مقدمة:
أكرِمْ بدينٍ كاملٍ تامٍّ شاملٍ لكلّ نواحي الحياة، مراعٍ كلَّ متطلّبات الرّوح والجسد، وكلّ احتياجات العقل والقلب، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].
أنعم بدينٍ عدَّ الابتسامة النابعة من القلب صدقةً من الصّدقات.
أعظمْ بدينٍ رسم لنا الطّريق كاملاً برفقته، وحدوده، وضوابطه، وأسلوب السّير فيه، وحتّى الاستراحات على الطّريق، فلا بدَّ من ترويحةٍ للرّوح؛ فالطّريق طويلٌ.
من هنا كان الحديثُ عن هذه الاستراحة مُلحَّاً، وبيان التّوجيه النّبويّ فيها ضروريَّاً، وتوضيح المسار من خلال التّوازن بين الغالي والجافي مُهمَّاً.
1- ليعلم يهود أنّ في ديننا فسحةً
مع حاجَة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى كلِّ نفَسٍ لِتوظيفِه في الدَّعوة إلى الله تعالى وفي الجهاد في سبيله، ومع إِلحاحِ الواقع على عدَم التَّفريطِ بأيِّ لحظةٍ من اللَّحظات، إلَّا أنَّنا نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن خلال أَعينِ الصَّحابة الأجلَّاء أنَّه يمزحُ ويمازحُ، ويجلسُ ويسابقُ، ويعطي كُلَّ ذِي حقٍّ حقَّه.
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قسْطاً من الرَّاحة له ولآل بيته ولِأصحابه، عن عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ –يعني يَومَ أنْ لَعبَ الحَبَشةُ في المسجِد-: (لَتَعْلَمُ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ).
ما أَجملَهُ من شُعورٍ شَعَرَ بِه ذلك البدويُّ الَّذي جاء من البادية وهو منهمك في البيع والشِّراء وإذا بسيدِ الخلقِ وحبيبِ الحقِّ يمازِحَهُ مُظهِراً سماحَة الإِسلامِ ورحابَةِ صدْرِ رسولِ الأَنامِ وإليكُمْ القِصَّة كما وردَتْ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا، وَكَانَ يُهْدِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْهَدِيَّةَ مِنَ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا، وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ)، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَلَا يُبْصِرُهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا، فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذًا وَاللهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَكِنْ عِنْدَ اللهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ) أَوْ قَالَ: (لَكِنْ عِنْدَ اللهِ أَنْتَ غَالٍ).
على أنّ كلَّ هذِه الفُسحَةِ والسَّعَةِ الدَّينيّة لا تتجاوز حدود الشَّريعة الغَرَّاء، فهي ضِمن دائِرة الصِّدق، وجبرِ الخواطِر، والشّعورِ بالمودّةِ والمَحبَّة فإذا تجاوزْت ذلك فهي ليسَت بِفسحَةٍ دينيَّة ولا استراحةٍ على الطّريق، لكنَّها خروجٌ عن الجادَّة وشرودٌ عن الصّواب.
2- تنتهي الفسحة عند إيذاء الآخرين
كلُّ الحريَّةِ الّتي مُنحناها من قِبل دِيننا الحَنيف؛ لتتوقَّف تماماً عند حُريَّةِ الآخرين.
ظاهِرة الفُسحَة غير المُنضَبطة عند الفَرَحِ بزواجِ شبابِنا الَّذين تاقَت نفوسنا وأرواحُنا أنْ نراهُم أربابَ أُسَرٍ، وقوَّامينَ على البيوت، لكنّ الطَّريقة الّتي يُظْهِر بها البعض فَرحَهُم تجاوزت حُدود الفرَحِ، والمُسلِم بعيدٌ كُلَّ البُعدِ عن إِيذاء إخوانِهِ حِسَّاً ومَعنىً، قال صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ).
ما أروعَ تلكَ العادَة الطَّيّبةِ الَّتي صدَّرها العُثمانيّون حينما كانوا إذا وُجد مريضٌ في إحدى الحارات؛ وضعوا طاقة وردٍ في بداية الحارة ليُبصِرها الباعَة المُتجَوِّلون فَيعلَمُون أنَّ مَريضاً هُنا فلا يَرفعون أصواتهُم بالنِّداءِ للبيع.
