مقدمة:
لئن كان رمضان سيّد الشّهور، فلقد حمل لنا -أيضًا- على صفحات أيّامه من الأحداث أعظمها أثرًا، وأجلّها نصرًا، وأبقاها في التّاريخ ذِكرًا، وأبلغها وأشدّها أثرًا في الأمّة والمجتمع، وكان على رأس هذه الأحداث غزوة بدرٍ الكبرى، تلكم الغزوة الّتي كانت ملحمةً من ملاحم الإسلام، ويومًا مِنْ أيّامه الجليلة العظام، خاضه الرّسول صلى الله عليه وسلم مع الصّحب الكرام، بالثّبات واليقين والإيمان، فكان فيه أوّل لقاءٍ مسلّحٍ بين أهل الشّرك وأهل الإيمان، وغدت معركةً فاصلةً بين أنصار الحقّ وأنصار الباطل، حتّى وصف الله سبحانه يومها بأنّه يوم الفرقان، قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41].
لقد رسمت غزوة بدرٍ الخطّ الفاصل بين الحقّ والباطل، فكانتِ الفرقان النّفسيّ والمادّيّ، والمفاصلة التّامّة بين الإسلام والكفر، حيث عاشها الصّحابة واقعًا مادّيًّا وحقيقةً نفسيّةً، تهاوت فيها قيم الجاهليّة، حتّى قاتل الابن أباه، ووقف الأخ في وجه أخيه، يُحرّكه الإيمان والعقيدة السّليمة، لا العصبيّة ولا القبليّة.
لقد جاءت معركة بدرٍ في شهر رمضان من السّنة الثّانية للهجرة، ومن بعدها معارك إسلاميّةٌ أخرى فيه، لتؤكّد حقيقةً مهمّةً، ألا وهي: أنّ رمضان هو شهر البذل والتّضحية والعمل المثمر، لا شهر التّكاسل والتّخاذل والنّوم، حيث أعزّ الله جل جلاله عباده المؤمنين بنصرٍ مبينٍ، وأذلّ المشركين بهزيمةٍ لم يتوقّعوها، ونهايةٍ لم ينتظروها، وتلك سنّةٌ ربّانيّةٌ في هذا الكون، تقضي بأنّ مرتع الظّلم وخيمٌ، ونهاية الاستكبار والكفر أليمةٌ، وأنّ عاقبة الإيمان مع الصّبر واليقين حميدةٌ.
إنّ الأمّة الإسلاميّة -اليوم- بحاجةٍ ماسّةٍ إلى تسليط الأضواء على أحداث غزوة بدرٍ، حتّى تُدرك المعاني العظيمة الّتي حدثت فيها، وتتعرّف على أسباب النّصر والظّفَر، فتجاهد نفسها، وتنتصر على شهواتها، وتُصلح ما فسد من أمرها، في وقتٍ اشتدّ فيه كربها، وتكالبت عليها أعداؤها، يفسدون في أرضها، وينهبون خيراتها، ويقتلون أبناءها، ويُريدون تبديل دينها والقضاء عليه.
1- من عوامل النّصر: اليقين بالله مع الأخذ بالأسباب
إنّ قراءةً جديدةً لغزوة بدرٍ -في ظلّ الواقع المرير الّذي تعيشه الأمّة اليوم- لجديرةٌ بأن تزرع الأمل مجدّدًا في النّفوس المؤمنة، الّتي تنتصر لقضايا الحقّ، وتبذل الغالي والنّفيس من أجل إعلاء كلمة الله سبحانه، فلئن كانت الأمّة اليوم تمرّ بمرحلةٍ عصيبةٍ مِن المِحن والشّدائد، فإنّه قد مرّ مثلها وأعظم منها بخيار هذه الأمّة، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه العظماء، فإن أرادت الأمّة كشف الكرب عنها، وكسر أعدائها، فما عليها إلّا السّير على خُطى أسلافها، واستلهام الدّروس والعبر من غزوة بدرٍ وأخواتها.
لقد كان الله تعالى قادرًا على أن يُهلك المشركين بلا مواجهةٍ ولا قتالٍ، كما أهلك عادًا بالرّيح، وثمود بالصّيحة، وقرونًا بين ذلك كثيرًا، ولكنّ سنّته في عباده تأبى ذلك، ولا يرضى إلّا بأن يفتقروا إليه، ويستغيثوا به، يطلبون مدده ونصره، موقنين بأنّه قريبٌ مجيبٌ، عزيزٌ قديرٌ، مع أخذهم بالأسباب الأرضيّة، من الخروج للغزوة، والتّخطيط للمعركة، ومُشاورة الأصحاب، ومُباشرة الأسباب، وعدم الاعتماد عليها، بل على الله وحده، فلمّا فعل المؤمنون ذلك في بدرٍ، ما ضرّتهم قلّتُهم، ولا نفع أعداءَهم كثرتُهم، وجاء المدد من الله جل جلاله، يتبع بعضه بعضًا، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9].
فكان جند الله من الملائكة الكرام، وأمدّهم بجنودٍ غيرها، حيث ألقى النّعاس على المؤمنين، ربطًا على قلوبهم، وإذهابًا لخوفهم، وتنشيطًا لأجسادهم، ومِن ينام وهو يقابل أعداءه؟! ولكنّ الله سبحانه بحكمته أمنّهم به، قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال: 11].
