مقدمة:
ينبغي للمؤمن أن يعلم ما لله عز وجل من حكمةٍ باهرةِ في تتابع الفصول والمواسم، وتعاقب اللّيالي والأيّام الحواسم، قال جل جلاله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
ولا بدّ لأهل الحجى من وقفاتٍ للعبرة ومراجعة الذّات، والتّفكّر فيما هو آتٍ، فكم من خطواتٍ قُطعتْ، وأوقاتٍ صُرفتْ، والإحساس بِمُضيّها قليلٌ، قال تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النّور:44].
وإنّ من نعم الله على عباده ورحمته بهم، أنْ نوّع لهم الفصول في العام الواحد، بين صيفٍ وشتاءٍ، وربيعٍ وخريفٍ، لتتمّ بذلك مصالحهم، ويستقيم معاشهم، ويستوي أمرهم، فلّله الحمد-سبحانه- على نعمه وإحسانه.
فجديرٌ بنا ونحن في بداية فصل الشّتاء أن نتأمّل ما فيه من عِبَرٍ وعظاتٍ، ونغتنم ما فيه من مواسم وطاعاتٍ، فيا لسعادة من استعدّ بالخيرات، وقدّم أمامه الأعمال الصّالحات، و يا لخسارة من فرّط في عمره، وضاعت عليه لحظات حياته، وقتل أوقاته فراحتْ هباءً منثوراً، فتحسّر وندم، وطلب الرّجعى فحِيلَ بينه وبين الاسترجاع، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99-100].
1- الشّتاء موسمُ الطّاعاتِ والقُرُبات
إنّ الشّتاء مرتعٌ خصبٌ للصّالحين، يتزلّفون فيه بشتّى الطّاعات، ويتقرّبون إلى ربّهم بمختلف القربات.
قال ابن رجب: "إنّما كان الشّتاء ربيع المؤمن لأنّه يرتع فيه في بساتين الطّاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزّه قلبه في رياض الأعمال الميسّر فيه، كما ترتع البهائم في المرعى الرّبيع فتسمن وتصلح أجسادها، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشّتاء بما يسّر الله فيه من الطّاعات".
فإنّ المؤمن يقدر في الشّتاء على صيام نهاره من غير مشقّةٍ ولا كلفةٍ تحصل له من جوعٍ ولا عطشٍ، فإنّ نهاره قصيرٌ باردٌ، فلا يحسّ فيه بمشقّة الصّيام، فالصّوم في الشّتاء غنيمةٌ عظيمةٌ لمن أراد أن ينال الرّبح الوفير، عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ الْجُمَحِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ).
ولقد أخذ السّلف الصّالح بهذه الوصيّة النّافعة، فكان لهم مع أيّام الشّتاء أحوالٌ عجيبةٌ ومآثرُ غريبةٌ، تستشفّ منها حرصهم على الخير ومسابقتهم إليه، حيث عرفوا كيف يوظّفون نهار أيّام الشّتاء ولياليها فيما يكون نجاحهم يوم حشرهم، ووقوفهم عند مليكهم، فهذا ابن مسعودٍ كان يقول إذا دخل الشّتاء: "مرحباً بالشّتاء، تنزل فيه البركة، أمّا ليله فطويلٌ للقائم، وأمّا نهاره فقصيرٌ للصّائم".
وإنْ تعجبْ من شيءٍ فليكنْ عجبك من حسرة سلفنا على فوات أيّام الشّتاء ولياليه، فلقد بكى معاذ بن جبل لمّا حضرته الوفاة، فقيل له ما يبكيك؟ قال: "إنمّا أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشّتاء، ومزاحمة العلماء بالركّب عند حلق الذِّكر".
يبكون على فوات الطّاعات لأنّ الموت حَالَ بينهم وبينها.
هذه الأيّام تنقضي من أعمارنا، والموفَّق من اغتنم المواسم، والمغبون من أضاع ساعات حياته.
مضى الدّهر والأيّام والذّنب حاصلٌ وجاء رسول الموت والقلب غافلُ
نعيمك في الدّنيا غرورٌ وحسرةٌ وعيشك في الدّنيا محالٌ وباطلُ
2- موعظةٌ وذكرى من فصل الشّتاء
بضعةُ أيّامٍ يُعيدُ الله ذكراها في أيّام الشّتاء من كلّ عامٍ لعقول المعتبرين، لتربطهم هذه الذّكرى باليوم الأوّل الّذي حاقت فيه غضبة الله بأمّةٍ كاملةٍ -قوم عاد- يوم أن طغت وبغت، وجعلت من نعم الله سلّم كبرياء وطغيان، فأوعظها الله فلم تتّعظ، وهدّدها فلم ترعوِ، فأنزل الله عليها البلاء السّاحق الماحق، حيث صوّره لنا ربّنا في كتابه، فقال عز وجل: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ *فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقّة: 6-8].
والرّيح الصّرصر: ريحٌ باردةٌ شديدة الهبوب، سلّطها الله عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيّامٍ متتابعةٍ، فترى القوم في تلك اللّيالي موتى، كأنّهم أصول نخلٍ خربةٍ متآكلة الأجواف، فهل ترى لهؤلاء القوم من نفسٍ باقيةٍ دون هلاكٍ؟
ثمّ لنقفْ أمام قوله: {سَخَّرَهَا} كما وقف العلماء الرّاسخون، لنعلم أنّ الرّياح والبرد كلّه مسخّرٌ بإرادة الله، وليس الأمر عائداً إلى نوءٍ ولا إلى كتلةٍ جليديّةٍ في الشّمال أو الجنوب.
