الهجرة أمل الأمّة في النّهضة
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 20 أغسطس 2020 م
عدد الزيارات : 1516
مقدمة:
إنّنا أمّة نهضةٍ ورسالةٍ، لا تزول مهما تطاول الزّمان، ولا تموت مهما تكالب عليها الطّغيان، فهي قديمةٌ قِدم البشريّة، وباقيةٌ أبديّةٌ سرمديّةٌ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصّفّ: 8].
وإنّ أبناء هذه الأمّة قد بذلوا الغالي والنّفيس، وهجروا البلاد والأوطان؛ من أجل رسالة القرآن والنّهوض بالإنسان، فها هو السّيّد الأوّل والنّبيّ الأكمل محمّد صلى الله عليه وسلم يترك بيته القريب من الكعبة، ويهجر مرابع صباه في مكّة، فيتابعه أتباعه على مهجره إلى المدينة، لا طمعاً بجاهٍ ولا منزلةٍ، ولا لمصلحة دنيا أو تجارةٍ، إنّما كانت هجرتهم لأجل إتمام الرّسالة وإكمال المهمّة في نهضة الأمّة، وصدق الله في وصف مهجر رسوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التّوبة: 40].
فلمّا صدقوا الله في هِجرتهم إلى ربّهم، سادوا البلاد بالعدل والإحسان، وقادوا العباد إلى نهضة الأوطان، فكانت الهجرة المحمّديّة بدايةً للنّهضة البشريّة، وتحوّلٌ في تاريخ الإنسانيّة، انتقلوا بالهجرة من الظُّلمات إلى النّور، وطلع بدر التّوحيد والإيمان، وزال عهد الزّور والبهتان، وصدع أهل الحقّ في كلّ زمانٍ ومكانٍ، يُنشدون بكلّ لسانٍ:
طَلَعَ البَدْرُ عَلَيْنَا    مِنْ ثَنِيَّاتِ الوَدَاعْ
وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا    مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعْ
أَيُّهَا المَبْعُوثُ فِينَا    جِئْتَ بِالأَمْرِ المُطَاعْ
جِئْتَ شَرَّفْتَ المَدِينَةْ    مَرْحَبًا يَا خَيْرَ دَاعْ
ما أعظمها من ذِكرى تأخذ بقلوبنا إلى ربّنا فنقول بلسان أوّل مهاجرٍ: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26].
فالهجرة إلى الله دينٌ وعقيدةٌ، وما أجلّها من ذكرى تأخذ بألبابنا وعقولنا لننهض بأمّتنا، كما فعل رعيلنا الأوّل في هجرتهم، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
1- الهجرة ونهضة الأمّة
إنّ للهجرة النّبويّة معانٍ لا تُحصى، ودروسٌ تُحكى فلا تُنسى، ولعلّ من أعظم دروسها وحِكمها وأحكامها أنّ الهجرة هي أمل الأمّة في النّهوض إلى القمّة، الهجرة حجر الزّاوية في العلوّ والرّفعة، ومحور الانطلاق إلى النّهضة والقمّة، فالهجرة وأهلها ما ذُكرت في القرآن إلّا ممدوحةً {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النّساء: 100].
فالهجرة في حقيقتها ترك الدّنيّ من أجل العليّ، الهجرة هجر المعصية من أجل الطّاعة، الهجرة ترك المذلّة والعبوديّة من أجل الكرامة والحرّيّة، من هنا كانت الهجرة هي تجديد دماء الأمّة، واستنهاض قدرات أبناء الأمّة للعمل الدّؤوب في بناء جيل النّصر والتّمكين، وإعداد مجتمع الرّسالة والدّين، فمحمّد صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة واصل اللّيل بالنّهار، واستنهض هِمم الصّغار والكبار؛ لبناء مدينته على أصولٍ أخلاقيّةٍ فريدةٍ، وعقيدةٍ حنيفيّةٍ سمحةٍ، حتّى مدح الله ذلك الجيل المهاجر والمناصر فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
وها نحن اليوم بين مهاجرٍ ومناصرٍ، ما أحرانا أن نقتدي بهم في تأسيس نهضتنا مع مطلع عام الهجرة الجديد، وذلك تحقيقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف المهاجر: (وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَاجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ). صحيح ابن حبّان: 230
2- الهجرة كماء السّماء، أينما وقع نفع
لسنا بِدعاً من الخلق في الهجرة، وما يجرى لأهلنا من تهجيرٍ في الأمصار؛ هي سنّةٌ إلهيّةٌ لأهل الحّق عبر الزّمان، ذكر الله ذلك في القرآن: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195].
فسنة الله في أهل الحقّ أنهم يتركون الأوطان من أجل دينهم، ويفرّون إلى الأمصار حفاظاً على عقيدتهم، وما أهل الكهف عنكم ببعيدٍ، بل إنّ أهل الحقّ كلّما زاد ثباتهم على دينهم زاد بلاؤهم في الخروج من ديارهم، فها هو نبيّ الله لوطٌ يقول له قومه: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النّمل: 56].
