أطِب مطعمك تُقبل عند الكريم
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 14 أكتوبر 2020 م
عدد الزيارات : 6662
مقدمة:
إنّ الله تعالى طيّبٌ لا يقبل إلّا طيّباً، كما أنّه لا يقبل إلّا طيّب الأقوال {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
ولا يقبل إلّا طيّب الأعمال {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]، كذلكم لا يقبل إلّا ما طاب من المطعم.
وهو الّذي جعل الرّزق محلَّ ابتلاءٍ؛ من حيث البحث عنه، ومن حيث المطعم منه، ومن حيث السّؤال عنه بين يديه تبارك وتعالى.
ولمّا أن كان الدِّين شاملاً لكلّ مناحي الحياة؛ فمن أعظم الظّلم للنّفس، وأكبر الغبن للجسد؛ أن يتقن العبد طيب الكلام، وأن يتفنّن في الاستجابة لطيب العمل، ثمّ يضيع عمله في المطعم الحرام،
فمن يبغي القَبول عند الكريم ينبغي أن يستوفيَ كلّ معاني الطّيبة؛ لا سيما في المال الّذي هو صنو الرّوح، وقد جُبل الإنسان على محبّته.
نستعرض في هذا المقام إطابة المطعم، لنعيش في ظلّ الحياة الكريمة في الدّنيا، ولنحظى بالقبول في الآخرة.
1- لا تتردّد في البحث عن الطّيّب
تعالوا بنا نبدأ بموعظة (من يوصل طلبات البيتزا): لمّا أوصل طلبيّةً لصاحبها وأراد المشتري ممازحته قائلاً: فيما بعدُ الحساب، فقال: صدِّقني، اليوم أرخص لك.
من يستعرض عِظم السّؤال عن المال -مهما صغر عدده ومهما دقَّت كمّيّته- يراجع حساباته في كلّ ما يرد ويصدر، فالنّاس من حيثُ جمع المال وصرفه أربعة أنواع:
نوعٌ جمعه من حرامٍ، وأنفقه في حرامٍ، فهو في النّار.
نوعٌ جمعه من حرامٍ، وأنفقه في حلالٍ، فهو في النّار.
نوعٌ جمعه من حلالٍ، وأنفقه في حرامٍ فهو في النّار.
نوعٌ جمعه من حلالٍ، وأنفقه في حلالٍ، فهو مسؤولٌ عنه: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92]. 
يؤكّد هذا المفهوم عند المؤمن: ما رواه أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ). سنن التّرمذيّ: 2417
ما أبلغها من كلماتٍ! وما أشدَّ وطأتها على قلب المؤمن!
يا من أمَّنك الحقّ جل جلاله على تعليم الجيل، وامتنَّ الله عليك بلقمة العيش من خلال تربيتهم، لا تتردّد بجعل هذه اللّقمة طيّبةً؛ بحفظ الأمانة المناطة بعنقك.
وأنت يا ذا الّذي منَّ الله عليك بإحياء ذروة سنام الإسلام؛ يا من أمَّنك الله تعالى على حفظ أرواح عباد الله تعالى وأموالهم، ما أبهاك وأنت تسمو في حمل بندقيّتك بصدقٍ، وأنت تحفظ يدك وقلبك وجسدك إلّا ممّا وهبك الله تعالى من حلالٍ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِي المَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ، أَمِنْ حَلاَلٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ). صحيح البخاريّ: 2083
هي فرصةٌ في زمن الفوضى للقابضين على الجمر؛ أن يرعوا حقّ الله تعالى، وأن يحفظوا أنفسهم عن الحرام، وهي رسالةٌ لنا جميعاً أن يضع كلّ واحدٍ منّا تلك المساءلة نصب عينيه، عندما تسوّل له نفسه ويدعوه الشّيطان إلى الولوغ في الحرام.
