مقدمة:
سنواتٌ قاسياتٌ مرّت على شعبنا منذ انطلاقة الثّورة السّوريّة المباركة؛ الّتي لم يرَ التّاريخ لها مثيلاً، سنواتٌ من القتل والدّمار والتّهجير مِن قِبَل عصاباتٍ باطنيّةٍ؛ لم ير التّاريخ لها مثيلاً في الإجرام، سنواتٌ من الصّبر والثّبات والجهاد والتّضحية مِن قِبَل شعبٍ أعزلٍ مكلومٍ.
لقد حرّكت هذه الثّورة قلوب العالمين وأذهلت عقولهم، فما بال قلوب قومٍ هم من أبناء جلدتنا ويتكلّمون بألسنتنا ويزعمون أنّهم على ملّتنا! ثمّ هم لا يشعرون ولا على قومهم يحزنون!
وقد قرّر الله أن المؤمنين إخوةٌ، فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَرَى المُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى).
فآخَتْ شريعتنا بين المسلمين برابطة الإيمان، وسمّتهم (إخوةً) لتبيّن عِظَمَ الحقِّ بينهم، إذْ لا يُتصوّر أن يتخلّى الأخ عن أخيه، لذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يذّكر بكثيرٍ من الحقوق من خلال ذِكر هذا الوصف، مِن ذلك: ما رواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ).
فجعل المؤمنين أسرةً واحدةً؛ لتوضيح مدى التّكافل الّذي ينبغي أن يسود بينهم.
1- نصرة المسلم للمسلم واجبةٌ
إنّ نصرة المسلم لأخيه المسلم من الشّعائر العظيمة الّتي جاء بها هذا الدِّين، ونصرة المسلمين للمسلمين على مستوى الأمّة -بأسرها- واجبٌ دينيٌّ وفريضةٌ إسلاميّةٌ، وقد قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [سورة الأنفال: 72].
وإذا كان النّاس في الجاهليّة يتناصرون فيما بينهم من أجل دينٍ باطلٍ أو دنيا زائفةٍ، فإن المؤمنين يتناصرون فيما بينهم بأعظم رابطةٍ، ألا وهي الإيمان بالله وحده، قال تعالى: {وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التّوبة: 71].
فالإيمان يثمر الولاء الّذي يقتضي المحبّة والنّصرة، حتّى يصبح المؤمنون كالبنيان، كما وصف ذلك الحال نبيّنا صلى الله عليه وسلم، فقال: (المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
ومن هنا فقد أكّد النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّصرة للمسلم، من كلّ وجهٍ، وبكلّ سبيلٍ، وذلك عندما قال: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا) فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: (تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ).
وتتأكد النّصرة للمسلمين إذا كانت من أجل الدِّين وردِّ الفتنة عنهم، كما قال تعالى: {وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72].
والمسلمُ يُقاسِمُ أخاه الهُمومَ والمكارِه، ويُشارِكه محنَته وبليَّته، ويعيشُ معه مُصابَه، لا يخونُه ولا يُسلِمه، ولا يتركُه ولا يخذُله؛ بل يحُوطه ويَنصُره ويعضِدُه؛ عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبَي طَلْحَةَ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولَانِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنَ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنَ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ).
2- الوحدة وعدم الفرقة سبيل النّصر والتّمكين
قال الله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ} [الأنفال: 46].
إنّ تنمية الوعي بأهمّيّة وحدة المسـلمين -كما يأمر بها الإسلام- هي النّقطة الأساس الأولى في سبيل التّغلّب على الواقع المؤلم الّذي أوجده هذا التفرّق، وأفرزته حظوظ النّفس والهوى.
وإنّ أهم خصائص هذه الأمّة أنّها أمّةٌ واحدةٌ، قال الله سبحانه: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52].
والوحدة بين المسلمين واجبةٌ، بنصوص القرآن والسّنّة، فقد أمر ربنا عز وجل بالوحدة أمراً صريحاً: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَـاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ).
فهذه الأدلّة تأمر المسلمين بالأخذ بكلّ ما يزيد المحبّة بينهم، وتنهى عن كلّ ما يولّد البغضاء في صفوفهم، وتأمرهم صراحةً بأن يكونوا إخوةً، ولا يمكن للمسلمين أن يكونوا إخوةً إلّا إذا كانوا متّحدين، فإنّ الأخوّة ضدّ الفرقة والاختلاف.
ومن أساليب القرآن والسّنّة في الدّلالة على وجوب الوحدة بين المسلمين: النّهي الصّريح عن الافتراق والاختلاف؛ الّذي هو ضدّ الوحدة والاجتماع.
