مساجد الرّحمن.. رياضٌ وأمان
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الجمعة 29 مايو 2020 م
عدد الزيارات : 1451
مقدمة:
لا خطبة ولا صلاة جمعةٍ، بل: "صلّوا في رحالكم"، كلمةٌ صدحت بها مآذن الجوامع في أوّل جمعةٍ في العالم الإسلاميّ، لتكمّل مشهداً من الحزن والألم، ممزوجاً بالقلق والخوف والحذر من انتشار فيروس كورونا المستجدّ.
1- عودتنا إلى مصلّانا نعمةٌ من خالقنا ومولانا
لم يكن الأمر سهلاً لدى العقل الجمعيّ الإسلاميّ في العالم، فمن تلك القوّة الّتي يمكن أن تحرم مسلماً من دخول بيت من بيوت الله؟! هذه المساجد التي هي مأوى الطّمأنينة والسّكينة والقرب إلى الله عز وجل، ولكن قبل عدّة أشهرٍ يصدر الأمر من وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينية بإغلاق المساجد وعدم السّماح للمصلّين بارتيادها والمكث فيها، لأنّ سلامة المسلمين وصحّتهم بفتاوى شرعيّةٍ معتمدةٍ كانت السّبيل للوعي والإرشاد والصّبر على المصاب، وإنّه لأمرٌ ثقيلٌ وصادمٌ ومؤلمٌ على صدور النّاس التي علّقت قلوبها بذكر الله أن تحرم منها، ولكن لقد واسى هؤلاء أنفسهم بأنّ رحمة الله أوسع من كلّ شيءٍ، حيث جعل الله تعالى لعباده مزيداً من العبادات والطّاعات والسّنن ليقوموا بها في منازلهم فلا يحرموا أنفسهم من أعمال الخير والبرّ التي تقرّبهم إلى ربّهم عز وجل، وهنا بدأ النّاس يشعرون بقيمة نعمة المساجد التي كانت في أيّام الرّخاء، عندما اعتادوا أن يصلّوا ركيعاتٍ في المسجد وينصرفوا بسرعةٍ بلا أذكار ولا سننٍ راتبةٍ.
نعمةٌ تحسّر عليها أولئك الذين لم يتذوّقوا لذّة الصّلاة في المسجد، ولكن من عظيم كرم الله ورحمته ولطفه بعباده أنّه لم يأذن لهذه الحسرة أن يطول أمدها، ولا أن تخيّم طويلًا على قلوب العباد، فإذ به سبحانه يأذن اليوم بإعادة المصلّين إلى مساجدهم ليعمروها بذكر الله تعالى، فحقّ لهم أن يفرحوا بفضل الله وبرحمته قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
ووجب عليهم أن يشكروا ربّهم سبحانه على نعمة الصّحة والعافية من هذا الوباء الذي اجتاح العالم كلّه، وإنّ نعمة العافية لأعظم نعمةٍ دنيويةٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: قَامَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَامٍ، فَقَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه مَقَامِي عَامَ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: (سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطَ عَبْدٌ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنَ الْعَافِيَةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ وَالْبِرِّ فَإِنَّهُمَا فِي الْجَنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ وَالْفُجُورَ فَإِنَّهُمَا فِي النَّارِ). مستد الإمام أحمد: 46
وإن بقاء النّعمة مقرونٌ بالشّكر، فإن لم تشكر زالت، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
وإنّ المعاصي تدفع حلول نعمةٍ نازلةٍ، أو ترفع نعمةً حادثةً، وقد لا ترفعها ولكن تنزع البركة منها، أو تكون عذاباً لصاحبها، وإذا رأيت نعمةً سابغةً عليك وأنت تعصيه فاحذره فقد يكون استدراجاً لك، قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182].
2- بيوت الرحمن رياض الجنان
"إذا كان العرف الدولي على أن بيوت سفراء الدول الأجنبية قِطَع من بلادهم ولو كانت في بلاد الناس؛ فإن بيوت الله رياض من رياض الجنة، وإن كانت في هذه الدنيا، فمن دخلها كان ضيف الله، وكان جاره، فهي أبواب السماء المفتَّحة دائماً، إن سُدَّت في وجه البائسين اليائسين أبواب الأرض، وهي منار الهدى إن ضلّ بالسالكين الطريق، وإن كان في الدنيا الخير والشر؛ فها هنا الخير الذي لا شرّ معه، وإن كان فيها الحق والباطل؛ فها هنا الحق الذي لا باطل فيه، ومن هنا تخرج الكلمة من حلوق المؤذنين، وأفواه الخطباء والمدرسين، فتمشي في الفضاء، من فوق رؤوس الملوك والكبراء، والأغنياء والفقراء، كلٌّ يخضع لها ويصغي إليها؛ لأنها كلمة الخالق وإن جاءت على ألسنة ناس من المخلوقين، هذه قِلاع الإيمان في وجه الإلحاد، هذه حصون الفضيلة أمام الرذائل والشهوات". من كتاب الجامع الأموي للشيخ علي الطنطاوي، ص٧
حب المؤمن للمساجد لا على أنه حجارة مزخرفة، أو بسط ونمارق فاخرة، بل حبهم لنسبة المساجد لله تعالى نسبة تشريف وتكريم {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجنّ: 18].