يريد الله -ببالغ رحمته ولطفه- في أيّام الشّتاء أن يعيد من تلك الحالة الّتي أهلكت تلك الأمّة رائحةً يسيرةً منها، وأن يعيد إلى النّاس ذكرى بسيطةً لها لعلّهم يتذكّرون فيعتبرون، فلا يقعدون مقاعد الطّغيان الّتي قعدتها أممٌ من قبلهم، حتّى لا يقول قائلهم: منخفضٌ جوّيٌّ، ثمّ يقفون جميعاً عند ذلك، لا، بل من أجل أن يعلموا أنّها ذكرى عذابٍ أليمٍ أنزله الله بأمّةٍ ظلمت نفسها فطغت وبغت، فأهلكها الله عز وجل، ولقد حدّثنا ربّنا جل جلاله عمّا حلّ بتلك الأمم من العذاب الدّنيوي، ثمّ قال سبحانه: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُر} [القمر: 43].
تعبيرٌ واضحٌ أنّ ما نزل بالأمم من قبلنا وشيكٌ أن ينزل بنا إن أعرضنا كما أعرضوا، قال تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81].
ألا إنّ برد الشّتاء ليذكّرنا –أيضاً- بزمهرير جهنّم ولفحات لظى، عَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ).
فحريٌّ بكلّ من لسع البرد جسمه أن يتذّكر أنّ شدّة البرد هذه من آثار نَفَسٍ من أنفاس جهنّم.
3- الشّتاء يذكّر بالضّعفاء والفقراء
كثيرٌ من المسلمين اليوم يتقلّبون في نِعمٍ عظيمةٍ قد لا يشعرون بها، حينما يأتي فصل الشّتاء لا يجدون في ذلك معاناةً أو ضرراً، فالملابس بأنواعها، ووسائل التّدفئة متوفّرةٌ، وبيوتٌ إسمنتيّةٌ تقيهم البرد، وهذا يستوجب الحمد، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل عَلَيْهَا إِلَّا كَانَ ذَلِكَ الْحَمْدُ أَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَإِنْ عَظُمَتْ).
واجبٌ علينا أن نتذكّر -ونحن نعيش مطمئنّين في بيوتنا وبين أهلينا- إخواننا المستضعفين من حولنا، ممّن اكتووا بنار الفقر، وأن نتساءل ماذا قدّمنا لهم من عونٍ ومساعدةٍ؟ إنّهم إخواننا الّذين شرّدتهم القوى المجرمة، فخرجوا بلباسهم مصطحبين نساءهم وأطفالهم إلى مخيّماتٍ لا تقيهم الهواء ولا الصّقيع، فيا ترى ما هو حالهم وقد ضاقت عليهم الحيلة؟ وما عسى أن سيكون حال نسائهم وأطفالهم في أيّام البرد القارس، مع شحّ الطّعام وارتفاع الأسعار وانعدام وسائل التّدفئة؟! حقّاً إنّ البلاء عظيمٌ، اجتمع عليهم ثالوث الخطر، الخوف والقتل، الجوع والمسغبة، البرد وشدّته، فوجب علينا الوقوف بجانبهم لنعينهم بما نستطيع، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ.
فينبغي ألّا تنسينا نِعَم الله علينا واجبنا تجاه إخواننا، لأنّنا جميعاً كجسدٍ واحدٍ كما ذكر نبيّنا، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).
ومن كان له فضل زادٍ وكسوةٍ فليعدْ بها على من لا فضل له، ولنتراحمْ فيما بيننا، ولنجعلْ من الأشعريّين قدوةً لنا في حبّنا لبعضنا، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ).
وإنّ المؤمن لَينافسُ غيره في مثل هذه المواسم من الخير والرّبح الوفير، لأنّه يعلم أنّ الله الّذي أعطانا قادرٌ على أن يبدّل رخاءنا ضرّاً، وأمننا خوفاً، قال عز وجل: {فلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
ختاماً:
حقّاً إنّ من أعظم آيات الله جل جلاله الّتي تستحقّ التّأمل والتّفكر، فصل الشّتاء، وما يحصل فيه من مطرٍ ورعدٍ وبرقٍ وصواعقَ، قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 12-13].
فالرّعد والبرق والصّواعق، كلّ ذلك يدلّ على قدرة الله وعظمته، ويوجب الإقرار بوحدانيّته.
فلتكنْ رياح الشّتاء مذكّرةً لنا بتلك الرّيح الّتي حاقت بأممٍ طغتْ وبغتْ ممّن كان قبلنا، ولنتذكر بها زمهرير جهنّم وعذاب السّموم، ولنجعلْ من صدقاتنا -على من هم بأمسّ الحاجة إلى مدّ يد العون والمساعدة في أيام الشّتاء- وقايةً لنا من النّار، فإنّ الصّدقة جُنّةٌ من النّار، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَلاَ يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ).
ولنغتنمْ نهار الشّتاء بالصّيام ولياليه بالقيام، فإنّ الصّيام والقيام من أعظم الأعمال الّتي تنفع صاحبها يوم لقاء ربّه.
http://shamkhotaba.org