غزوة مؤتة: ذكرى ودروس
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 6 يناير 2021 م
عدد الزيارات : 1665
مقدمة:
إنّ قراءة الحوادث والإلمام بالتّواريخ والاطّلاع على مصير الأمم لَيقود إلى التّفكّر والاعتبار، لأنّ العبد يرى فيما يقرأ أشخاصاً تملّكوا ثمّ مُلِكوا، وأممًا عزّت ثمّ ذلّت، ودولاً أقبلت ثمّ أدبرت، ولا يبقى إلّا وجه ربّك ذو الجلال والإكرام، قال سبحانه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16].
تحتاج أمّتنا الإسلاميّة في حال ضعفها وهوانها، وتسلّط أعدائها، وعجز أبنائها، بين الحين والآخر، إلى الموعظة والتّذكير، من أجل إيقاظها وإحيائها، ومراجعة حساباتها، والرّجوع إلى ربّها، والاستمساك بدينها، فهي أمّةٌ لا تحيا إلّا بالإسلام، فإذا أعرضت عنه عاشت في الدّنيّة والدّون، وممّا يسهم في إحيائها ويعين على نهوضها: مدارسة تاريخها، والتّذكير بأمجادها وأيّامها، والوقوف على سِيَر أبطالها ورجالاتها، لا اكتفاءً بذكر الأمجاد السّالفة، ولا تغنّيًا بالأيّام الخوالي، ولكنّه وقوف تأمّلٍ وتدبّرٍ، يقود إلى المتابعة والاقتفاء، والسّعي الجادّ إلى الصّلاح والإصلاح، حتّى تنهض أمّة الإسلام، ويقوى أبناؤها، فتكون شريعة الله حاكمةً بين العباد.
وممّا سجّل التّاريخ لنا من دروسٍ عظيمةٍ في هذا الشّهر الّذي نعيش أيّامه -شهر جمادى الأولى- يوافينا بها كلّ عامٍ، من مواقف مَن أبلى بلاءً حسناً في غزوة مؤتة، والّتي سمّيت (غزوةً)مع أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يشهدها، وما ذاك إلّا لعظمتها وشهرتها، وحسن بلاء المسلمين فيها.
1- صولة الأسود وقتال الأبطال
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابٍ إلى ملك بصرى، مع الحارث بن عميرٍ الأزديّ، فعرض له شرحبيل بن عمروٍ الغسّانيّ فقتله صبراً –وكانت الرّسل لا تُقتل- فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهّز جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتلٍ، وأمّر عليهم ثلاثةً من القادة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ). صحيح البخاريّ: 4261
وكان يودّع أصحابه ويوصيهم عند خروجهم للقتال، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (اغْزُوا بِسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا). مسند أحمد: 23030
وسار المسلمون حتّى وصلوا إلى معان، وهناك بلغهم أنّ الرّوم جمعوا لهم مائتي ألفٍ، فمكثوا في معان يتشاورون، فشجّعهم عبد الله بن رواحة قائلًا: "يا قوم: إنّ الّتي تكرهون للّتي خرجتم تطلبون الشّهادة، وما نقاتل النّاس بعددٍ ولا قوّةٍ، وما نقاتلهم إلّا بهذا الدّين الّذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنّما هي إحدى الحسنين: إمّا ظهورٌ، وإمّا شهادةٌ". المعجم الكبير للطّبرانيّ: 428
فالتقى المسلمون والرّوم عند مؤتة فقاتلوا حتّى استشهد الأمراء الثّلاثة، وهنا يُطلِع الله رسوله بالأمر، فيخبر أصحابه بما يحدث في أرض المعركة وكأنّها رأي العين:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَيْشًا، اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ (فَإِنْ قُتِلَ زَيْدٌ -أَوِ اسْتُشْهِدَ- فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرٌ، فَإِنْ قُتِلَ -أَوِ اسْتُشْهِدَ- فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ) فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَتَى خَبَرُهُمِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: (إِنَّ إِخْوَانَكُمْ لَقُوا الْعَدُوَّ، وَإِنَّ زَيْدًا أَخَذَ الرَّايَةَ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ - أَوِ اسْتُشْهِدَ - ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ بَعْدَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ -أَوِ اسْتُشْهِدَ-، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ -أَوِ اسْتُشْهِدَ- ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ) فَأَمْهَلَ، ثُمَّ أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ -ثَلاثًا- أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ: (لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ ادْعُوا إلِي ابْنَيِ أخِي) قَالَ: فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ، فَقَالَ: ادْعُوا إِلَيَّ الْحَلاقَ، فَجِيءَ بِالْحَلاقِ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا مُحَمَّدٌ فَشَبِيهُ عَمِّنَا أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَشَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي) ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَشَالَهَا، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ، وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللَّهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ)، قَالَهَا ثَلاثَ مِرَارٍ، قَالَ: فَجَاءَتِ أمُّنَا فَذَكَرَتْ لَهُ يُتْمَنَا، وَجَعَلَتْ تُفْرِحُ لَهُ، فَقَالَ: (الْعَيْلَةَ تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ). مسند أحمد: 1750
لقد بيّنت غزوة مؤتة القوّة والبسالة الّتي كان يتحلّى بها المسلمون الأوائل، والّتي يجب أن يتّصف بها المسلمون في كلّ وقتٍ -لا سيّما في أوقاتنا العصيبة أوقات الضّعف والهوان- فقد ضرب السّلف الصّالح أروع الأمثلة في التّضحية والبذل، حيث صمد ثلاثة آلاف مقاتلٍ، مقابل مائتي ألفٍ من الرّوم ومن معهم، صموداً أسطوريّاً، ولقنوا الرّوم درساً قاسياً لن ينسى أبداً.
