مقدمة:
اشتداد ضراوة الكفر وعداوته للإسلام:في العقود الأخيرة كشّر الكفرة عن أنيابهم، وسنّوا سيوفهم لنحر الإسلام وأهله، فأكثر من نصف مليون قتيل في البوسنة والهرسك في أوائل العقد الثاني من القرن الخامس عشر، ثم بعد ذلك بثلاث سنوات، عشرات الآلاف من القتلى في كوسوفا، وبعدها بسنتين، آلاف في أندونيسيا، وقل مثل ذلك في أرض فلسطين، ولا زالت أنهار من دماء المسلمين تروي هذه الأرض. فالصراع بين الحق والباطل هو سبب هذا الوجود.
* قال الله جل وعلا: (تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:1، 2].
عناصر الخطبة:
1- ضرورة تربية الأمة على المثل والأخلاق العالية وفي مقدمتها الشجاعة:
إن من أهم المعاني التي يجب على المسلمين الأخذ بها وتربية النفس عليها، تلك المعاني التي تبعث في النفس التضحية، والاستعلاء عن الشهوات، وحب الموت والشهادة في سبيل الله، والتطلع إلى معالي الأمور، والتنزه عن سفاسفها، والزهد في الدنيا،ومن أهم الأخلاق التي ينبغي على الأمة المسلمة التحلي بها، خلق كريم، نبيل الطبع، لا يتصف به إلا السادة، ويرغب عنه العبيد،هذا الخلق هو الشجاعة.
2- الشجاعة ومجالاتها:
قال الطرطوشي: اعلم أن كل كريهة ترفع أو مكرمة تكتسب لا تتحقق إلا بالشجاعة. ورؤوس الأخلاق الحسنة أربعة ـ تحمل على غيرها بقية محاسن الأخلاق ـ وهي:
* الصبر: فإنه يحمل على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى.
* العفة: وهي تجنب الرذائل والقبائح.
* الشجاعة: وهي صفة تحمل على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق.
* العدل: فإنه يحمل على الاعتدال والتوسط.
3- صور من شجاعة المسلمين:
لا يظن ظان أن الشجاعة تقتصر على القتال والنزال، بل إنها تمتد لتشمل قول كلمة الحق، والخطابة على المنابر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
* قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة:159، 160]،
فهذا تربية لشجاعة الرأي،
* عن جابر رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) (1)
*أنكر الأوزاعي على عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، فيما قتل من المسلمين في دمشق وما فعل بهم، واشتد عليه في الإنكار، وسيوف حجاب الأمير حول الأوزاعي تقطر حوله دماً، حتى قال بعض الوزراء: كنت أجمع ثيابي خوفاً من دم الأوزاعي، فما هاب وما خاف.
4- خسة الجبن والتحذير منه:
الجبن مرض خسيس، يورث المهالك، ويقعد بصحابه عن معالي الأمور، ويرضيه بالأدنى، ويجعله قرين الذل، ورفيق الهوان، وهو دليل على ضعف القلب، وانطوائه على أمر يخاف الإنسان من إظهاره.
* حكى الله عن المنافقين فقال: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) [المنافقون:4].
* عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع)(2)
*عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَال) (3)
5- صور من شجاعة الأنبياء وشجاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه:
إن عمل الأنبياء ومن سار على طريقهم، ومن حمل لواءهم إلى يوم الدين، من دعوة الخلق، ونشر الإسلام، والجهاد في سبيل الله بجميع أنواع الجهاد، بالسنان، واللسان، لا يقوم به إلا من أوتي أوفر الحظ من الشجاعة والإقدام، لأن هذه الأعمال لا تتم إلا بمواجهة حاسمة بين النبي أو الداعية إلى الله وبين أمته، قال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً)]الأحزاب:39].
نوح عليه السلام كان يواجه كل قومه قائلاً: (ياقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ) [يونس:72]، والتفت إلى ما قاله هود عليه السلام لقومه:(قَالَ إِنِى أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ) [هود:54، 55].
