وباءٌ وغلاء يحتاج إلى توبةٍ والتجاء
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 17 يونيو 2020 م
عدد الزيارات : 3985
مقدمة:
حديثنا اليوم عمّا يتحدّث به النّاس في اجتماعاتهم وأنديتهم، وفي سهراتهم وجلساتهم، فما اجتمع اثنان في هذا الوقت، إلّا وكاد أن يكون حديثهما عن هذا الأمر الّذي أقضّ مضجع الغنيّ والفقير في هذه الآونة الأخيرة، عن ألمٍ يتضاعف كلّ يومٍ على الفقراء، بل كلّ ساعةٍ، بل كلّ دقيقةٍ، عن الوحش الرّهيب الّذي اجتاح بلادنا، وكشّر عن أنيابه لا فتراس الفقراء، بل وألحق بهم الطّبقة الوسطى من المجتمع، تلكم المصيبة هي: غلاء الأسعار، الأمر الّذي  جعل كثيراً من الفقراء الصّالحين يئنّون تحت وطأته، ولسان حالهم ومقالهم يقول: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286].
فكيف الحال بالفقراء ضعفاء الدّين والإيمان، الّذين صاروا يصرخون ويبكون ويجزعون؟! والكلّ يتساءل عن السّبب في هذا الغلاء، ويحلّل هذه الظّاهرة كما يروق له، وحقّاً إنّه لسؤالٌ تفاوتت فيه إجابات النّاس، وتباينت فيه آراؤهم ونظراتهم، فمنهم من أرجع ذلك لأسبابٍ سياسيّةٍ، ومنهم من أرجع ذلك لأسبابٍ اقتصاديّةٍ، ومنهم من أرجعه لأسبابٍ اجتماعيّةٍ وأخلاقيّةٍ، وفي الحقيقة كلّ هذه الأسباب لا تتعارض، وكلّها تصلح أن تكون أسباباً مجتمعةً لهذه الأزمة الصّعبة، ولكن هناك أسبابٌ باطنةٌ لهذا الأمر، سنتعرّف عليها وسنتلمّس العلاج المناسب والدّواء النّاجع لها إن شاء الله تعالى.
1- غلاء الأسعار امتحانٌ وتربيةٌ
جعل الله تعالى الدّنيا دار بلاءٍ وامتحانٍ، وجعل دوام الحال من المحال، وإنّ الابتلاءات لتزداد مع زيادة الإيمان، وتشتدّ عندما يكون في النّاس صلاحٌ واستقامةٌ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: (الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ). مسند الإمام أحمد: 1481
وإنّ البلاء علامة محبّة الله لعبده، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا أَحَبَّ اللهُ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ، فَلَهُ الصَّبْرُ، وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ). مسند الإمام أحمد: 23641
ويدلّ لذلك شظف العيش الّذي عاشه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعاشه أصحابه، سواءٌ أكانت في الفترة المكيّة أو في مقدّمة الفترة المدنيّة، حيث تعرّضوا لأزماتٍ ومحنٍ لا توصف، ولكن قد تحمل صورةً من صور العقاب العاجل الّذي قد يعجّله الله تعالى لبعض عباده، وهو من إرادة الله الخير بعبده المؤمن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ). مسند الإمام أحمد: 7235
وأمّا الكافر فهي له عقابٌ قبل العقاب الأخرويّ، ولذلك كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو على المشركين بغلاء الأسعار وقحط الأمطار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: رَكَعَ رَسُولُ اللهِ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: (اللهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ اللهُ أَكْبَرُ) ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا. مسند الإمام أحمد: 10521
وإنّ من جملة هذه الابتلاءات الّتي أصابتنا في هذه الآونة الأخيرة ظاهرة غلاء الأسعار، وإنّها ظاهرةٌ عالميّةٌ لا تختصّ بالمسلمين وحدهم، بل إنّ الأسعار حينما ترتفع يشكو منها النّاس جميعاً، وإنّنا اليوم في ظلّ بُعدِ النّاس عن دينهم وأوامر ربّهم سبحانه، يتبيّن لنا أنّها نوعٌ من العقاب الّذي سلّطه الله علينا، ولا غرابة في هذا الغلاء، وإلّا فكيف يستغرب الغلاء والغنيّ يسرف ويبذّر؟! والفقير لا يجد ما يقتات به، قال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27].