وهنا يبدأ نضالٌ جديدٌ وكفاحٌ فريدٌ لأهل الحقّ في أرض مهجرهم، فالهجرة لا تُميت القضيّة، بل إنّها تزيدها اتّقاداً وثباتاً، فأنت أيّها المهاجر -أينما كنت- لست كغيرك، لم تشرّدك الكوارث الطّبيعيّة، ولا خرجت طالباً لمصالح دنيويّةٍ، أنت -وبكل فخرٍ واعتزازٍ- خرجت من وطنك مهاجراً بقضيّتك ،فارّاً بدينك، فالثّباث الثّبات، ولتكن كجعفر بن أبي طالبٍ رضي الله عنه في هجرته إلى الحبشة، ثبت ومن معه في مواجهة الباطل، ودعا إلى الحقّ وهو في هجرته، فأسلم على يديه الكثير، وأنار بهجرته درب السّالكين إلى ربّ العالمين، وليكن بلد المهجر امتداداً استراتيجيّاً لقضيّتنا، وليكن المهجر أرضاً خصبةً لدعوتنا، كما فعل مصعب بن عميرٍ سفير الإسلام في المدينة، فكان نِعم السّفير والمهاجر في نُصر دينه ونشر رسالته، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل الله مهجرنا كمهجرهم.
رسالتنا من هنا إلى كلّ مهاجرٍ خرج من ديارنا، وعاش في أمصار المعمورة: احمل همّنا، وانصر قضيّتنا، وادعم ثباتنا، وقف إلى جانبنا بالدّعاء والمناصرة.
فما أروعك أخي المهاجر عندما تجعل حبلاً من الوصال الدّائم بينك وبين وطنك، تتفقّد الفقراء بالعطايا، وتنصر المظلومين في القضايا، وتعيش وأنت في مهجرك كأنّك في وطنك، مجاهداً بلسانك ومالك، وداعماً لقضيّتك وثورتك.
3- الهجرة قوّةٌ ويقينٌ
لقد هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكّة فحوصر في الغار، وظنّ الصّدّيق أنّها النّهاية، فقال له خير البريّة: (مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا). صحيح البخاريّ: 3653
إنّه اليقين بالنّصر المبين، إنّها القوّة الّتي تهتز لها عروش الجبابرة، وتنكسر دونها قيود الأكاسرة، مضى مهاجراً وعينه على مكّة، وهو يردد قول الحقّ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85].
لتكون قصّة الهجرة نبراساً يُهتدى به لأهل الحقّ في قوّة يقينهم بانتصارهم، والعودة إلى ديارهم، وما هي إلّا سنواٌت معدودةٌ ودخلت جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب مكّة فاتحةً، وإذا بالأذان فوق الكعبة يصدع، والأصنام تحت الأقدام تُصرع، وأصوات ألوف المسلمين تصدح: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
يا موكب النّور بدّد حالك الظّلمِ    فأمّة الحقّ لم تهدأ ولم تنم
ها ألمح اللّيل قد حانت نهايته    لا يشرق الفجر إلّا في دجى الألمِ
أنتم يا أهلنا المرابطين في دياركم رغم جراحكم؛ أنتم أملنا في النّصر والتّمكين، أنتم أيّها الثّابتون على الثّغور في وجه الطغاة؛ كنتم وما زلتم تاج رؤوسنا وفخر نفوسنا، فبكم تُحفظ الأرض ويُصان العِرض، ولكم من الله الأجر وعظيم القدر، فقد وعدكم جلّ من قائلٍ بالنّصر المبين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218].
كُلَّمَا   أُطْفِئَ   مِنْهَا    قَبَسٌ     أَشْرَقَ القُرْآنُ بِالفَجْرِ الجَدِيدْ
وفي نهاية المقام، سائلين المولى حُسن الخِتام:
فإنّ الهجرة أمل الأمّة في النّهضة، فليس في الهجرة أحدٌ بلا دورٍ، فلكلٍّ منّا دوره ومهمّته، فالنّبيّ صلى الله عليه وسلم استنفر في هجرته كلّ الطّاقات، واستعمل لهجرته كافّة الإمكانيّات، فمحمّدٌ هو القائد، وأبو بكرٍ هو الصّديق المساعد، وأسماء للتّموين والطّعام، وعبد الرّحمن لمحو آثار الأقدام، وعامر بن فهيرٍ للتّأمين، وعبد الله بن أريقط دليلٌ.
مجتمعٌ برجاله ونسائه وعبيده وشبابه ضحّى في سبيل الهجرة؛ فحقّق الله لهم المراد بالتّمكين والنّصرة، ووصلوا بالأمّة إلى النّهضة والقمّة، ونحن ليس فينا عاجزٌ معزولٌ، ولا بيننا قاعدٌ كسولٌ، بل الكلّ يجاهد ويساعد ويساند، فالهجرة توقظ فينا المسؤوليّة للنّهوض بالأمّة إلى أعلى قمّةٍ {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمّد: 35].
 
 

http://shamkhotaba.org