ من قدرٍ، فهل من معتبرٍ؟!
وإنّنا سنتحدث عنه اليوم من منظورٍ إسلاميٍّ، فديننا العظيم لم يترك لنا شيئاً إلّا ذكر لنا فيه حُكماً وحِكماً، عَلِمه من عَلِمه، وجَهله من جَهله، قال سبحانه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].
1- الصّحةُ تاجٌ على رأسكَ فحافظْ عليهِ
الصّحّة من أجلّ نعم الله على عباده، وأوفر منحه، وأعظم عطاياه، ولقد أوضح هذا نبيّنا صلى الله عليه وسلم في الحديث: عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا).
فليس في الوجود شيءٌ أعزّ على الإنسان من الصّحّة والعافية، وخير دليلٍ على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيّته لعمّه العبّاس رضي الله عنه، عَنِ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ عز وجل، قَالَ: (سَلِ اللَّهَ العَافِيَةَ)، فَمَكَثْتُ أَيَّامًا ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ، فَقَالَ لِي: (يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللهِ، سَلِ اللَّهَ، العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ).
فحقيقٌ بمن رُزق حظّاً من التّوفيق مراعاتها وشكرها، والعمل على حفظها ووقايتها، وعدم الإقدام على أيّ سلوكٍ أو تصرّف يؤدّي إلى التّفريط فيها أو تبديلها، فبالشّكر تدوم النّعم وتزيد، فالشّكر حصنٌ للنّعمة الموجودة، وصيدٌ للنّعمة المفقودة، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكم} [إبراهيم: 7].
وقال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53].
فمن هاتين الآيتين يتبيّن أنّ عدم الشّكر، أو التّبديل والتّغيير؛ يؤدّي إلى زوال تلك النّعم الّتي أنعم الله بها على عباده، فتزول العافية ويحلّ مكانها المرض، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الرّوم: 41].
والمراد بالفساد في الأرض: النّقص في الزّروع والثّمار، والنّقص في الأنفس وكثرة الشّرور.
قال الشّيخ طاهر بن عاشور رحمه الله في تفسيره التّحرير والتّنوير: "وفساد البرّ يكون بفقدان منافعه وحدوث مضارّه، مثل: حبس الأقوات من الزّرع والثّمار والكلأ، وفي موتان الحيوان المنتفع به، وفي انتقال الوحوش الّتي تصاد من جرّاء قحط الأرض إلى أرضين أخرى، وفي حدوث الجوائح من جرادٍ وحشراتٍ وأمراضٍ".
وما هذه الأمراض المعدية الفتّاكة والأوبئة المستعصية المهلكة الّتي نسمعها هنا وهناك إلّا مظهرٌ من مظاهر هذا الفساد.
قال ابن القيّم رحمه الله بعد أن ذكر الآية: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الرّوم: 41]، قال: "ونَزّلْ هذه الآية على أحوال العالم، وطابقْ بين الواقع وبينها وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل كلّ وقتٍ في الثّمار والزّرع والحيوان، وكيف يحدث من تلك الآفات آفاتٌ أخر متلازمةٌ بعضها آخذٌ برقاب بعضٍ، وكلّما أحدث النّاس ظلماً وفجوراً أحدث لهم ربّهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وأهويتهم ومياههم وأبدانهم وخلقهم وصورهم وأشكالهم من النّقص والآفات ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم".
نعم: تتوالى على البشر في هذه الأزمنة المتأخّرة أمراضٌ وأوبئة ٌ-من حيث لم يكونوا يحتسبون- يخشون فتكها ويحاذرون ضرّها، عرف النّاس من الأوبئة الكوارثيّة: الإيدز، ثمّ جنون البقر، ثمّ انفلونزا الطّيور الّتي أثبت كثيرٌ من الباحثين أنّ سببها الخنازير الّتي احتوت المرض ثمّ نقلته الطّيور منها، ثم انفلونزا الخنازير، لتظهر في هذه الأيام فيروس (الكورونا) الخطير، أعاذنا الله تعالى والمسلمين من جميع الأمراض والأوبئة، فلقد دقّت منظّمة الصّحّة العالميّة ناقوس الخطر وأعلنت حالة الطّوارئ.