كيف يُستغرب الغلاء وأصناف الأطعمة والمشروبات في أفراحنا ومناسباتنا فوق الحاجة ثم يكون مصيرها إلى النّفايات والمزابل؟! أم كيف يُستغرب الغلاء وقد كثر الرّبا والمعاملات المحرّمة، بل قد ضُيّعت الصّلاة، وتُركت الزّكاة، وشُربت الخمور، وقُطّعت الأرحام، وانتشرت الموسيقا والمعازف، وتُرك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وغير ذلك من المعاصي والكبائر.
 نعم: لقد ارتفعت الأسعار جميعها، أسعار المواد الغذائيّة وغير الغذائيّة، ووصل جنون الأسعار إلى حليب الأطفال ودواء المرضى، أمّا أسعار المساكن واستئجارها فقد وصلت إلى أرقامٍ فلكيّةٍ يصعب تصديقها، ويعجز القادر عن مجاراتها، تضرّر الفقراء والمحتاجون من ظاهرة الغلاء المبالغ فيها، بل تأثّر النّاس جميعاً بذلك، فقد كان الفقراء في الماضي هم الطّبقة الأكثر تذمّراً من غلاء الأسعار، لأنّهم لم يمتلكوا ما يمكّنهم من خلاله مسايرة صعوبات الحياة، أمّا اليوم وفي ظلّ هذا الغلاء الفاحش والارتفاع اليوميّ للأسعار، والتّنافس بين تجّار الأزمات لاحتكار السّلع بكافّة أنواعها، وتحولّها لصراعٍ اجتماعيٍّ اقتصاديٍّ ضحيّتها المواطن العاديّ، غدا كثيرٌ من النّاس لا يستطيعون الحصول على الأشياء الضّروريّة إلا بمشقّةٍ بالغةٍ ، فما أسباب ارتفاع الأسعار؟ وما موقف المسلم حيال ذلك؟
2- أسباب انتشار الغلاء
غلاء الأسعار له أسبابٌ كثيرةٌ ومتعدّدةٌ، ومن أهمّها:
أوّلاً: كثرة الذّنوب والمعاصي: وهذا من أشدّ الأسباب الّتي أظهرت هذا الوباء العظيم والغلاء الفاحش، ومعلومٌ أنّ الذّنوب سبب هلاك الحرث والنّسل، وسببُ انتشار الفساد في البرّ والبحر، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الرّوم: 41].
قال الإمام القرطبيّ: "وَيَكُونُ الْمَعْنَى: ظَهَرَتِ الْمَعَاصِي فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَحَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْغَيْثَ وَأَغْلَى سِعْرَهُمْ لِيُذِيقَهُمْ عِقَابَ بَعْضِ الَّذِي عَمِلُوا". تفسير القرطبيّ، ج14، ص41
فالله تعالى يبتلي عباده ببعض ما كسبت أيديهم لكي ينتبهوا ويراجعوا أنفسهم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ). سنن ابن ماجه: 4019
فهل نظر النّاس إلى هذا الحديث العظيم الّذي أوضح فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم أثر هذه الذّنوب العظيمة الّتي تعود على أمّة الإسلام جميعها بما لا يُحمد عقباه. 
قال العلّامة السّعديّ عند قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}: "يخبر تعالى، أنّه ما أصاب العباد من مصيبةٍ في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وفيما يحبّون ويكون عزيزاً عليهم، إلّا بسبب ما قدّمته أيديهم من السّيّئات، وأنّ ما يعفو الله عنه أكثر، فإنّ الله لا يظلم العباد، ولكن أنفسهم يظلمون". تفسير السّعديّ، ص759
ثانياً: حبّ الدّنيا والتّنافس على تحصيلها: إنّ حبّ المال والحرص على كسبه بأيّ طريقٍ –حتّى ولو كان من حرام- أمرٌ مشاهدٌ للجميع، وخاصّةً مع انتشار المعاملات الرّبويّة، واختلاط الحلال بالحرام: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20].
