تلك عشَرةٌ كاملةٌ، وثورة الشّام صامدةٌ
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 17 مارس 2021 م
عدد الزيارات : 1895
مقدمة: 
إنّ الأمورَ إذا سُدّتْ مَطالبها    فالصّبر يَفتقُ منهَا كلَّ ما ارتتَجَا
لا تيأسنَّ وإنْ طالتْ مطالبةٌ    إذا استعنتَ بصبرٍ أنْ ترى فَرَجا

 

إذا كان التّاريخ قد سجّل في العصور الأولى ثوراتٍ لشعوبٍ مقهورةٍ، وانتفاضاتٍ لتلك الأقوام المظلومة ضدَّ حكّامهم المستبدِّين من الفراعنة والملوك الظَّلمة المجرمين، فإنَّ التَّاريخ قد سجَّل أيضًا قبل عِقدٍ من الزَّمن للشَّعب السُّوري البطل ثورةً كتبها بحروفٍ من ذهبٍ على صفحاتٍ من نورٍ، ضدَّ حاكمهم الظَّالم، وزبانيته الطُّغاة المجرمين، ولقد وقف هذا التَّاريخ أمامها مرفوع الرَّأس، مشرئبَّ العنق، عالي الهامة، ففي مثل هذه الأيّام -قبل عشر سنواتٍ- قام الأبطال الأحرار  والثّوار الأبرار بثورةٍ ضدَّ هذا النَّظام الظَّالم الغاشم، الَّذي استبدَّ وطغى، وظلم وبغى، وجعل سوريَّة تعاني ما تعانيه من ويلات القهر والفقر وغير ذلك، فانبرى أولئك الأبطال، وأطلقوها مدوِّيةً، وأعلنوها صيحةً عاليةً في كلِّ ناحيةٍ وطريقٍ: الله أكبرُ على كلِّ منْ طغى وتجبَّر، فلا ظلم ولا استبداد، ولكنْ سرعان ما قوبلوا بالرَّصاص الحيِّ، والصَّواريخ المتفجِّرة، والبراميل الحارقة.
وما أعظم ثبات هذا الشَّعب الحرَّ المقدام -طيلة هذه الأعوام- والّذي حققَّوا به بعض أهدافهم الَّتي قاموا من أجلها، ولا زالوا يترقَّبون ويتأمَّلون من الله عز وجل أن يُحققَّ لهم -بعد عزيمتهم وإصرارهم بقيَّة الأهداف المنشودة- وإنَّ النَّصر مع الصَّبر، قال جل جلاله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
تذكِّرني ربيعًا قد تسامى    وأزهارًا ووردًا كالخزامى
تذكِّرني وهلْ أنسِى صداهَا    بها الشُّرفاءُ قدْ قاموا انتظامًا
تذكّرني وأخضرهَا عبيرٌ    وأنجمُها تنيرُ لنَا الظّلاما
1- مضى عِقدٌ، ونثبّت العهد
عشر سنواتٍ كاملةٍ مضت على ثورتنا المباركة، ومن الخطأ الفادح: أن نجدّد شيئًا لم يفتر أصلًا، ولكنّنا نثبّت عهدًا كُتب بدم الأطهار، ودمعات الأيتام، ومنذ أوّل يومٍ صدحت فيه حناجرنا بالحريّة، قلنا وسنقول في كلّ وقتٍ: إننّا أحرارٌ، ولن نركع إلّا للواحد القهّار، ونحن موقنون أنّ النّصر هو الثّبات على المبدأ، ولو مات الإنسان على طريقه فهو المنتصر، وإنّ الخسران هو التّصفيق للباطل، ولو وصل لقمّته فهو الخاسر.
قبل عشر سنواتٍ انطلق شباب سوريّة يجوبون شوارع المدن والبلدات، ليعبّروا عن غضبهم تجاه تعذيب أطفالٍ صغارٍ أبطالٍ، كتبوا عباراتٍ ضد النّظام المجرم على جدران مدرستهم، لكنّ النّظام الاستبداديّ الممانع للتّغير، والمقاوم لتطلّعات الشّعب، أعطى أوامره لجيشه الخائن بإطلاق النّار على المدنيّين، ثمّ استعان بمليشياتٍ ومرتزقةٍ من خارج البلاد في محاولات لإطفاء نار الثّورة، لكن أنّى! فالثّورة مستمرّةٌ، وأحلام الشّعب السّوريّ ستتحقّق لا محالةَ، ولمّا كان كثيرٌ ممّن أصبحوا اليوم شبابًا، لم يَعُوا أسباب انطلاق الثّورة، ولم يروا التّضحيات الّتي بُذلت في سبيل انطلاقها، ولم يَرَ إلّا النّصف الثّاني من الثّورة، وما دبّ فيها من خلافٍ ونزاعٍ وشقاقٍ وفرقةٍ، كان من الواجب علينا أن نبيّن لهم أنّ هذا الشّعب قام -رافضًا الظّلم والظّالمين- ومطالبًا بحرّيّته وكرامته، لأنّها أساس التّكريم الإنسانيّ، وشرط تمام التّكليف الشّرعيّ.
لقد جاء الإسلام ليحرّر الإنسان من كلّ العبوديّات، كي يبقى عبدًا لله وحده، فيتحرّر من عبوديّة الرّقّ والمنصب والشّهوة والمال.
وقد قاوم الإنسان -منذ أقدم العصور- كلّ العوامل والأساليب والأنظمة الّتي تشكّل عدوانًا للحرّيّة، قال عنترة العبسيّ:
لا تسقني كأس الحياة بذلّةٍ    بل واسقني بالعزّ كأس الحنظلِ
وجاءت الأديان السّماويّة لتضمن الحرّيّات السّياسيّة والاجتماعيّة للفرد والمجتمع.
وقد أخرج الإسلام -بالقرآن- شعوبًا كانت مستذلّةً، إلى مرافئ العزّة والكرامة، وزرع في نفوسهم إقدامًا وإباءً دانت لهم الدّنيا بسببه، حيث خاطب الله تعالى المسلمين -وهم قلّةٌ مستضعفةٌ تواجه عنجهيّة قريش وكبريائها- بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].
2- ماضون في ثورتنا، ولسنا نادمين
لم نكن نتخيّل عشر سنواتٍ عجافٍ، يملؤها القتل والتّهجير والبطش والتّدمير، هذا الكمّ الّلامتناهي من الإجرام والوحشيّة، لماذا؟! من أجل الحفاظ على الحُكم والسّيادة! إمّا الأسد أو نحرق البلد، ولكنّنا نحمد الله سبحانه على أن أكرمنا بثورتنا، فجهرنا بالحقّ ووقفنا في وجه الظّالم، فنلنا شرفًا عظيمًا، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ). مسند أحمد: 18830
ويا لَهُ من انتصارٌ عظيمٌ حقّقناه.
لم ولن نندم على الكرامة ولا للحظةٍ واحدةٍ، وإلّا كيف نندم على حياةٍ كسبناها، وكرامةٍ نلناها، وثورةٍ أشعلناها، لتحصيل حقٍّ، ورفع ظلمٍ، وإقامة عدلٍ، ونيل حريّةٍ.