فيروسٌ دقيقٌ وكائنٌ عجيبٌ، وحالة تحوّلٍ وبائيٍّ، حيّر البشر، وأقلق الباحثين، فحدث من ذلك هلعٌ ورعبٌ في النّفوس، توقّفٌ للتّعليم والمسابقات، وإغلاقٌ للمدارس والمساجد والمعابر، وفحصٌ في المطارات، وتعطّلٌ لحركة وسفر حكّام العالم وزعمائه ولقاءاتهم، بل وحبسهم في البيوت، وتعطّلٌ لشركات الطّيران، بل وإغلاق الحدود مع الدّول، وحالة تأهّبٍ عاليةٍ لمواجهة هذا الوباء الّذي أرهب العالم المغرور بقوّته، المتغطرس بسياسته، المجرم بتعامله مع الضّعفاء والمساكين.
2- كثرةُ معاصينا سببٌ لانتشارِ الكورونا
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ).
لقد حذّر النّبيُّ صلى الله عليه وسلم الأمّة من خطر ارتكاب الفاحشة وإظهارها والتّمادي فيها، لأنّ ذلك ينتج عنه انتشار الطّاعون والأمراض المهلكة الّتي لم يسبق ظهورها في أسلافنا من الأمم، وقد ظهر تصديق ذلك اليوم بظهور هذا الوباء الخطير( كورونا) وغيره من الأمراض الفتّاكة، ولقد جاءت الشّريعة الإسلاميّة بمنهجٍ لا يحارب دواعي الفطرة ولا يستقذرها، وإنّما ينظّمها ويطهّرها ويرفعها عن المستوى الحيوانيّ، ويرقّيها إلى أرقى المشاعر الّتي تليق بإنسانٍ كإنسانٍ، ويقيم العلاقة بين الرّجل والمرأة على أساسٍ من المشاعر النّبيلة الرّاقية، قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرّوم: 21].
نعم: لقد انتشر هذا الوباء الخطير وغيره من الأوبئة عندما جرى إعلان الفاحشة في أندية الزّناة والعراة والشواطئ، والمجلّات والجرائد الجنسيّة والقنوات العارية، قنوات الفاحشة وشبكات التّواصل الاجتماعيّ فأعلن بها إعلاناً حقيقيّاً، وإنّ هذا الكلام ليرفضه المنافقون والمجرمون السّافلون وسيقولون: لا علاقة للمرض بذنوب ومعاصي العباد، وهذه الأمراض يمكن أن تكون معروفةً في البشريّة من قديم الزّمان، فنقول لهم: هذه تجارب أسيادكم من الكفّار قد أثبتت بأنّ هذه الأمراض جديدةٌ، وأنّ أوّل حالة ظهورٍ عالميّةٍ في بلديّ الصّين وإيران، ومن ثَمّ بدأ ينتشر في كثيرٍ من بلاد الكفر بل وحتّى في بلاد الإسلام انتشار النّار في الهشيم، فتبيّن لنا أنّ المسألة لها علاقةٌ بالشّرع، وظهور هذا الوباء ما كان إلّا بسبب الذّنوب والمعاصي، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشّورى: 30].
وإنّ هذه الأوبئة جندٌ من جنود الله تعالى يسلّطها علينا تخويفاً وتحذيراً لنا من مغبّة الإعراض عن الله تعالى حتّى نرجع إلى صراطه بعد طول شرودٍ، قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].
ألا ليت الأمّة أخذت دروساً وعبراً ممّا قصّه علينا ربّنا في كتابه، وضربه لنا مثلاً بتلك القرية الّتي تبدّل حالها من الأمن والاطمئنان وسعة الرّزق ورغد العيش، إلى الجوع والخوف لمّا كفرت بنعم الله تعالى، فقصّ القرآن خبرها علينا للإنذار والتّخويف وأخذ العبرة، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النّحل: 112].
