أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت
الكاتب : عبد المجيد بدوي
الخميس 27 أغسطس 2020 م
عدد الزيارات : 2504
مقدمة:
تسأل مدخنا: لم لا تقلع عن التدخين؟ يقول لك: لم ينقطع نصيبي منه بعد، ما زال لي في نصيب مقدر، ولا يمكنني أن أفر من قدري.
هو هاهنا يحتج بالقدر، وأن ما نستهلكه في حياتنا مقدر علينا، فلا يتخلف.
تسأل طالبا قصر في دراسته فلم ينجح، لم لم تنجح؟ يقول لك: أنما هو أمر مقدر علي مذ كنت جنينيا في بطن أمي، هو قدري الذي لا يمكنني أن أفر منه، وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف.
تسأل مريضا قصر في أخذ الاحتياطات فأصابه المرض: ما شأنك؟ لم أصبت؟ فيقول لك: هذا أمر الله وقدره، مكتوب على الجبين، وما كتب على الجبين ستراه العين.
تسأل ثائرا محبا لثورته: لم وصلنا إلى ما وصلنا إليه من حال؟ فبقول لك: {وما النصر إلا من عند الله} لو شاء الله وقدر لانتصرنا، ولكن من يقدر أن يغير مقادير الله.
في الأمثلة السابقة يحتج الناس بالقدر، والإجابات السابقة فيها اشكالات ولا شك، نتعرض لحلها من خلال شرح حديث من أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1- حديث الخلق
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَعَمَلِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
وفي هذا الحديث فوائد عديدة، منها ألا يتكبر المرء على الله، وألا يتكبر على إخوانه، فهو إنما خلق من نطفة، ولا يحق لنطفة أن تتكبر على اخرى، لقد أثبت الله مراحل الخلق هذه في قرآنه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [سورة الحج: 5]. 
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 12-16].
مراحل الخلق هذه تبين ضعف الإنسان، وتبين قدرة الله، فتبارك الله أحسن الخالقين.
2- نفخ الروح
وفي الحديث مسألة نفخ الروح ومتى تكون: ظاهر الحديث أنها بعد مئة وأربعين يوما، فلطور النطفة أربعون وللعلقة كذلك وللمضغة كذلك، ثم يكون النفخ بعد تمام الأطوار الثلاثة. لكن للحديث رواية أخرى تشير إلى أن الأطوار تكون في الأربعين الأولى، ويليها نفخ الروح، كما في صحيح مسلم: (ثم يكون في ذلك علقة..) (ثم يكون في ذلك مضغة...). صحيح مسلم: رقم 2643- 4/2036
أي في ذات الأربعين، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا، وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا ثُمَّ قَالَ يَا رَبِّ أَذْكُرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَجَلُهُ؟ فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أَمَرَ وَلَا يَنْقُصُ). صحيح مسلم: رقم: 2645- 4/2037
ويرتب الفقهاء على مسألة نفخ الروح وأطوار الخلق مسائل، كانقضاء عدة الحامل بإسقاطه وحكم الإجهاض، وتحول الأمة به إلى أم ولد، والصلاة على السقط، لكن ليس هذا مقام تفصيلها، ويكفي فيها سرد العناوين.
3- كيف نفهم الإيمان بالقدر
وفي الحديث الإيمان بالقدر، وهو كما علمتم ركن من أركان الإيمان، ويثمر ألا نجبن في الحق وألا نبخل
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جبانا
فآجالنا وأرزاقنا ليست بأيدي الظلمة، إنما هي مقادير مقدرة. لكن هل يصح أن يحتج المخطئ بالقدر، كالمثلة آنفة الذكر، بالتأكيد لا. فالقدر من علم الله وعلم الله صفة كاشفة غير ملزمة، لا يصح للعاصي أن يحتج بقدر الله، وأنه أجيره على المعصية، أرأيت مدرسا خبيرا في الطلاب وطبائعهم ومستوياتهم، دخل أول العام فسبر أغوار طلابه، وسمع مقالاتهم وعاين تصرفاتهم، ثم خلا بنفسه فكتب في ورقة أن سينجح فلان، وسيرسب فلان، فكان آخر العام الدراسي وصدقت خبرته في الطلاب، فهل يقال حينها، أنه أجبر الراسب على الرسوب، لا يقولها عاقل، وإذا كان المدرس ذو الخبرة محدودة يصدق قوله في الطلاب، فما بالك بالعليم الخبير، {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِير}.