وشوق المؤمن للصلاة فيها والعكوف برحابها الطاهرة من شوقه لله تعالى، وقد أثبت لنا سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنه الشوق لله: عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، قَالَ: صَلَّى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ بِالْقَوْمِ صَلَاةً أَخَفَّهَا، فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوهَا، فَقَالَ: أَلَمْ أُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَمَا إِنِّي دَعَوْتُ فِيهَا بِدُعَاءٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِ: (اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بِالْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَفِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ). سنن النّسائيّ: 1306
وهذا الشوق يتدرج حتى يصبح تعلقاً كما وصف الحبيب صلى الله عليه وسلم الصنف الذي يستظل بعرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: ... وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ...). صحيح البخاريّ: 20322
ولو أبعدته ظروف الوباء عنها فترة من الزمن، المهم أن القلب معلّق بها...
الحمد لله أن الحبيب لم يقل: (ورجل معتكف في المساجد)؛ فالعبرة بتعلُّق القلب ولو ضمن تعليق الشعائر.
3- نصائح علميّة للسّلامة الصّحّيّة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6].
لقد من الله علينا بالإسلام الذي يفرض علينا أن نغسل وجوهنا وأيدينا يومياً من خلال الوضوء، ويفرض علينا الطهارة، وهذا كله إن أحسنا تطبيقه يمكن أن يساعدنا بالوقاية من وباء فيروس كورونا الذي أصاب كل دول العالم.
لقد من علينا الله بأن المرض لم ينتشر في المناطق المحررة ولكن هذا لا يعفينا من واجباتنا في الوقاية منه بحسب ما يشير به المختصون، والحمد لله فقد سمح المختصون في علوم الطب والأوبئة بالصلاة في المساجد، ولكن وفقاً للضوابط التي تقي من العدوى.
وإن كثيراً من هذه التوصيات التي يوصي بها علماء الطب والأوبئة اليوم قد أوصى بها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، كما ورد أنّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ). صحيح البخاريّ: 5707
وهذا يشابه التوصيات العلمية المعاصرة على ضرورة عزل المرضى وعدم مخالطتهم، وعدم الاستهتار بموضوع العدوى، ورعاية المرضى بعد ارتداء المعدات الكافية في المشافي المختصة من قبل المختصين.
كما أن هناك أحاديث أخرى حثتنا على التباعد الاجتماعي وعلى عزل المرضى، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه، أَنَّهَا أَخْبَرَتْنَا: أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ). صحيح البخاريّ: 5734
كما أنكم سمعتم توصيات العلماء والأطباء بعدم الخروج من المنزل إلا للضرورة، وعدم السفر من وإلى مناطق الوباء، وفي هذا وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا، فِرَارًا مِنْهُ). صحيح البخاريّ: 3473
وفي الحديث أنّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ). صحيح البخاريّ: 5771
ومن هنا تتضح أهمية توصية علماء الطب اليوم بالحفاظ على المسافة الاجتماعية التي نتقيد بها في المسجد اليوم، والابتعاد عن أي ملامسة أو مصافحة، ففيروس كورونا ينتقل من خلال المصافحة أو المسبحة المشتركة وغيرها.
أما ما نقوم به بهذه الأيام للوقاية من كورونا من خلال تعقيم أيدي جميع المصلين وتعقيم المساجد باستمرار؛ فالأمر بالطهارة والنظافة لا حصر لأدلته من توصيات رسولنا الكريم وديننا الحنيف، وأكد عليها كل علماء وأطباء عصرنا هذا لمقاومة وباء كورونا، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ). صحيح مسلم: 278
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا عَطَسَ غَطَّى وَجْهَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِثَوْبِهِ وَغَضَّ بِهَا صَوْتَهُ". سنن التّرمذيّ: 2745
وفي عصرنا هذا من الله علينا بالكمامات فعلينا الالتزام التام بارتداء الكمامات في الصلوات الفردية والجماعية.
وهذه المسافة التي نحافظ عليها في المسجد توضح الأماكن المسموح الصلاة بها على أن تفصل بين كل المصلين مسافة متر على الأقل في جميع الاتجاهات.
إن من واجبنا كمسلمين أن نتقيد بهذه التوصيات، وأن ننشر التوعية بخصوصها كل إلى رعيته، أسرته ومن يعمل لديه وأصحابه وكل من حوله، فقد أجمع علماء الأوبئة والأطباء وعلماء ديننا الحنيف في هذه الأيام على أن دورنا مكمل لدور الأطباء في نشر التوعية الصحية، وعبر تاريخنا فإن علماء المسلمين في الشدائد والنوازل كانوا يتخذون الموقف الذي توصي به العلوم المعاصرة لزمنهم بحيث يحمون الناس من العدوى.
إن فيروس كورونا ينتقل في الأماكن المغلقة أو لدى وجود ضغط إيجابي عالٍ ولدى عدم وجود تيار هواء، لذلك تعطى الأولوية للصلاة في باحات المساجد والأماكن المفتوحة في الصلوات الخمس.
كما أكد علماء الأوبئة والأطباء على ضرورة الصلاة في المنزل لكل الذين يفرض عليهم البقاء في المنزل وأصحاب الأمراض المزمنة.
وأخيرا فلا بد من الحرص على إحضار سجادات الصلاة الخاصة من المنازل لكي لا تنتقل العدوى بالفيروس بسبب وضع المصلين لوجوههم على بقعة واحدة من سجاد المسجد أثناء السجود أو ملامسة السجاد في موضع يكون قد لامسه مريض أو مصاب بالمرض.
 

http://shamkhotaba.org