أيُّها المحتفي بابنك! لا تدري لعلَّ من بِجوارك قدَّم كذا وكذا من الشّباب من أَولادِه وأَقاربِه شُهداء، كان يَنتظِر أن يفرح بهم، غيرَ أنَّ الشّهادة والنُّزوح عاجَلاهُ فما اسْطاعَ فُسحةً ولا فَرحاً.
رُبَّ ضعيفٍ بجوارِك قد برَّحت بِه تِلْكُمُ الآهاتِ الدَّاكِنة السَّوداء، فما يَملِكُ ثَمنَ رغيفِ خبزٍ، وهو يراكَ وأنْت تُسرفُ وتُبَذِّر هنا وهناك، باللَّهِ قُل لي كيف سيدعو لك بالهناء والتّوفيق؟!
أنت تظهر فرحاً بابنكَ بطريقةٍ صاخبةٍ، وبجوارِكَ طُلّابُ عِلمٍ تركوا دِيارَهم وأهاليهِم مِنْ أجْل الدِّراسَة، فهل يُرضِينَّك لو أنَّه عُكس الحَال عليك؟!
تنتهي فُسحُتُك بِمرضِ جارَتك الَّتي بَلغت من الكِبر عِتيَّاً، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنْ (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ).
3- كلّ السّاعات لربّك
كان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يُرفِّه عن نفسِه، وهو مع ذلك كانت حياتُه كُلُّها لله ربّ العالمين؛ كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
فكانت حياتُه الكريمة صلى الله عليه وسلم كلُّها لله.
المرء قد يَنام وقد يَلعَب وقد يُلاعِب أهلَهُ، فإذا أحْسنَ في ذلك النِّيّة أُثيبَ عليه، كما روى البخاريّ عن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه قَالَ: "أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ، فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي".
عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ، قَالَ: -وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ؟ يَا حَنْظَلَةُ، قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (وَمَا ذَاكَ؟) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وهنا يُخطِئ كثيرٌ من النَّاس في فهم السَّاعتين، ومنهم من يقول: ساعةٌ لك وساعةٌ لربّك، والمقصود كما قال سلمان لأبي الدّرداء: "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (صَدَقَ سَلْمَانُ).
أنْ تُعطيَها مجالاً في المُباحات للتّرويح عنها، لا في المُنكرات والمحرَّمات، كما كان يتسابق الصَّحابة رِضوان الله عليهم وكما كانوا يضحَكونَ والإيمانُ في قُلوبِهم مثلُ الجبال، عَنْ قَتَادَةَ، سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ، هَلْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَالإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ أَعْظَمُ مِنَ الْجَبَلِ"، وَقَالَ بِلالُ بْنُ سَعْدٍ: "أَدْرَكْتُهُمْ يَشْتَدُّونَ بَيْنَ الأَغْرَاضِ، وَيَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ، كَانُوا رُهْبَانًا".
رسالة الختام:
إلى أولئك المتنطّعين المُغالين، أن يُيَسِّروا على النَّاس، أن يَتركوا مجالاً لِعباد الله أن يُمارِسوا حُرِّيتَهم وفَرحهَم وفُسحتهَم بِضوابِطِها الشَّرعيّة.
وهي رسالةٌ إلى الغيرِ مبالينَ بضوابِط الشَّرع والأعرافِ الطَّيّبة أن لا تجرحوا مشاعر المكلومِين، ولا تؤذوا إخوانَكم بِفُسحتِكم الَّتي تعدَّيتم بها وتجاوزْتم كلّ الحدود.
إنَّ ديناً وهبَنَا كلَّ العناية، واهتمَّ بأدَقِّ تفاصلِينا؛ لَحَرِيٌّ بِنا أنْ نلتزِم به ونَدخُل بِه بِرفقٍ ونقِف عند حُدودِه وتُعالِيمِه فقَدْ كَمُلَ وتمَّ عَدداً وَنوعاً، وكمَّاً وكيفاً، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
http://shamkhotaba.org