مقدمة:
محضُ فضلٍ من الله تبارك وتعالى علينا كَثرة الفرص السَّانحة للوقوف على بابه، وللدّخول على أعتابه، إذ ما نفرغ من رمضان إلّا ويَهبُنا سِتّاً من شَوال، وما إن تنتهي السّتُّ الممتدّة على أيّام شهر شوّال حتّى يوافينا المُنعم المتفضِّل بشهرٍ من الأشهر الحُرُم، وما إن تمرّ أيّامه وتُطوى لياليه إلّا وتنتظرنا أيّامٌ من أجلّ وأعظم أيّام العمر؛ إنها ذات الخير العميم: العشر العظيم.
1- شموليَّة العشر لأنواعٍ جليلةٍ من الأعمال الصّالحة
تحتاج حياتنا بين الفَينةِ والأُخرى إلى تجديدٍ يُعيد لها قوَّة الإيمان، ويُحيي فيها نبض العبوديَّة، وأعظمُ فرصةٍ لذلك هي الأيَّام الّتي جعل الباري لها خصوصيَّةً، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ) يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ).
وقال ابن حجر في الفتح: "وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمَكَانِ اجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ".
يكفيها أنَّها حازت على يومينِ عظيمينِ مباركين؛ يومُ عرفة ويومُ النَّحر.
2- كما كانت تهيئةً لروح موسى هي تهيئةٌ لأرواحِ المؤمنين
"الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142].
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَوَاعَدْنَا مُوسَى لِمُنَاجَاتِنَا ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَقِيلَ: إِنَّهَا ثَلَاثُونَ لَيْلَةً مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142].
يَقُولُ: وَأَتْمَمْنَا الثَّلَاثِينَ اللَّيْلَةِ بِعَشْرِ لَيَالٍ تَتِمَّةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَة، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَشْرَ الَّتِي أَتَمَّهَا بِهِ أَرْبَعِينَ، عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ".
هذه التَّهيئة الرَّبَّانية كانت إعداداً لموسى عليه السلام كي يتهيَّأ للقاء الله تبارك وتعالى ويُعدّ نفسه لتلقّي نفحات ورحمات الباري تبارك وتعالى، لينعزل عن الشّواغل الأرضيّة ويرتفع إلى نداء السّماء فتصفو روحه وتقوى عزيمته الإيمانيّة.
وإنّنا -وقد أوهنت الأيَّام الثّقيلة أرواحنا وأتعبت قلوبنا- بأمسّ الحاجة إلى هذه الأيّام لنجعل منها إعداداً لأرواحنا وتهيئةً لقلوبِنا وتجديداً لإيمانِنا، وإذا كان الله تعالى قد أنزل المنَّ والسَّلوى على صحراءِ بني إسرائيل؛ فإنَّ صحراءَ قلوبنا لأشدُّ حاجةً إلى مِنَّةٍ من الله تعالى وسلوى أن يُنزِل عليها من اليقين والصَّبر والثَّبات.
3- أبوابٌ للعملِ الصَّالح
إنّ الباري سبحانه -بمَنِّه وكرمِه- ما يُغلق باباً أمام العبد من البِرِّ والخير إلَّا ويفتحُ أبواباً.
وإنّ هذا الوباءُ الَّذي حال دون رحيل الحُجَّاج إلى بيت الله تعالى وأَقَضَّ مضجعَهُم وهُم يَنتظرونَ هذه الأيَّام بفارغ الصبر والحنين؛ أثَّر على القلوب وأجرى عيون العيون، غير أن حِكماً بالغةً من وراء ذلك؛ لا يعلمها إلّا الله.
لَعلَّها فرصةٌ لمن حُرم –بقدر الله- من حجّ بيت الله الحرام في هذا العام أن لا يحرم نفسه من أبوابٍ عظيمةٍ للأجر؛ فنلتفِت إلى من بَرّحت بِهِم هذه الأيَّام فنطوفُ بِبابِهم باحثين عن حوائِجهم:
• بالسّعي على الأرمَلةِ والمسكين الّذي يَعدل الجهاد وصِيام النَّافلة وقيام اللَّيل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ).
• أو البحث عن شابٍّ في سنّ الزّواج وتحصينه؛ لِما في الزّواج من تحصيل العفّة له وصدّه عن المنكرات ووساوس الشّيطان، إذ هو صونٌ من الزّنا -الّذي يهتزّ له عرش الرحمن- ومساندةٌ في فتح بيتٍ وإنشاء أسرةٍ تحمل شعلة التّوحيد في عالم الفتن والمغريات والشّهوات. ومن سعى في حاجة مسلمٍ وستره تلفّع بستر المولى عز وجل يوم تُعرض الخلائق على الدّيّان، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ).
ولا يخفى على أحدٍ ذلك الغلاء العامّ الّذي فشا وانتشر وأصاب كلّ سلعةٍ، وأصبح من الصّعب على الشّابّ أن يجهّز نفسه بمفرده للزّواج، فإعانة الشّابّ على الزّواج هي سترٌ له وتفريج كربةٍ من كربات الدّنيا.
لقد أخذ الله تبارك وتعالى عهداً على ذاته أن يعين طالب العفاف بالنّكاح، ممّا يدلّ على استحباب إعانة المقبلين على الزّواج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللهِ عَوْنُهُمُ الْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَالْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ).
ختاماً:
إنّها لأيّامٌ قليلةُ العددِ، غيرَ أنَّها كثيرةُ البَركةِ عظيمةُ الأجرِ ومُمتدَّة النَّفع.
ومِن أبلغِ فضائِلها أنَّ الله تعالى أقسَم بها حيثُ قال جلَّ وعَلا: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2].
"وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ الْمُرَادُ بِهَا عَشَرُ ذِي الْحِجَّةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ".
علينا أن لا نحرم أنفسنا من الأجر العميم في هذه العشر العظيم.
ومن أجلّ الأعمال الصّالحات السّعي في تفريج الكربات.
فكم من محتاجين ومحتاجات ومكلومين ومكلومات!
وهذه من أعظم الأسباب، للنّجاة من العذاب، عند الوقوف بين يدي ربّ الأرباب.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ، طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ، فَتَوَارَى عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ، فَقَالَ: آللَّهِ؟ قَالَ: آللَّهِ؟ قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ).
http://shamkhotaba.org