ثمّ أنزلَ المطر تطهيرًا للمؤمنين، وتثبيتًا لأقدامهم، وإذهابًا لرجز الشّيطان، قال سبحانه: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال: 11].
إنّ الله جل جلاله يؤيّد عباده المؤمنين بجنوده في كلّ زمانٍ، إنْ هم اعتمدوا عليه، وحقّقوا شرط النّصر؛ المتمثّل في قوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمّد: 7].
شرطٌ واضحٌ، وجوابُ شرطٍ مبنيٌ عليه، وإنّما يكون نصر الله بإقامة دينه، ولكن -وللأسف- مَنْ يرى واقع المسلمين اليوم، دولًا وشعوبًا، يجد أنّهم لم يحقّقوا هذا الشّرط، ولذا تخلّف نصر الله لهم، فإنْ رَامَتِ الأمّة عِزّها، فلْتحقّقْ ما طلبه الله سبحانه، ولْتستيقنْ به، ولتلجأْ إليه التجاءً صادقًا، قال سبحانه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} [النّساء: 84].
2- استبسال شباب الصّحابة، درسٌ بليغٌ لشبابنا
الشّباب هم أمل المستقبل، وقادة الغد، وعلى أكتافهم تُقامُ حضاراتٌ، وتُرفَعُ أمجادٌ.
إنّ الّذين حملوا لواء هذا الدِّين، وقادوا الجيوش، معظمهم مِن الشّباب المحبّ لدينه، السّاعي لرفع رايته، ولقد ضرب الصّحابة أروع الأمثلة في مجال التّضحية، والتّسابق إلى ساحات الجهاد، فهؤلاء صِبيةٌ من الأنصار، أرادوا أن يُفرحوا قلب النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل فرعون هذه الأمّة، أبي جهل بن هشامٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلاَمَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ -حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا- فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ، فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلاَ إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: (أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟)، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: (هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟)، قَالاَ: لاَ، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: (كِلاَكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ).
فلنتأمّلْ ما فعل الإيمان والحبّ الصّادق بقلوب هؤلاء الصِّبية، حتّى بحثوا عن القائد المُهاب المتجبّر، لمنازلته، فأكرمهم الله بما يتمنّون، وإنّ هذا ليدلّ بوضوحٍ على أنّ الإيمان إذا خالطت بشاشتُه القلب فعل بصاحبه الأعاجيب، ولقد رأينا من شباب الأنصار من ضحّى في هذه الغزوة وغيرها بنفسه فداءً لله ولدينه، فكانت الجنة بانتظاره، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ هَلَكَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ غَرْبُ سَهْمٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْتَ مَوْقِعَ حَارِثَةَ مِنْ قَلْبِي، فَإِنْ كَانَ فِي الجَنَّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا سَوْفَ تَرَى مَا أَصْنَعُ؟ فَقَالَ لَهَا: (هَبِلْتِ، أَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ؟ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأَعْلَى).
كلّ ما سمعناه صورٌ من التّربية الجادّة لشباب الإسلام، وبعضٌ من تضحيات الأبطال في أوّل فرقانٍ بين الحقّ والباطل، وهكذا يجب أن يكون شبابنا، حماسٌ للدّين، وغيرةٌ على الحرمات، واهتمامٌ بمعالي الأمور، وجهادٌ وبذلٌ وتضحيةٌ في سبيل الله، وحبٌّ خالصٌ لله ولرسوله، وطموحٌ للعلياء، فلْنثقْ بربّنا، ولنقمْ بواجبنا، يحقّقِ الله نصرنِا.
خاتمةٌ:
إنّ غزوة بدرٍ -بأحداثها وتفاصيلها- مدرسةٌ تربويّةٌ متكاملةٌ، لما تحمله بين ثناياها من الفوائد الكثيرة والدّروس العظيمة، وإنّ على المجاهدين الصّادقين في كلّ زمانٌ ومكانٍ أن يتعلّموا من هذه المدرسة العظيمة، حتّى تُصبح عندهم القدرة -بإذن الله- على صنع النّصر من رماد الهزيمة، فها هي بدرٌ قد علّمتنا تجديد الثّقة بالله جل جلاله، وحُسنِ الالتجاء إليه وحده، مع توجيهنا للأخذ بالأسباب، وإعداد العدّة لمواجهة العدوّ، وهذه مسؤوليّة الجميع -لا سيّما الشّباب الأقوياء- كما أعطتنا درسًا بليغًا بأنّ قوى الشّرك والطّغيان تتبدّد أمام قدرة الله وحده، وأنّ الله يجعل العزّة لمن والاه، ويؤيّده بجنوده، ويجعل الذّلّة على من عاداه، ويسلّط عليه ما يشاء، قال سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدّثّر: 31].
لقد تجلّى في غزوة بدرٍ صورٌ من الحبّ الصّادق لله ولرسوله، واتّضحت حقيقة الإيمان بالله ، وبرزت صور البطولة والتّضحية بوضوحٍ، فيما قدّمه شباب الصّحابة وغلمانهم، فلْنقتدِ بهم، ولْنسرْ على نهجهم.
هذه وقفاتٌ سريعةٌ خاطفةٌ، فدروسُ بدرٍ لا تنقضي، وعِبَرها لا تكاد تُحصَى، فجديرٌ بنا أن نتعلّم مِن دروسها، ونفعّلها في سلوكنا وحياتنا، يُكتب لنا العزّ في الدّنيا، والفوز في الأخرى.
http://shamkhotaba.org