صور من شجاعة نبينا نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه:
أما نبينا فهو أكمل الخلق، خلقاً، وعلماً، وعملاً، وهو أشجعهم.
في الصحيحين عن أنس قال: (كان النبي أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس) انظر صحيح الجامع (4634).
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ـ وهو من أبطال الأمة وشجعانها ـ قال: (إنا كنا إذا اشتد بنا البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله ، وهو أقربنا إلى العدو) رواه أحمد والطبراني والنسائي.
كان صلوات الله عليه ينام في بيت واحد ويُطوق بخمسين مقاتل ويخرج عليهم حاثياً عليهم التراب، ينام في الغار ويقول لأبي بكر الصديق : (لا تحزن إن الله معنا).
6- الأسباب المعينة على اكتساب الشجاعة:
لا يظن ظان أن الشجاعة أمر فطري، لا سبيل إلى اكتسابه، بل إن الأخلاق كلها يمكن أن تكتسب، وإلا لما رتب الله عليها ثواباً ولا عقاباً، فقد روى أبو هريرة وأبو الدرداء رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه) (4)
وهاهنا نذكر بعض الأسباب التي تعين على اكتساب الشجاعة وتنميتها:
أولاً:ترسيخ عقيدة القضاء والقدر، وإدراك أن الإنسان لا يصيبه إلا ما كتب الله له، (وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، ومن علم ما قاله الله جل وعلا: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً) [آل عمران:145]،
ثانياً: التوكل الصادق على الله جل وعلا، كحال هود عليه السلام حينما واجه قومه كلهم، بدعوتهم إلى عباد الله سبحانه وتعالى، ومعرفته أنهم سيكذبوه، فإذا به يقول: (إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [هود:56].
ثالثاً: الاقتناع بأن معظم مثيرات الجبن والخوف لا تعدو كونها أوهاماً لا حقيقة لها، فمن عرف حقيقة الخلق لم يخش إلا الله، وما تخافه من دون الله إنما هم أولياء الشيطان كما قال تعالى: (إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:175]،
رابعاً: الكرم والإنفاق حيث يحميك من صفة البخل والخوف على الرزق، ويكسبك صفة الجود والكرم التي غالباً ما تلازم الشجاعة وتعين عليها، وهي سبب من أسبابها، كما قال الشاعر:
الجود بالمال جود فيه مكرمة …والجود بالنفس أقصى غاية الجود
خامساً: الإعداد والتدريب العملي: كأنواع القتال والسلاح والرماية والسبق والرياضة والسباحة، وغيرها وهي جزء أصيل من منهج الإسلام في إعداد الرجال وإخراج الوهن والخوف من قلوبهم، قال الشاعر:
الرمي أفضل ما أوصى الرسول له …وأشجع الناس من بالرمي يفتخر
سادساً: القدوة الحسنة والتمثل بالنبي عليه الصلاة والسلام في شجاعته، وقد بعث قدوة للناس في كل شيء، وكان أسرعهم إلى مكامن الخطر وصوت المنذر، وكان الصحابة يحتمون برسول الله إذا حمي الوطيس والتقى الشجعان.
سابعاً: قيام الليل وصف الأقدام بين يدي الكبير المتعال في جوف الليل البهيم، فإن شجرة الشجاعة تسقى بدموع السَّحر، وإذا طال التهجد أينعت ثمرته جهاداً وبطولة، قال ابن القيم رحمه الله:
في الليل رهبان وعند جهادهم …لعدوهم من أشجع الشجعان
-------------------------
(1) تخريج السيوطي كتاب: الضياء، تحقيق الألباني (حسن) انظر حديث رقم (3675) في صحيح الجامع.
(2) سنن أبي داود تخريج السيوطي (تخ د) . تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم (3709) في صحيح الجامع.
(3) تخريج السيوطي (حم ق3) . تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم (1289) في صحيح الجامع.
(4) الدارقطني في الأفراد- انظر حديث رقم (2328) في صحيح الجامع.