وعندما يطغى على النّاس ذلك، يصبح الأمر خطيراً جدّاً، حيث يتسبّب في أمورٍ كثيرةٍ مخالفةٍ للشّريعة، وهذا ما خشيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم على أمّته من بعده، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْفَقْرَ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمُ التَّكَاثُرَ، وَمَا أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْخَطَأَ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْعَمْدَ). مسند الإمام أحمد: 8074
ثالثاً: جشع بعض التّجّار واحتكارهم السّلع: ففي كثيرٍ من الأحيان يمسك التّجّار السّلعة فيقومون بتخزينها وإخفائها فتقلّ في سوق النّاس من أجل رفع ثمنها لتحصيل أكبر مكسبٍ منها، وهذا العمل فيه إضرارٌ بالنّاس وخاصّةً الفقراء وأصحاب الحاجات، وهو أيضاً منهيٌّ عنه شرعاً، لأنّه من الظّلم الواضح البيّن الّذي أمر الله بالبعد عنه، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ نَضْلَةَ الْقُرَشِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطئٌ). مسند الإمام أحمد: 15758
فالتّجّار إمّا أن يكونوا معول هدمٍ يزيد من معاناة الفقراء والمحتاجين، وإمّا أن يكونوا أداة بناءٍ يسهمون في تخفيف الضّرّاء عن المتضرّرين، ولذلك جاءت الأحاديث مبيّنةً علّو منزلة التّاجر الصّدوق الأمين، وتتوعّد أهل الجشع والغشّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ). سنن التّرمذيّ: 1209
فمراعاة أحوال المسلمين وترك استغلالهم، لا يفعله إلّا ذوو القلوب الرّحيمة الّتي امتلأت عدلاً وصدقاً وتقوىً وإحساناً.
رابعاً: انعدام الأمن وعدم استقراره: وهذا شيءٌ معلومٌ شرعاً ومشاهدٌ حسّاً، فالأمن والاستقرار سببٌ لسعة الرّزق، فإذا انعدم الأمن قلّت الأرزاق وظهر الغلاء، لأنّ الأمن وسعة الرّزق متلازمان وجوداً وعدماً، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النّحل: 112].
وقال ممتنّاً على أهل الحرم: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57].
3- واجبنا حيال هذه المحنة
إنّ ما يجب على المسلمين عند وقوع مثل هذه المحنة أموراً متعدّدةً، ولعلّ من أهمّها:
أوّلاً: الرّجوع إلى الله تعالى بالتّوبة الصّادقة والاستغفار: قال ابن القيّم رحمه الله: "وَمِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ: أَنَّهَا تُزِيلُ النِّعَمَ، وَتُحِلُّ النِّقَمَ، فَمَا زَالَتْ عَنِ الْعَبْدِ نِعْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا حَلَّتْ بِهِ نِقْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: مَا نَزَلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ". الدّاء والدّواء، ص74
ثانياً: كثرة الدّعاء والصّدق في التّضرّع إلى الله: لا شيء أكرم على الله من الدّعاء، ولا شيء أنفع للعبد منه، فما استُجلبت النّعم، ولا استُدفعت النّقم بمثل الدّعاء، به تُفرج الهموم وتزول الغموم، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ، بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ). المعجم الكبير للطّبرانيّ: 1442
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ مُكَاتَبَتِي فَأَعِنِّي، قَالَ: أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ، قَالَ: قُلْ: (اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلاَلِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ). سنن التّرمذيّ: 3563
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ: (لَا إِلَهَ إِلا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلا اللهُ أَنْتَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ). مسند الإمام أحمد: 2344