وإنّ القرآن حينما يعرض بوضوحٍ وجلاءٍ مآل تلك القرية الظّالم أهلها، ويقرّر أنّ ما أصابهم كان بسبب ما اقترفته أيديهم من التّمرّد والجحود ونكران الجميل، حين يعرض القرآن ذلك كلّه، فهو إنّما يخاطب النّاس أجمعين إلى قيام السّاعة، ويحذّرهم من الوقوع في ذلك الخطأ الّذي وقعوا فيه، حتّى لا يؤول الأمر لما آل إليه أمر من سبقهم، فسنن الله مع الظّالمين لا تتبدّل ولا تتغيّر، قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62].
نعم: لقد سلّط الله علينا هذا الوباء الخطير، لأنّ ربّنا يغار ويغضب من عباده إذا عصوه، وتعدّوا حدوده، وما أكثر المخالفات والمنكرات الّتي اقترفها العباد من: كذبٍ وغيبةٍ ونميمةٍ، وسحرٍ وسرقةٍ، ورباً وفواحش، وعريٍّ وكبرٍ وخيلاء، وأكلٍ للحرام، وفعلٍ للمنهيّات وتركٍ للواجبات، فكانت النّتيجة أن جاءت نذر الله المخيفة، من ضياعٍ للبركة، وغلاءٍ في الأسعار، ونقصٍ في الثّمرات، وأوبئةٍ وأمراضٍ متنوّعةٍ فتّاكةٍ، وكلّها نذرٌ للغافلين، وتذكيرٌ للّاهين، ومقدّماتٌ لعقوباتٍ من ربّ العالمين يرسلها على العباد لعلّ القلوب تحيا وتؤوب، وتستغفر من الخطايا وتتوب.
3- توجيهاتٌ قيّمةٌ للتّعاملِ مَعَ الأوبئةِ
أوّلاً: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التّوبة: 51].
علينا أن نعلم أنّ هذا الوباء من قدر الله، مثله مثل بقيّة الأمراض الّتي ظهرت ولاتزال تنتشر، والّتي وُجد لها علاجٌ، والّتي لم يوجد لها علاجٌ، فليس في القضيّة شيءٌ جديدٌ من ناحية المبدأ، ولكنّ المسلم الّذي يعرف عقيدته يأخذ من الأسباب الشّرعيّة ما يواجه به القدر من القدر، قَالَ عُمَرٌ رضي الله عنه: "نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ".
فالمرض قدرٌ، والعلاج قدرٌ، وهكذا من قدر الله إلى قدر الله في قدر الله، ونحن تحت سلطانه ومشيئته وإرادته سبحانه وتعالى، عن أَبَي هُرَيْرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ).
ثانياً: التّداوي من المرض مطلوبٌ شرعاً: إذا كان المرض قدراً من الله تعالى يصيب به من يشاء من عباده من دون عدوى، أو بالعدوى من جرّاء المحيط أو طبيعة العمل أو إهمال شروط الوقاية، فالتّداوي قدرٌ مثله، فمن أصيب بمرضٍ كان عليه أن يسعى للتّداوي منه مستعيناً بالله تعالى، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: شَهِدْتُ الْأَعْرَابَ يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَعَلَيْنَا حَرَجٌ فِي كَذَا؟ أَعَلَيْنَا حَرَجٌ فِي كَذَا؟ فَقَالَ لَهُمْ: (عِبَادَ اللَّهِ، وَضَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ، إِلَّا مَنِ اقْتَرَضَ، مِنْ عِرْضِ أَخِيهِ شَيْئًا، فَذَاكَ الَّذِي حَرِجَ)، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلْ عَلَيْنَا جُنَاحٌ أَنْ لَا نَتَدَاوَى؟ قَالَ: (تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ، لَمْ يَضَعْ دَاءً، إِلَّا وَضَعَ مَعَهُ شِفَاءً، إِلَّا الْهَرَمَ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ قَالَ: (خُلُقٌ حَسَنٌ).
ثالثاً: الأخذ بالأسباب الوقائيّة من الأوبئة: إنّ الإسلام يعترف بالأسباب المادّيّة المعتادة للأمراض وفقاً لسنن الله الجارية في الخلق، فهو يقرّ العدوى بوصفها سبباً من أسباب نقل المرض، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ).