قال الله عز وجل: {َوأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ} [الأنفال: 45].
ومن أساليب الشّريعة في الحثّ على الوحدة بين المسلمين: التّحذير من الشّذوذ عن الجماعة ومفارقتها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ).
إنّ التّاريخ يشهد أنّ مِن أهمّ أسباب سقوط الدّول -على اختلاف عقائدها ومللها- التّفرّق والاختلاف، فقد سقطت الخلافة العبّاسيّة بعد أن تفرّقت الدّول الإسلاميّة في ذلك الوقت، فنشأت الدّولة البويهيّة، والمماليك، ودويلات الشّام، ولم يبقَ للخلافة العبّاسيّة إلّا مزعٌ متفرّقةٌ متناثرةٌ من العالم الإسلاميّ، فلمّا زحف المغول إلى بغداد لم يقف في وجه زحفهم غير أهل بغداد فقط، فأعملوا فيهم القتل حتّى قتلوا أكثر من ثمانمائة ألف نسمةٍ.
وسقطت الدّولة الإسلاميّة في الأندلس بعد أن أصبحت دويلاتٍ متفرّقةً متناحرةً، لا همّ لأحدهم سوى التّلقّب بألقاب الملك والسّلطان، حتّى ولو كان على بقعةٍ لا تجاوز حظيرة خرافٍ.
ولم تسقط الدّولة العثمانيّة إلّا بعد أن تمزّق جسدها إلى أشلاءَ متناثرةٍ، وبعد أن أغرى الصّليبيّون الجدد بعض زعماء المسلمين بالانفصال عنها، وأحسنوا إتقان العمل بقاعدة (فرِّق تسُد).
وها هو العالم الإسلاميّ اليوم منقسمٌ إلى دويلاتٍ متناحرةٍ، تعيش على هامش التّاريخ، وتتجرّع ألوان الذّلّ والهوان.
وهنا نستذكر حالنا في بدايات ثورتنا المباركة، وكيف كنّا إخوةً متحابّين متباذلين متناصرين، كلٌّ منّا يتألّم لألم أخيه، فقمنا قومة رجلٍ واحدٍ، في وجه الطّغيان المتمثّل ببشّار وزمرته الفاجرة الظّالمة، فحرر الله على أيدينا أجزاءً كبيرةً من بلدنا الحبيب، ولم يبقَ للنظّام المجرم إلّا القليل، لأنّنا كنّا يداً واحدةً، وكلّ معركةٍ تنطلق يشارك فيها عددٌ من الفصائل والكتائب والألوية، تعدّدت الأسماء والقلوب مجتمعةٌ والهدف واحدٌ.
ولكنّنا لمّا انتكسنا وتفرّقنا وتعصّبنا للمنطقة وللفصيل وللعشيرة وللجماعة، كان الحال كما نرى، بقعةٌ قليلةٌ من الأرض جمعت شتاتنا، ولا زلنا نساوم عليها، ولا ندري أيستقرّ الوضع هكذا أم يمتدّ النّظام المجرم ويأخذ ما تبقّى من أرضٍ محرّرةٍ.
خاتمةٌ:
الوقت وقت الوحدة، وليس وقت الاختلاف، ونحن اليوم أصبحنا في عصر التّجمّعات والتّكتّلات، فإذا تفرّقت وحدة أبناء الثّورة وكلمتهم؛ فلا مكان لهم في عالم اليوم، ولا وزن لهم ولا قيمة، لا في الدّاخل ولا في الخارج.
فلنجعل من ذكرى ثورتنا المباركة بدايةً لعهدٍ جديدٍ، تتوحّد فيه الكلمة والأهداف، ونعمل جميعاً من أجل تحقيق حرّيّتنا وكرامتنا، ونصرة المظلومين والمقهورين.
ولنعمل على نبذ الخلاف، وأن نطرح جانباً هذه النّعرات الجاهليّة؛ من التّعصب للفِرق أو الجماعات، وأن يكون هدفنا في المرحلة القادمة هو العمل الدّؤوب على نصرة المظلومين والمقهورين، ولا ننسى إخواننا في السّجون وأهلنا في المخيّمات.
داؤنا معروفٌ، ودواؤنا معلومٌ، أمّا داؤنا فهو الفرقة، وأمّا دواؤنا فهو نبذ الخلافات والاعتصام بحبل الله تعالى ولزوم الجماعة.
وما دمنا مختلفين متناحرين؛ فإنّنا سنكون فريسةً سهلة المنال لكلّ ذئبٍ ووحشٍ مفترسٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ، وَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ).
http://shamkhotaba.org