مقدمة:
أشرف ما تُقضى فيه الأعمار، وتُبذل فيه الأموال، وتُستفرَغ فيه الجهود والأوقات: طلب العلم، لا سيّما علوم الشّريعة الإسلاميّة، وفضل طلب العلم لا يخفى على أحدٍ، وكفى بالعلم شرفًا أنّ الله تسمَّى بالعليم، واتّصف بالعلم في كتابه، فقال تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76].
وكانت الرّسالة الأولى من الله تعالى للإنسان في القرآن الكريم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1].
ولم يكن من المبالغة أن الدّنيا لا قيمة لها -في نظر الإسلام- بدون العلم، بل وملعونةٌ بما فيها، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضَمْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ).
وبناءً عليه: فالحياة بدون العلم مستحيلةٌ، واختفاء العلم يؤذِن بقرب قيام السّاعة، كما حذَّر من ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: (إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يُرْفَعَ العِلْمُ وَيَثْبُتَ الجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا).
وعلّق النّبيّ صلى الله عليه وسلم الخيريَّة على طلب العلم والفقه في الدِّين، فقال: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ).
وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ).
1- فضيلة طلب العلم
العلم طريقٌ إلى الجنة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ).
وطالب العلم يدْعو له من في السّموات ومن في الأرض: عَنْ قَيْسِ بْنِ كَثِيرٍ، قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ بِدِمَشْقَ، فَقَالَ: مَا أَقْدَمَكَ، أَيْ أَخِي؟ قَالَ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَمَا قَدِمْتَ لِحَاجَةٍ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: مَا قَدِمْتَ إِلَّا فِي طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرِثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ، أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ).
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ).
طريق العلم طريق جهادٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا، لَمْ يَأْتِهِ إِلَّا لِخَيْرٍ يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ جَاءَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غَيْرِهِ).
وقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: "مَنْ رَأَى الْغُدُوَّ وَالرَّوَاحَ إِلَى الْعِلْمِ لَيْسَ بِجِهَادٍ فَقَدْ نَقَصَ عَقْلُهُ وَرَأْيُهُ".
2- عظيم مكانة العلماء ووجوب توقيرهم
للعلماء مكانةٌ في الدِّين لا تُنكَر، وفضلٌ كبيرٌ لا يكاد يُحصر، فقد جاءتْ نصوصُ الشّرع متوافرةً متعاضدةً تعزِّز من مكانتهم، وتبيِّن فضْلَهم، فهم من شهود الله على أعظم مشهودٍ به، وهو توحيد الله عز وجل، كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
قال الإمام القرطبيّ: "في هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَشَرَفِ الْعُلَمَاءِ وَفَضْلِهِمْ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَشْرَفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَقَرَنَهُمُ اللَّهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ مَلَائِكَتِهِ كَمَا قَرَنَ اسْمَ الْعُلَمَاءِ".
ويكفيهم شرفًا أنّ الله تعالى رَفَعَ شأنَهم، فجعلهم أهلَ خشيته من بين خلقه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وأبى -سبحانه- التسويةَ بينهم وبين الجهلة بشريعته {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزُّمر: 9].
ورفَعَهم الله تعالى درجاتٍ؛ فقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
وأوجب طاعتهم؛ فقال جلّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النّساء: 59].
وورد في السّنّة النبويّة -عن مكانة العلماء- عددٌ من النّصوص المذكِّرة بفضل العلماء وعلوِّ درجتهم ووجوب تعظيمهم وتوقيرهم، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا).
وتوقير العلم والعلماء من إجلال الله تعالى وتعظيمِ شريعته وامتثالِ أمره، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ).
وإنما جاء الشّرع بهذا التّوقيرِ والتّعظيم للعلماء لما فيه من مصالحَ عظيمةٍ؛ فإنّ توقير العلماء أدعى إلى توقير علمِهم الّذي يحملونه، وأقربُ إلى أن يحرصوا على بذْله للنّاس، فإن التّوقير والأدب والتّلطّف، يُستدرّ به العطف والودّ، كما أن في ازدرائهم وإهانتهم خطراً على المجتمع؛ بكتمانهم العلم، أو عجزهم عن إبلاغه، أو استهانة النّاس بهذا العلم الّذي يحملونه.
3- مصاب الأمّة بفقد العلماء
إنّ فقد العالم ليس فقداً لشخصه ولا لصورته، وليس فقداً للحمه ودمه، ولكنه َفقْدٌ لجزءٍ من ميراث النّبوّة؛ وهو العلم، وذلك مؤذنٌ بقرب السّاعة وفشوِّ الضّلالة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا).
فالعلماء ورثة الأنبياء، وجودهم خيرٌ عظيمٌ، وفقدهم مصابٌ جسيمٌ، فهم نوّابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدّعوة إلى الله، وهم الملاذ لبيان مراد الله من دينه، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النّحل: 43].
وَحُقّ للأمّة أن تحزن لموتهم، وتأسى لفراقهم، لأنّ ذلك ثُلمةً في جدار المسلمين، وشرخاً في بنائهم الحصين، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41].
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "ذَهَابُ عُلَمَائِهَا، وَفُقَهَائِهَا، وَخِيَارِ أَهْلِهَا".
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: شَهِدْتُ جَنَازَةَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَلَمَّا دُلِّي فِي قَبْرِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: "يَا هَؤُلَاءِ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَعْلَمَ كَيْفَ ذَهَابُ الْعِلْمِ فَهَكَذَا ذَهَابُ الْعِلْمِ، وَايْمُ اللهِ لَقَدْ ذَهَبَ الْيَوْمَ عِلْمٌ كَثِيرٌ".
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: "مَا لِي أَرَى عُلَمَاءَكُمْ يَذْهَبُونَ وَجُهَّالَكُمْ لَا يَتَعَلَّمُونَ؟ تعلَّموا قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، فَإِنَّ رَفْعَ الْعِلْمِ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ".
الأرضُ تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت عالمٌ يمت طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيثُ حلَّ بها وإن أبى عاد في أكنافها التلفُ
خاتمةٌ:
في الآونة الأخيرة فقدنا ثلّةً من العلماء والمصلحين، وكلٌّ منهم ترك في ديننا ثلمةً، ولا زلنا نفقد من علماء الأمّة ودعاتها، وإنّ الأمّة اليوم إذا فقدت خيارها وعلماءها صارت كالجسد بلا روحٍ، وكالمركب بلا شراعٍ، فأمّةٌ بلا علماء كجيشٍ بلا قائدٍ ومقاتلين بلا سلاحٍ، ففضل العلماء الرّبّانيّين على سائر العباد عظيمٌ، وخيرهم عميمٌ، وبركاتهم كثيرةٌ.
إنّ موت العلماء رزيّةُ على الأمّة بأسرها، وموتهم حثٌّ لنا على طلب العلم ومواصلة الدّرب في طلب العلم؛ حتّى نسدّ الثّغرة الّتي كانوا يسدّونها، وحتّى يوجد في الأمّة من يقوم مقامهم ويغطّي الفراغ الّذي تركوه، وإذا كان لكلّ واحدٍ منّا عددٌ من الأبناء فهل فكّر أن يجعل أحدهم عالماً يخدم الدِّين ويتفرّغ لطلب العلم؟!
فما أعظم فضيلة العلم، وما أكرم العلماء العاملين! حتّى رفع الله شأنهم في الدّنيا والآخرة، وما أكثر تقصيرنا في طلب العلم ومجالسة العلماء والأخذ عنهم!
http://shamkhotaba.org