ففي هذا الحديث يرشدنا عليه الصّلاة والسّلام إلى البعد عمّا كان عليه أهل الجاهليّة من اعتقاد العدوى بنفسها دون أمر الله، ويوجّهنا إلى الأخذ بالأسباب والبعد عن كلّ مصابٍ بمرضٍ قد يكون القرب منه فيه مضرّةٌ وأذىً للصّحيح، وإنّ من روائع ما جاء به الإسلام وسبق به فكرة الحجر الصّحيّ في حالة انتشار الأمراض المعدية، أن يبقى الإنسان في الأرض الّتي أصابها الوباء، إذا كان موجوداً فيها قبل نزول الوباء، روى البخاري في صحيحه عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، يُحَدِّثُ سَعْدًا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا)، فَقُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ يُحَدِّثُ سَعْدًا، وَلاَ يُنْكِرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وبهذا التّوجيه فإنّ الإسلام قد حاصر الوباء في أضيق نطاقٍ، وحال بينه وبين الانتشار، فحتّى السّليم -بمقتضى هذا الحديث- لا يجوز له الخروج من البلد الموبوء خشية أن يكون حاملاً لمكروب المرض وهو لا يدري، بل عليه البقاء والأخذ بأسباب الوقاية من هذا الوباء، وذلك بأن يتخلّص من النّجاسة ويحافظ على الطّهارة من سواكٍ وغسلٍ ووضوءٍ يتكرّر كلّ يومٍ باستمرارٍ بما فيه من مبالغةٍ في المضمضة والاستنشاق، وتخليلٍ لأصابع اليدين والرّجلين، وغسل البراجم ونحو ذلك، وكلّ ذلك من أعظم أسباب الوقايةِ من الأمراض، والغاسلِ لهذه الجراثيم الضّارّة من على سطوح الجسد والبشرة، وعلينا أن نتّبع الهدي النّبوي الّذي أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال أحاديثه النّبويّة لمنع انتقال العدوى، فمنها: المحافظة على تغطية الإناء ووكاء السّقاء حتّى لا ينزل فيه الوباء.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: (غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ، لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ، أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ، إِلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ).
ومن التّوجيهات النّبويّة: تغطية الرّأس أثناء العطاس باليد أو بالثّوب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا عَطَسَ غَطَّى وَجْهَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِثَوْبِهِ وَغَضَّ بِهَا صَوْتَهُ.
رابعاً: الدّعاء سببٌ لرفع الوباء: الدّعاء يرفع القضاء، فكم من بليّةٍ ارتفعت بالدّعاء! وكم من نعمةٍ جلبها الدّعاء!
عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِخَطِيئَةٍ يَعْمَلُهَا).
ولعل من أهمّ الأدعية الّتي يدعو بها العبد ربّه ليدفع عنه الوباء والأسقام ما جاء في الحديث: عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ البَرَصِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَمِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ).
وما أجمل أن يحصّن المسلم نفسه بالأذكار الّتي أوصانا بها رسول الله وحثّنا على المواظبة عليها، والّتي هي سببٌ لحفظنا من كلّ بلاءٍ، فعن أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ يَعْنِي ابْنَ عَفَّانَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ، فِي الْأَرْضِ، وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ، حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ)، وَقَالَ: فَأَصَابَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ، الْفَالِجُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ؟ فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ عَلَى عُثْمَانَ وَلَا كَذَبَ عُثْمَانُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي أَصَابَنِي فِيهِ مَا أَصَابَنِي غَضِبْتُ فَنَسِيتُ أَنْ أَقُولَهَا.
ولقد أوصانا بدعاءٍ عظيمٍ ندفع به البلاء، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ البَلاَءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ).
4- الكورونا بليّةٌ ونعمةٌ
صحيحٌ أنّ هذا الوباء الّذي انتشر اليوم هو جندٌ من جنود الله تعالى سلّطه على النّاس تخويفاً وتحذيراً وإنذاراً، ولكنّه في الوقت نفسه فيه من الخير الشّيءُ الكثيرُ، حيث إنّه أحيا في العباد أوامر جليلةً أوجبها الله عليهم أو ندبهم إلى فعلها وكانوا قد غفلوا عنها، فجاء هذا المرض ليوقظها في قلوبهم، ولعلّ من أهمّها: تحقيق التّوكل على الله تعالى، هذه العبادة الّتي جاءت النّصوص بأهمّيتها ونوّهت بفضلها وعلّو شأنها، وجعلها من أخصّ صفات المؤمنين فقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122].