فهل تحيا في الأمّة اليوم هذه البسالة من جديدٍ؟! وهل نستخلص من غزوة مؤتة -خاصًةً- ومن تاريخ المسلمين الجهاديّ -عامّةً- دروساً تزرع التَضحية والفداء في قلوب أبنائها اليوم؟ حتّى يعود للأمّة سابق مجدها، وسالف عزّها!
2- معرفة قدْر الرجال
درسٌ عظيمٌ يتركه لنا الصّحابيّ الجليل ثابت بن أقرم رضي الله عنه لمّا رفض القيادة -وقد عُرضت عليه- يرشدنا فيه إلى معرفة قدْر الرّجال وإنزالهم منازلهم الّتي يستحقّونها، حتّى لا نكلّف أمّتنا أن تحمل عجزنا وأثَرَتنا، فثابتٌ لم يأبَ القيادة هروباً من المنيّة، ولا خوفاً من العدوّ، ولكنّه أحسّ بوجود من هو أكفأ منه، كيف؟ وقد حمل الرّاية خشية أن تسقط، وصاح في المسلمين ليعيّنوا قائداً، والحرب تدور رحاها، إنّ ذلك لَمِن آيات الشّجاعة والجرأة في هذا الموقف العصيب، وكم هو جميلٌ أن يصيح النّاس به ليكون قائدهم فيأبى استصغاراً لنفسه، وهو يرى وجود من هو أولى بالقيادة منه، فهل فقهنا هذا الأمر جيّداً في معرفة قدر نفوسنا، لننزل النّاس منازلهم، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ). سنن أبي داود: 4842
وإنّ من الأمور الدّقيقة في كلّ وقتٍ -لا سيّما في وقتنا الرّاهن العصيب- الّتي يجب الانتباه إليها: تعيين الكفء في المكان المناسب له، بعيداً عن هوى النّفس وشهواتها، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وخانَ رَسُولَهُ وخانَ الْمُؤْمِنِينَ). المستدرك على الصحيحين للحاكم: 7023
درسٌ عظيمٌ نتعّلمه من الصّحابة في غزوة مؤتة، حيث لم يدعوا الرّاية لتسقط بعد موت القادة، بل أحسّ كلّ واحدٍ من أفراد الجيش أنّ الرّاية لو سقطت سيكون هو المسؤول عنها دون غيره.
فإنّ الشّعور بالمسؤوليّة كمْ وكمْ افتقدناه اليوم، عندما ألقى كلّ واحدٍ منّا اللّائمة على غيره، وتنصّل من المسؤولية، في حين أنّ كلّ مسلمٍ في الأرض مسؤولٌ عن الأمّة  بحسب استطاعته، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ..)، قَالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلاَءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ، وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ). صحيح البخاريّ: 2409
لكنّ الّذي يبشّر بالخير: أنّ هذه الأمّة أمّةٌ حيّةٌ ولودٌ، إذا ذهب قائدٌ من قادتها ظهر بعده من يرفع الرّاية، فلقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء أبو بكرٍ، ومات وجاء عمر وعثمان وعليّ والحسن والحسين ومعاوية وغيرهم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال جل جلاله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ إِنِّي لَأُحَدِّثُكَ بِالْحَدِيثِ الْيَوْمَ لِيَنْفَعَكَ اللَّهُ بِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ، اعْلَمْ أَنَّ (خَيْرَ عِبَادِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَمَّادُونَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَنْ تَزَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوا الدَّجَّالَ..). مسند أحمد: 19895
3- حكمةٌ وعبقريّةٌ