ثالثاً: الصّبر الجميل الّذي لا تسخّطَ معه على أقدار الله تعالى: فالغلاء ابتلاءٌ، والمؤمن يقابل البلاء بالصّبر الجميل، لأنّه يعلم أنّ الله تعالى مع الصّابرين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
فأعظم ثمرات الصّبر نيل معيّة الله تعالى، ومن كان الله معه فلن يضرّه ما نزل به من بلاءٍ كغلاءٍ وغيره، وقد مدح الله الصّابرين على شظف العيش وضيق الحال، فقال: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
فعلى المؤمن أن يصبر وأن يحسن الظّنّ بربّه عز وجل، وأن ينزل حاجته بباب مولاه ولا ينزلها بباب العباد، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ يَسُدَّ فَاقَتَهُ، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ أَوْشَكَ اللَّهُ لَهُ بِالْغِنَى إِمَّا بِمَوْتٍ آجِلٍ أَوْ غِنًى عَاجِلٍ). المستدرك على الصّحيحين للحاكم: 1482
فمن أحسن الظّنّ بربّه أعطاه خيراً ممّا تمنّاه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ عز وجل، يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي). مسند الإمام أحمد: 9749
رابعاً: الوقوف بجانب المحتاجين وإعانة المساكين: من أعظم أسباب رفع الغلاء ودفع البلاء، الوقوف بجانب المحتاجين وإعانتهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ). مسند الإمام أحمد: 7427
وإنّ الله تعالى يحبّ التّعاون والتّكافل بين المسلمين في كلّ وقتٍ، لا سيّما في ظلّ غلاء الأسعار، فهي فرصةٌ لرحمة اليتامى والأرامل، والفقراء والمحتاجين، فالغنيّ في دين الإسلام يحمل الفقير، والقويّ يحمل الضّعيف ويخفّف معاناته وآلامه، والصّدقة يعظم ثوابها في أوقات الحاجات كما يعظم ثوابها في الأزمنة الفاضلة والأمكنة الفاضلة، ألا فليرحمِ التّجّارُ الفقراءَ والمعوزين، وليجعلوا غلاء الأسعار فرصةً للإحسان إلى النّاس، والتّجارة الرّابحة مع الله تعالى، ولسوف يجدون بركة ذلك في أموالهم وأحوالهم، وما أعظم خلق الإيثار عندما يتحلّى به المؤمن فيؤثر غيره على نفسه، فلقد أثنى النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الأشعريّين حينما كانوا يقتسمون الطّعام بينهم بالسّويّة، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ). صحيح البخاريّ: 2486
فحريٌّ بنا أن نقتدي بهم في ظلّ هذه الظروف القاسية الّتي تمرّ بنا، وأن نقف بجانب بعضنا البعض، فنتراحم فيما بيننا، ويعود من له فضلٌ على من لا فضل له من مالٍ وغيره، فمن رَحمَ رُحِمَ، ومن لم يَرحم لا يُرحم، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ). صحيح البخاريّ: 2486
وإنّ أكبر عونٍ لك على الإنفاق والصّدقة ممّا منَّ الله عليك به، أن تتذكّر أنّ ما تتصدّق به هو زادك إلى الدّار الآخرة، والمال الّذي يبقى معك في دنياك زائلٌ وفانٍ.
عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْرَأُ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}، قَالَ: (يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ). مسند الإمام أحمد: 16327
قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8-9].
وختاماً: فلنصبرْ على ما ابتلانا به ربّنا عز وجل، فالصّبر مفتاح الفرج، ولا يأتي الفرج إلّا بعد اشتداد الكرب.
ضاقت فلمّا استحكمت حلقاتها     فُرجت وكنت أظنّها لا تفرج
ولنرضَ بما قسم الله لنا من أرزاقنا، لأنّه ما ضيّق علينا إلّا لحكمةٍ عظيمةٍ يعلمها سبحانه وتعالى، فقد يوسّع على عبده آناً، وقد يقدرُ عليه آناً آخر، وفي كلا الحالين تربيةٌ من الله تعالى لعبده، فلنكن متراحمين ومتعاطفين ومتعاونين، نتفقّد جيراننا، ونرحم بعضنا، ولا يكن همّنا أنفسنا وبطوننا، نشبع وننسى الجائعين، فليس هذا من الإيمان في شيءٍ، فقد روى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ). المعجم الكبير للطّبرانيّ: 751
 

http://shamkhotaba.org