في مثل هذه الأحداث يجب على المسلم أن يحصّن نفسه وأهله بالأذكار الصّباحيّة والمسائيّة، وأن يتفقّد أسرته وأولاده، لإقامة برنامجٍ إيمانيٍّ مستثمراً عطلة الأولاد، فيستثمرها بدروسٍ منزليّةٍ حول العبادات وقراءة القرآن ومدارسة الكتب، ويقوى يقينهم بوحدانيّة الله، وتفرّده في ملكه، فالكون كلّه تحت أمره وسيره بإرادته فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، قال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 107].
وانظر إلى عجز البشر أمام عظيم قدرة الله تعالى وجلالة سلطانه، فكم تطالعنا التّقارير بعدد المرضى المصابين بهذا الدّاء كلّ يوم وارتفاع الإصابات وزيادة الأعداد، ومع ما وصلوا إليه من العلم والتّقدّم في مجال الطّبّ فإنّ قدرتهم وقفت عند حدٍّ معيّنٍ لا يستطيعون تجاوزه، أو ردّ أيّ قضاءٍ يقضيه الله تعالى، ولكم أن تتأمّلوا قوله سبحانه: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 17].
ثمّ إنّ بعض النّاس يفرّ من هذا المرض وهو يظنّ أنّ هذا الدّاء هو الّذي سيميته، مع أنّ الحقيقة تقول: ليس للموت سببٌ إلّا انتهاء الأجل:
فكم من صحيحٍ مات من غير علّةٍ وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدّهر
فعلى كّل إنسان أن يستعدّ للموت في كلّ لحظةٍ، لأنّه سيأتي بشكلٍ أو بآخر، ولن يفرّ منه أحدٌ، وبعد الموت قبرٌ، ثم حشرٌ وحسابٌ وجزاءٌ، قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8].
يربّينا هذا الداء على قصر الأمل، فلا يجعلك تتأمّل أن تعيش شهراً أو أسبوعاً أو يوماً، بل حتّى ساعةً من ليلٍ أو نهارٍ، فكم هلكت أقوامٌ أطالوا الآمال، وجمعوا الأموال؟! فما أغنت عنهم أموالهم الّتي جمعوها، بل خلّفوها لورثتهم من بعدهم وبقي حسابها عليهم، قال سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94].
فهل تأمّلتم كم هي النّعم الباطنة الّتي ينطوي عليها هذا المرض الّذي انتشر في أصقاع الأرض اليوم؟ وكلّ هذه النّعم تستوجب الشّكر لله عز وجل.
لقد جاء هذا الوباء: (كورونا) ليحيي ضمير الأمّة ويوقظها من غفلتها، ويريها ضعفها وعجزها وصغر حجمها، حيث عجزت عن رؤية جرثومةٍ هدّدت الكون كلّه وشلّت حركته.
جاء ليذكّرنا بربّنا الّذي غفلنا عنه وتمادينا في عصيانه بنعمه الّتي أنعم بها علينا؛ من صحّةٍ وقوّةٍ وعافيةٍ، فأراد أن ينبّهنا إلى أنّ هذه العافية قد تتبدّل إلى بلاءٍ عندما يكفرون بنعم الله وآلائه.
ألا فلنعلم مدى فقرنا واحتياجنا لله تعالى، ولنلجأ إليه مستغيثين به بأن يكشف عنا ما حلّ بنا، فلا كاشف للكرب إلّا هو سبحانه، قال عزّ من قائلٍ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17].
ولنكثر من الاستغفار بذلٍّ وانكسارٍ بين يدي الجبّار ولنتب إلى الله توبةً نصوحاً، فإنّ التّائبين المستغفرين في أمانٍ من العذاب حين نزوله، قال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
ولنعلم أخيراً: أنّه ما نزل بلاءٌ إلّا بذنبٌ وما رفع إلّا بتوبةٍ.
http://shamkhotaba.org