استشهد القادة الثّلاثة الّذين عيّنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضطرب المسلمون وينهاروا، بل اجتهدوا في أرض المعركة اجتهاداً له دلالته لكلّ قيادةٍ في كلّ زمانٍ ومكانٍ، لاسيّما في زمننا الّذي تغيرت فيه القيم، وتنكّست فيه المفاهيم، فاصطلح النّاس على خالد بن الوليد فتح الباري لابن حجر: 7/584، ولم يمض على إسلام خالدٍ وقتها سوى ثلاثة أشهرٍ، وخالدٌ لها؛ شجاعةً وإقداماً وخبرةً بأمور الحرب وسياستها، وهنا وقفةٌ هامّةٌ تعلّم كلّ جماعات القيادات: أنّ الكفاءة هي المعيار الأوّل والأهمّ، خاصّةً في الصّراع والمعارك، وإنّ ما فعله الصّحابي مع خالد فعلٌ مستساغٍ الآن في الجماعات المتفرّقة إلّا ما رحم ربّنا، فأخذ الرّاية وقاتل قتالاً مريراً حتّى تكسّرت في يده تسعة أسيافٍ من شدّة القتال، لا شلّت يمينه، فقد قال: "لَقَدِ انْقَطَعَتْ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ فَمَا بَقِيَ فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ" صحيح البخاري: 4265، ثمّ قرّر بالانسحاب التّكتيكيّ لأنّه أيقن -بحسابات رجل الخبرة العسكريّ- أنّ الأمر يحتاج وقفةً وهدنةً وحيلةً للخلوص بالجيش من هذا المأزق المتضايق، وقتال الانسحاب شاقٌ ومرهقٌ، لا سيّما وخالدٌ لا يريد أن يشعر الرّوم بالحفاظ على الجيش وسحبه، ولمّا دخل اللّيل وتوقّف القتال، أعاد خالدٌ تنظيم قوّاته القليلة، فجعل مقدّمته ساقته، وساقته مقدّمته، وميمنته ميسرته، وميسرته ميمنته، فأنكر الأعداء ما كانوا يعرفون من راياتٍ وهيئاتٍ للمسلمين، وقالوا : "قد جاءهم مددٌ، فرعبوا" البداية والنهاية: 4/247، حيث خُدعوا بذلك، والحرب خدعةٌ كما سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سَمِعَ عَمْرٌو جَابِرًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الْحَرْبُ خَدْعَةٌ). صحيح مسلم: 1739
وكان هدف خالدٍ بهذه العبقريّة الفذّة مناوشتهم  وإلحاق الخسائر بهم،ثمّ آثر الانصراف بمن معه بطريقةٍ منظّمةٍ، ولك أن تتأمّل كيف أنّ هذه الحكمة من خالدٍ وذكائه باتّخاذ قرار الانسحاب قلّلت الخسائر عند المسلمين، رغم ضراوة المعركة وقسوتها، فلم يستشهد منهم سوى اثني عشر رجلاً، في حين أنّ عدد من قُتل من الرّوم لا يُحصى، وذلك ممّا يغيب عن كثيرٍ من قاداتنا اليوم، بأنّ الفئة المؤمنة القليلة بثباتها على دينها  وتوكّلها على ربّها؛ ينصرها الله تعالى على عدوّه، مهما بلغ عدده، وصدق ربّي إذ قال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
خاتمةٌ:
كانت غزوة مؤتة مليئةً بالدّروس، حافلةً بالبطولات، تعطي البرهان على أنّ الإيمان إذا استقرّ في القلوب، قاد النّفوس إلى استقبال المنايا وتمنّي الموت ابتغاء رضوان الله، ولقد تجلّى لنا بوضوحٍ:  أنّ النّصر بيد الله وحده، رغم أهمّيّة العدد والعدّة، ولكنّ الأساس هو الإيمان بنصر الله، والتّوكّل عليه، بغضّ النّظر عن التّجهيزات المادّيّة، ولقد أشارت هذه الغزوة إلى أنّ الأمّة الإسلاميّة أمّةٌ ولّادةٌ حيّةٌ، كتب الله عليها أنّها لا تموت إلى قيام السّاعة، فكلّما مات قائدٌ خرج قائدٌ غيره ليتابع مسيرة من سبقه، بل إن كلّ فردٍ من أبناء المسلمين يحمل همّ الأمّة كلّها ومسؤولٌ عنها لكيلا يتخلّف النّصر بسببه، ولنا في عدم خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في هذه الغزوة أكبر الدّروس الّتي تعلّمنا أنّ علاقة المسلمين يجب أن تبقى مع الله قويّةً، لا أنّ يتعلق المسلمون بغيره من البشر، وهكذا وثّق رسول الله صلى الله عليه وسلم علاقة الصّحابة ومن بعدهم بربّهم، وما على المسلمين اليوم إلّا أن يقتدوا بمن سبقهم من الرّجال الأفذاذ في التّضحية والشجاعة، وأن يسيروا على خطاهم، لا أن نكتفي بالشّعارات الزّائفة ولا بالحماس المتأجّج ولا بالدّفاع المتهوّر، بل إنّما بمجاهدة النّفوس قبل مجاهدة الأعداء، وعودتنا إلى كتاب ربّنا وسنّة نبينا، وحينها سيكرمنا الله بالنّصر والعزّة والتّمكين في الأرض -رغم قلّة العدد والعدّة- كما أكرم الله به المسلمين في غزوة مؤتة، وكان عدد العدوّ يفوق عدد المسلمين بسبعين ضِعفٍ.
 

http://shamkhotaba.org