أفضل الخصال.. الموصلة إلى الظّلال
مقدمة:
إنّ سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم هي المنبع الثّريّ للحقّ والنّور والهداية، وهي المعين الّذي لا ينضب، والحقّ الّذي لا يُعطب، وإنّ الوقوف الدّقيق عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبعث من مشكاة النّبوّة؛ لَيحمِلُ النّفس المؤمنة على أن تعرف أسراره، وتستضيء بأنواره، فلا ينفكّ يشرح للنّفس، ويهديها بهديه، وفي واحدٍ من هذه الأحاديث العظيمة، أخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم به، فأخبر به أمّته، ليحثّها فيه على بعض الأعمال الصّالحة الجليلة، الّتي تكون سبباً لأن تستظلّ بظلّ عرش الرّحمن جل جلاله، في يومٍ عصيبٍ يَعظم فيه الخَطب، ويشتدّ فيه الكَرب، وتدنو فيه الشّمس من رؤوس الخلائق مقدار ميلٍ، غير أنّ أناساً من أهل المحشر لا يؤذيهم حرّ تلك الشّمس المحرقة اللّاهبة، ولا يصيبهم عرقٌ من حرٍّ أو زحامٍ، لأنّ الربّ الجليل آواهم إلى ظلٍّ ظليلٍ، حيث لا ظلّ آنذاك إلّا ظلّه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ).
1- هول موقف القيامة، وحاجة الناس إلى الظّلّ فيه
ينفخ الملك إسرافيل عليه السلام في الصّور، فيقوم النّاس لربّ العالمين، فيزداد الهمّ والكرب لطول الموقف وعظمة أهواله، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحجّ:1].
وإنّ من جملة أهواله العظيمة: دُنوُّ الشّمس من رؤوس الخلائق، حتّى لا يكون بينها وبين رؤوسهم إلّا مقدار ميلٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (تَدْنُو الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مِيلٍ، وَيُزَادُ فِي حَرِّهَا كَذَا وَكَذَا يَغْلِي مِنْهَا الْهَامُّ كَمَا تَغْلِي الْقُدُورُ يَعْرَقُونَ فِيهَا عَلَى قَدْرِ خَطَايَاهُمْ مِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى وَسَطِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ).
فهل تصوّرت هذا المشهد أمامك؟! النّاس حفاةٌ عراةٌ في صعيدٍ واحدٍ، يَنفذهم البصر، ويَسمعهم الدّاعي، وقد حُشروا كلّهم جميعاً، قال سبحانه: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التّغابن: 9].
وقال: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47].
يوم العرق، يوم الرّشح، حرارةٌ تذيب الحجارة والحديد فوق الرّؤوس، زحامٌ يخنق الأنفاس، والشّمس علت الرّؤوس، وكادت أن تصهر الجلود، وازداد الموقف رهبةً وكرباً مجيء جهنّم إلى أرض المحشر، قال عز وجل: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23].
عنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا).
فإذا رأت الأمم جهنّم في أرض المحشر، جثت جميع الأمم على الرّكب من الخوف والذّعر، قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28].
رغم الخطب الجلل نطمئنّ، لأنّ ربّنا الرّحيم بعباده قال: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
وأوضح لنا على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم -في الحديث الّذي ذكرناه آنفاً- سبيل النّجاة والخلاص من تلك الكُرب العظيمة، حيث ذكر أصنافاً سبعةً ينادي عليهم المَلِكُ وسط هذا الموقف الرّهيب في أرض المحشر، بأن يتقدّموا ليظلّهم بظلّه، حيث لا أشجارَ هناك ولا بيوتاً، فيا لسعادة من نأى بنفسه عن حرّ ذلك الموقف، فكان واحداً من هؤلاء الأصناف السّبعة المظلّلين بظلّ الله عز وجل.
2- الحكم بالعدل فرضٌ ربّانيٌّ، وسببٌ لاستقرار المجتمع
إنّ الحضارات الإنسانيّة لا تبلغ أوج عزّها؛ إلّا حين يعلو العدل تاجها، وتبسطه على القويّ والضّعيف، ولقد تواطأت على حُسنِ العدل الشّرائع الإلهيّة، والفطر السّويّة، والعقول الحكيمة.
إذا قام العدل في البلاد عمّر، وإذا ارتفع عن الدّيار دمّر، وإنّ الدّول لتدوم مع الكفر مادامت عادلةً، ولا يقوم مع الظّلم حقٌّ، ولا يدوم به حكمٌ، فما أحوج الحاكم إلى أن يقيم العدل في الأرض، فتسعد به رعيّته ويسعد برعيّته، ويؤدّي الأمانة على وجهها، حيث إنّ الحكم والمنصب من أعظم الأمانات الّتي سيسأل عنها بين يديّ الله عز وجل، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا).