في عامها العاشر، وذكرى ميلادها الجديد، يعيش ويموت من عاداها، تعيشُ لنعيشَ نحنُ، فما قيمة عيشنا بموتها وفنائها؟! وإنْ طال عهدها، وصعب منالها، تعيش من قدّمت لنا الكثير، وعلّمتنا مالم نكن نتعلّمه بزمنٍ طويلٍ، ويكفينا منها أنّها كشفت لنا الصّديق من العدوّ، والخائن من الصّادق، ونفاق المجتمع الدّوليّ، وأكذوبة حقوق الإنسان وحماية الأطفال، والمقاومة السّوريّة ضدّ إسرائيل، وأهزوجة الاحتفاظ بحقّ الرّد.
لم نندم على ثورةٍ واجهَ أصحابها احتلالًا روسيًّا إيرانيًّا، وقاتلوا نظامًا مجرمًا فاق في إجرامه الخيال.
لم نندم كأولئك الّذين توقّفوا في منتصف الطّريق، أو ظنّوا أنّ سارقي الثّورة ومصّاصي الدّماء هم الثّورة، ولكنّهم جهلوا أنّ الثّورة لا يصنعها إلّا الرّجال، وإن كانوا نساءً أو صغارًا، فكنْ رجلًا نافعًا أينما كنت، فالمؤمن كالغيث أينما وقع نفع، وقمْ بواجبك ضمن إمكانيّاتك لثورتك المباركة في أيّ مجالٍ كنت تعمل، سواءً كان سياسيًّا أو إغاثيًّا أو اقتصاديًّا أو تنظيميًّا، وقدّم ما استطعت دون تردّدٍ أو توقّفٍ، ولا تجعل وساوس الشّيطان تستولي على فؤادك بأنّ تأخرّ النّصر دليلُ الخطأ في الفعل، أو أنّ النّصر مستحيلٌ، وإنّما يعني أنّ أسباب النّصر لم تكتمل بعد، ومن ذلك الإعداد المستطاع له، قال عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
يا فتيةَ الشّامِ للعلياءِ ثورتكمْ    وما يضيعُ مع العلياءِ مجهودُ
جُدتُمْ فسالتْ على الثّوراتِ أنفسكمْ    علّمتمُ النّاسَ في الثّوراتِ ما الجودُ
3- هل بقي للسّوريين من أملٍ!
منذ عشر سنواتٍ ونحن نعاني محنًا شديدةٍ، ومآسي عظيمةً، تزيد مع زيادة الأيّام، وتكثر مع كثرة الأعداء والخصام، ولربّما دخل على بعض القلوب الوهنُ، وأصيبت بعض النّفوس بالخور، فمِنْ هنا، وفي هذه الظّلمات المتلاطمات، والأمواج العاتيات، ينبغي أن نطلق شعاعًا من النّور، ليبدّد الضّلال والظّلام، وأن نضع سفينةً لننجو بها من أمواج الطّغاة والبغاة، ورغم أنّنا نرى أشلاء أولادنا متناثرةً، ومساجدنا وبيوتنا مدمّرةً، والأعداء تكالبوا لقتالنا، وتخلى عنّا القريب والبعيد، ولكنّ هذا كلّه لن ينسينا نداء ربّنا العظيم إذ قال: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
ولن يصدم قلوبنا حزنٌ قاتلٌ، أو يوهن عضدنا عدوٌّ صائلٌ، لأنّنا نقرأ ونحن موقنون بقوله سبحانه: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7].
ربّما يسري شيءٌ من الهلع أو الفزع لبعض لقلوب بسبب تكاثر العدوّ، ولكن علينا أن نعلم بأنّ اجتماعهم علينا هو في الحقيقة بداية نصرنا، وهذا ما ألمح له البيان الإلهيّ بقوله: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 44-45].
فكيف تجزع أمّةٌ يقول لها ربّها إنّ جموع الكفّار ستُهزم؟!
لقد ضحّى النّبيّ والصّحابة برغد العيش والمال، وبالوطن والرّاحة، في سبيل دينهم، فأكرمهم الله بالأجر الجزيل، وأعادهم إلى وطنهم آمنين، ولك أن تتأمّل حجم التّضحية والمعاناة الّتي حصلت لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الأسلوب الفريد الّذي ابتكره المشركون لحرب أهل الإيمان، ألا وهو المقاطعة والحصار الاقتصاديّ، كما روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه معاناته من الجوع -وقد كان أحد المحاصرين- فقال: "كنّا قومًا يصيبنا ظلف العيش  بمكّة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا أصابنا البلاء اعترفنا لذلك وصبرنا له، ولقد رأيتني مع رسول الله بمكّة، خرجت من اللّيل أبول  فإذا أنا أسمع بقعقعة شيءٍ تحت بولي، فإذا هي قطعة جلد بعيرٍ، فأخذتها فغسلتها ثمّ أحرقتها  فوضعتها بين حجرين،  ثمّ استففتها فشربت عليها من الماء فقويت عليها ثلاثًا". حلية الأولياء، ج1، ص93
وليس غريبًا أن يضحيّ المسلمون هذه التّضحية فهم أهل عقيدةٍ ومبدأ سامٍ، فلنضحِّ لأجل هذا الدّين كما ضحّى الأوّلون، فإنّ ديننا هو لحمنا ودمنا، وكلّنا على ثقةٍ ويقينٍ بأنّ اليأس ليس له إلى قلوبنا من سبيلٍ، لأنّنا نرى عزائم لا تفتر، وهممًا لا تُكسر، وإيمانًا يزيد ولا يضعف، ورجالًا يذكّروننا بالرّعيل الأوّل في الصّبر والثّبات، والهمّة والجهاد، وهذا ما يبدّد حزننا، ويزيد في يقيننا بأنّ الأمّة ستنتصر بهم.
فلنطب نفسًا بمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلادنا، عَنِ ابْنِ حَوَالَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (سَيَصِيرُ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ تَكُونُوا جُنُودًا مُجَنَّدَةً جُنْدٌ بِالشَّامِ، وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ، وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ)، قَالَ ابْنُ حَوَالَةَ: خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فَإِنَّهَا خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ، يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ، وَاسْقُوا مِنْ غُدُرِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَوَكَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ). مسند أبي داود: 2483