لا يقبل عذر الكفار يوم القيامة إذا احتجوا بالقدر، تأمل قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الانعام: 148].
وكذلك قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35].
فكيف نفهم ختام الحديث، الذي ينص على ان الرجل يعمل بعمل أهل الجنة فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، هل أجبره القدر على التحول من أهل الجنة حتى أدخله النار. بالتأكيد لا، يذكر بعض أهل الحديث أن القسم في نهاية الحديث مدرج من قول ابن مسعود رضي الله عنه، أي أنه نقل عن النبي صلة الله عليه وسلم كتابة الملك للكلمات الأربع ثم أقسم ابن مسعود رضي الله عنه ذلك القسم، وفي الصحيحين ما نقل عن النبي يوضح هذا الجزء من الحديث عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ وَفِي أَصْحَابِهِ رَجُلٌ لَا يَدَعُ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالُوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا أُصَاحِبُهُ، فَاتَّبَعَهُ، فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ عَلَى الْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ). صحيح مسلم: رقم: 179- 1/106
زَادَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَةً لَهُ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ). صحيح البخاري: رقم: 2898- 4/37
وَقَوْلُهُ: (فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَاطِنَ الْأَمْرِ يَكُونُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّ خَاتِمَةَ السُّوءِ تَكُونُ بِسَبَبِ دَسِيسَةٍ بَاطِنَةٍ لِلْعَبْدِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النَّاسُ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ مَلٍ سَيِّئٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتِلْكَ الْخَصْلَةُ الْخَفِيَّةُ تُوجِبُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَعْمَلُ الرَّجُلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَفِي بَاطِنِهِ خَصْلَةٌ خَفِيَّةٌ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ، فَتَغْلِبُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْخَصْلَةُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، فَتُوجِبُ لَهُ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ. 
قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ: "حَضَرْتُ رَجُلًا عِنْدَ الْمَوْتِ يُلَقَّنُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ فِي آخِرِ مَا قَالَ: هُوَ كَافِرٌ بِمَا تَقُولُ، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَإِذَا هُوَ مُدْمِنُ خَمْرٍ. فَكَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ يَقُولُ: اتَّقُوا الذُّنُوبَ، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتْهُ". 
وَفِي الْجُمْلَةِ: فَالْخَوَاتِيمُ مِيرَاثُ السَّوَابِقِ، فَكُلُّ ذَلِكَ سَبَقَ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ.
4- الخوف من الخواتيم
وَمِنْ هُنَا كَانَ يَشْتَدُّ خَوْفُ السَّلَفِ مِنْ سُوءِ الْخَوَاتِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْلَقُ مِنْ ذِكْرِ السَّوَابِقِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قُلُوبَ الْأَبْرَارِ مُعَلَّقَةٌ بِالْخَوَاتِيمِ، يَقُولُونَ: بِمَاذَا يُخْتَمُ لَنَا؟ وَقُلُوبُ الْمُقَرَّبِينَ مُعَلَّقَةٌ بِالسَّوَابِقِ، يَقُولُونَ: مَاذَا سَبَقَ لَنَا. وَبَكَى بَعْضُ الصَّحَابَةِ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبَضَ خَلْقَهُ قَبْضَتَيْنِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ)، وَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ كُنْتُ؟ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا أَبْكَى الْعُيُونَ مَا أَبْكَاهَا الْكِتَابُ السَّابِقُ. وَقَالَ سُفْيَانُ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ: هَلْ أَبْكَاكَ قَطُّ عِلْمُ اللَّهِ فِيكَ؟ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ: تَرَكَنِي لَا أَفْرَحُ أَبَدًا. وَكَانَ سُفْيَانُ يَشْتَدُّ قَلَقُهُ مِنَ السَّوَابِقِ وَالْخَوَاتِيمِ، فَكَانَ يَبْكِي وَيَقُولُ: أَخَافُ أَنْ أَكُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ شَقِيًّا، وَيَبْكِي، وَيَقُولُ: أَخَافُ أَنْ أُسْلَبَ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَقُومُ طُولَ لَيْلِهِ قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ، وَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَدْ عَلِمْتَ سَاكِنَ الْجَنَّةِ مِنْ سَاكِنِ النَّارِ، فَفِي أَيِّ الدَّارَيْنِ مَنْزِلُ مَالِكٍ؟.
وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: "مَنْ خَلَا قَلْبُهُ مِنْ ذِكْرِ أَرْبَعَةِ أَخْطَارٍ، فَهُوَ مُغْتَرٌّ، فَلَا يَأْمَنُ الشَّقَاءَ: الْأَوَّلُ: خَطَرُ يَوْمِ الْمِيثَاقِ حِينَ قَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي، فَلَا يُعْلَمُ فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ، وَالثَّانِي: حِينَ خُلِقَ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، فَنُودِيَ الْمَلَكُ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَلَا يَدْرِي: أَمِنَ الْأَشْقِيَاءِ هُوَ أَمْ مِنَ السُّعَدَاءِ؟ وَالثَّالِثُ: ذِكْرُ هَوْلِ الْمَطْلَعِ، وَلَا يَدْرِي أَيُبَشَّرُ بِرِضَا اللَّهِ أَوْ بِسُخْطِهِ؟ وَالرَّابِعُ: يَوْمَ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا، وَلَا يَدْرِي، أَيُّ الطَّرِيقَيْنِ يُسْلَكُ بِهِ".
وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: "الْمُرِيدُ يَخَافُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْمَعَاصِي، وَالْعَارِفُ يَخَافُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكُفْرِ".
وَمِنْ هُنَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ النِّفَاقَ وَيَشْتَدُّ قَلَقُهُمْ وَجَزَعُهُمْ مِنْهُ، فَالْمُؤْمِنُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ النِّفَاقَ الْأَصْغَرَ، وَيَخَافُ أَنْ يَغْلِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ، فَيُخْرِجُهُ إِلَى النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ دَسَائِسَ السُّوءِ الْخَفِيَّةِ تُوجِبُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) فَقِيلَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: (نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءَ). خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ
سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة، بما أن الأمر محسوم مسبقا، ألا ندع العمل، فقد كنب الله أهل الجنة وأهل النار، فأرشدهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يعملوا، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً)، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا، نَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَقَالَ: (اعْمَلُوا، فَكُلُّ مُيَسَّرٍ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ)، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10]. صحيح البخاري رقم: 1362- 2/96
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: "أَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ قَدْ سَبَقَ الْكِتَابُ بِهِمَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِلسَّعَادَةِ أَوِ الشَّقَاوَةِ". جامع العلوم والحكم: 1/169
فقد بين النبي للناس قانون التيسير، فكل ميسر لما خلق له، وللتيسير لليسرى أسباب العطاء والتقوى والتصديق بالحسنى، فمن لم يجد التيسير للحسنى فليراجع نفسه مع هذه الثلاثة، زمن رأيت يبخل ويستغني ويكذب بالحسنى فلا تتعجب أن ييسر للعسرى، ويكون إنما جنى على نفسه، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}.
خلاصة الأمر أيها الكرام: ألا نتكبر على الله أحسن الخالقين وعلى إخواننا، فالناس من تراب ونطاف، كما علينا أن نتحمل نتيجة قراراتنا واختياراتنا وألا نحتج حيال أخطائنا بالقدر. وعلينا ألا نغتر بأعمالنا السابقة وألا نمدح أنفسنا {ولا تزكوا أنفسكم} فنجزم أنا صائرون إلى الجنة لا محالة، بل نخاف من الخاتمة، ويدفعنا هذا الخوف إلى الإكثار من العمل الصالح؛ فنزداد قربا من الله، وننال الدرجات العلى من الجنة، وهذا هو المقصود.
 

http://shamkhotaba.org