2- أثر طيب المطعم في الحياة الكريمة
ليس هناك أجمل من حياةٍ كريمةٍ ؛عنوانها القناعة والعفّة والتّرفّع عمّا بين أيدي النّاس، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترفّع عن تمرةٍ ما عرف مصدرها؛ حتّى لا تعكّر عليه صفو حياته الّتي هي امتدادٌ للجنّة بكمال امتثاله لله تعالى وعبوديّته له؛ فلنحن أكثر حاجةً إلى أن نسعى جاهدين إلى الالتزام بالمطعم الطّيّب، حتّى نستخلص من وعثاء الحياة وغصصها حياةً كريمةً، كما عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم (مع أنها كانت كفافاً)، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ، قَالَ: (لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا). صحيح البخاريّ: 2431
جنّة الدّنيا هي الّتي يعيشها المؤمن بامتثال أوامر الله تعالى في حياته، محافظاً على توازنه في تحرّي لقمة الحلال، دون ورعٍ باردٍ، ولا تساهلٍ مفرطٍ، مستشعراً قول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
نعم، هي الّتي شعر بها سيّدنا الصّدّيق، حينما أخرج ما في بطنه؛ لئلّا يقع في ضنك العيش، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلاَمُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ". صحيح البخاريّ: 3842
هي عندما كنّ مربّيات الجيل الفاضلات يمسكن بثياب أزواجهنّ يستحلفنهم أن لا يُدخلوا عليهم حراماً، "كان الرّجل إذا خرج من منزله، تقول له امرأته: يا هذا، وتقول له ابنته: يا أبانا؛ لا تكسب اليوم شيئاً من غير حلّه فيدخلك النّار، فنكون نحن سببه، فإنّا نصبر على الجوع والضّرّ، ولا نكون عقوبةً لك". إحياء علوم الدّين، ج2، ص409
قل لي –بربّك- كيف يعيش هانئاً مستريح البال من يظلم النّاس في معاشهم؟! ومن يبخس العاملين أشياءهم وحقوقهم؟! ومن يتسلّط على رقاب الضّعفاء في أقواتهم؟!
يستحيل أن يجد طعم الحياة الكريمة، والأيّام دولٌ، وما أسرع تقلّبها.
فمن أرادها حياةً كريمةً يرتضيها له الباري سبحانه؛ فليبحث عنها وعن آثارها في طيب المطعم.
3- أطب مطعمك؛ تستجب دعوتك
إذا كان سيدنا سعدٌ رضي الله عنه وهو في زمن النّبوّة، وبين يدي الرّسول المجتبى والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو المبشَّر بالجنّة وصاحب الدّعوة المجابة؛ بحاجةٍ إلى دغدغة مشاعره الإيمانيّة، وإذكاء روح التّربية اليقينيّة، وتذكيره بطيب المطعم حتّى يحقق الله له دعوته؛ فنحن الآن في زمن الغربة وفرص الحرام المنتشرة، ونحن ذوو الحاجات المتعدّدة والمطالب الكثيرة، بأمسّ الحاجة إلى استذكار هذه المعاني،  
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُلِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّبَا فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ). المعجم الأوسط للطّبرانيّ: 6495
فيا أيّها الّذي ضاقت به الأرض بما رحبت، وضاق عليه الرّزق، وتشتّتت به سبل الحياة، وهو يرجو الباري سبحانه أن يهيّئ له فرجاً ومخرجاً؛ استجب لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَطِبْ مَطْعَمَكَ).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]،  ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟. صحيح مسلم: 1015
خاتمةٌ:
الحياة سريعة المرور والزّوال، ستنقضي مهما كانت صعبةً، فلا يستجرّنا شظف العيش وشدّة وعثاء الحياة أن نطلب الرّزق بمعصية الله تعالى، فما أدّى إلى حرامٍ فهو حرامٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، أَنَّهُ: سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ عَامَ الفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: (إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ، وَالمَيْتَةِ وَالخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ)، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ، فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: (لاَ، هُوَ حَرَامٌ)، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: (قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ). صحيح البخاريّ: 2236
هذه الحياة ستمضي، غير أنّ التّبعة ستبقى، وسيبقى وبالها في الدّنيا والآخرة، هي فرصةٌ أن نراجع الآن حساباتنا، واليوم نجد مالاً أو متاعاً لنعتق رقابنا من الحرام، أمّا في الآخرة فما من مالٍ نستطيع 
أن نوفّي به الحقوق، إن هي إلّا حسناتٌ وسيّئاتٌ، وتصفية حساباتنا اليوم أهون، أمّا بين يدي جبار السّموات والأرض فالموقف عصيبٌ والنّاقد بصيرٌ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ). مسند الإمام أحمد: 23625
 

http://shamkhotaba.org