وإذا ذُكر العدل في الحكم فلا بدّ إلّا وأن تذكّرنا هذه الكلمة بإمام العدل والقسط بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنّه أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، الّذي ملأ الدّنيا عدلاً وقسطاً، فكان من عدله أنّه لا يميّز في حكمه أو يفرّق في القضاء بين مسلمٍ وغيره، ولقد شهدت لعدله وقائع كثيرةٌ، منها: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اخْتَصَمَ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ وَيَهُودِيٌّ، فَرَأَى أَنَّ الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ، فَقَضَى لَهُ عمر، فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ، فَضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، ثُمَّ قَالَ: مَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّا نَجِدُ أَنَّهُ لَيْسَ قَاضٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ، إِلاَّ كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ، يُسَدِّدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ لِلْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ، فَإِذَا تَرَكَ الْحَقَّ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ.
ألا ما أحوج الأمّة في كلّ عصرٍ و زمانٍ -لا سيما في هذا العصر- إلى الإمام العادل الّذي يرى القويّ ضعيفاً حتّى يأخذ الحقّ منه، والضّعيف قويًّا حتّى يأخذ الحقّ له، وإنّ تحقيق العدل أمام الأهواء والرّغبات أمرٌ في غاية الصّعوبة، إذ حلاوته مرّةٌ، وسهولته صعبةٌ، ولن يستطيع تخطّي العقبات إلّا بالإيمان والتّقوى، وحذار أن يُفهَم أنّ المقصود بالإمام العادل مقصورٌ على رئيس الدّولة فحسب، بل إنّ مفهوم الإمامة يتّسع ليشمل كلّ من ولي شيئاً من أمور المسلمين، كالقاضي والمعلّم والطّبيب وربّ الأسرة وغيرهم، عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).
3- أعمالٌ صالحةٌ أخرى تجعلك في ظلّ الله يوم القيامة
إنّ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعةٌ)، تعني أنّه ذكرهم في هذا الحديث مجتمعين، وفي الحقيقة فإنّ هناك غيرهم ممّن يظلهم الله جل جلاله، فقد لا يتيسّر للعبد أن يكون واحداً من هؤلاء السّبعة، وقد أحصى الإمام ابن حجر غير الّذين ذُكروا في الحديث، فوجدهم سبعةً آخرين، فنظمهم بقوله:
وزد سبعةً: إظلال غازٍ وعونه وإنظار ذي عسرٍ وتخفيف حمله
وإرفادُ ذي غرمٍ وعون مكاتبٍ وتاجر صدقٍ في المقال وفعله
ولقد حثّت السّنّة المطهّرة على كثيرٍ من الأعمال الّتي توصل العبد إلى ظلّ الله عز وجل، فمن أهمّها:
أوّلاً: إنظار المعسر أو وضع الدَّينِ عنه: فمن أنظر معسراً، أو وضع عنه شيئاً من الدّين، أظلّه الله بظلّه يوم القيامة، عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ).
ثانياً: إعانة المجاهد في سبيل الله عز وجل: وإنّنا بأمسّ الحاجة في كلّ وقتٍ -لا سيّما في وقتنا الرّاهن- إلى إعانة المجاهد في سبيل الله عز وجل، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّ سَهْلًا، حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ، أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ، أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ).
ثالثاً: حفظ سورتي البقرة وآل عمران والعمل بهما: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (تَعَلَّمُوا الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا هُمَا الزَّهْرَاوَانِ، يَجِيئَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ يُحَاجَّانِ).
فلنحرصْ كلّ الحرص على تعلّم هاتين السّورتين والعمل بهما، عسى ربّنا أن يجعل لنا نوراً في قلوبنا وقبورنا، وظلّاً ظليلاً يوم حشرنا ونشرنا.
هذه بعض الأعمال الصّالحة لمن أراد أن يكون في ظلّ الرّحمن يوم القيامة، وغيرها كثيرٌ، ولكن لا يتّسع المقام لذكرها، فلنحرصْ كلّ الحرص أن نكون منهم ومعهم.
ختاماً:
فلنتمسّكْ -يا عباد الله- بما جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعانا إليه في سنّته المطهّرة، ولنتنافس في تنفيذ ما أمرنا به وأرشدنا إليه، ونحن بأمسّ الحاجة في هذه الظّروف الصّعبة إلى أن نتدارس أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم العظيمة سواءً في العبادات، أو المعاملات، أو الأخلاق وفضائل الأعمال، حيث إنّ سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المصدر الثّاني للتّشريع بعد القرآن الكريم، وقد وصفها الله عز وجل بالحكمة فقال: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النّساء: 113].
ولنحذر كلّ الحذر من دعاة الضّلالة الّذين يردّدون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثّابتة، ويشكّكون في السّنّة ويطعنون فيها، ويقولون: أوامر النّبيّ لا تلزمنا، ويُلبّسون على النّاس، ويدّعون أنّهم يُظهرون الحقائق، وهم -في الحقيقة- يروّجون الأباطيل، ويحاربون ثوابت الدّين، وما أشدّ هلكة من كان على هذا المسلك الوعر؟!
http://shamkhotaba.org