خاتمةٌ:

الثّورة على الطّغاة ليست طريقًا مفروشًا بالورود  والياسمين، وإنّما هو درب ابتلاءٍ، ومقارعةٌ لقوّة جبّاري الأرض،  فلا بدّ من تضحياتٍ، ولعلّ هذا الّذي يحصل اليوم مخاضٌ عسيرٌ أمام فجرٍ جديدٍ، يبدّد الظّلمات، وتنقشع بصبح الفاتحين إن شاء الله، والوعد الإلهيّ بالتّمكين دائرٌ بين الوعد والشّرط، قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النّور: 55].
فلنحقّق الشرط ليتحقّق الوعد، لقد علّمتنا ثورتنا ألّا ناصر لنا إلّا الله، وما زال الإصرار يحيك أملنا بنصرٍ يغيّر المستحيل، فلا بدّ لكلّ ثورةٍ من تضحيةٍ، والخسارة اليوم هي النّصر غدًا.
الباطل عاقبته الزّوال، فعلينا ألّا ننسى جرحانا وشهداءنا ومعتقلينا، فلْنمضِ صابرين حتّى يحقّق الله لنا نصره، ويفتح بيننا وبين القوم المجرمين، ولنعتزّ بديننا، ولنوحّد صفّنا، ولنكن متفانين في خدمة بعضنا وفي حبّ وطننا والدّفاع عنه، وكلّنا أملٌ بالله عز وجل أن ينجز لنا ما وعدنا به، إذ قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الرّوم: 47].
 

http://shamkhotaba.org