مقدمة:
قبل أيّامٍ استقبلنا شهر رمضان المبارك، وبالأمس ودّعناه مرتحلًا عنّا، شاهدًا لنا أو شاهدًا علينا، وفي صبيحة هذا اليوم الأغرّ -يوم عيد الفطر المبارك- غدونا إلى ربٍّ كريمٍ، يَمنُّ بالخير ثمّ يثيب عليه الجزيل، أكرمَنا مولانا بالصّيام والقيام، وجئنا اليوم لننالَ جوائزنا مِن ربٍّ كريمٍ.
إنّ أعياد المسلمين تتميّز عن غيرها مِن أعياد الجاهليّة بأنّها قُربةٌ وطاعةٌ، وتعظيمٌ وشكرٌ لله عز وجل على إتمام نعمته على عباده، قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
فالمسلمون يتسامون بأعيادهم، ويربطونها بعباداتهم، ويحقّقون في العيد الاجتماع والتّآلف، الّذي هو مقصدٌ من مقاصد الدّين العِظام، وقضيّةٌ مِن قضايا الأمّة الجِسام، حيث جاءت نصوص الوحيين آمرةً بالاجتماع ونبذ الفُرقة، قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
فللعيدِ مِن الشّمول ما يجعل النّاس جميعًا يشاركون في تحقيق هذه المعاني، واستشعار آثارها المباركة، كلّما دار الزّمن وتجدّد العيد.
في العيد تتقارب القلوب على الودّ، ويجتمع النّاس بعد افتراقٍ، ويتصافون بعد كدرٍ، ويتذاكرون حقّ الضّعفاء، وفي ذلك تقويةٌ للرّوابط الفكريّة والرّوحيّة والاجتماعيّة.
1- مِنْ معاني العيد وواجباته
ما أجمل هذا الصّباح المبارك! وما أزكى نسماته! ونحن نردّد شعار العيد: الله أكبر، الله أكبر، خرّت لعظمته الجبال الرّاسيات، وتشقّقت مِن خشيته الصّخور القاسيات، نُجلجل بالتّكبير في الأجواء، وتهتف بها مآذننا في كلّ صبحٍ ومساءٍ.
اللهُ أكبرُ ما أحلى النّداءَ بها كأنّهُ الرّيُ في الأرواح يُحييها
في هذا اليوم: تأنس القلوب، وتطفح الوجوه بالبِشر، وتنطلق الألسن بالتّكبير.
في هذا اليوم: يتجلّى الله جل جلاله على عباده الصّائمين، فيغفر لهم ذنوبهم، ويوفّيهم حقّهم.
في هذا اليوم: تذكيرٌ للنّاس بحقّ الفقراء والبؤساء، كي تشمل الفرحة بالعيد كلّ بيتٍ، وتعمّ البهجة كلّ أسرةٍ، فلا يبقى هنالك بائسٌ محزونٌ، ولا قلبٌ كسيرٌ يُدميه ظلم المجتمع، وإلى هذا المعنى ترمز صدقة الفطر في العيد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ".
لا بدّ لعيد الفطر مِن أن يُذكِّر المسلمَ بالواجبات عليه فيه، ولعلّ مِن أهمّها:
أوّلًا: صلة الرّحم: وتعني: إيصال كلّ خيرٍ، ودفع كلّ شرٍّ، بحسب الاستطاعة، حيث تتنوّع الصّلة بحسب حال الرّحم، فإن كان القريب فقيرًا فصلته تكون بالإنفاق عليه، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ).
وإنْ كانَ مظلومًا فإنّ صلته تكون بدفع الظّلم عنه، وإن كان مريضًا فإنّ صلته تكون بزيارته، وتحسين ظنّه بالله جل جلاله، فطوبى لِمَنْ وصل رَحِمَه، والويل لمَنْ قطعها، عَنْ عَائِشَةَ ك، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ).
ثانيًا: سلامة الصّدر من الأحقاد: صدور المؤمنين لا محلّ فيها للحقد والغلّ، فهي سليمةٌ مملوءةٌ بالمحبّة والخير، ولقد ضرب يوسف عليه السلام المثل الأعلى في رفض الحقد مِن نفسه، رغم الظّلم الّذي حدث من إخوته له، ولكنّ نفس الكريم تأبى الضّغينة، ولذلك لمّا قدِر عليهم قال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 94]، فلنتّخذْهُ قدوةً لنا.
2- العيد طاعةٌ وفرحةٌ، رغم الألم
شرع الله سبحانه الأعياد ليفرحَ المسلمون ضمن إطار الشّرع والقيم والأخلاق، امتثالًا لقوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
الفرح الّذي ليس فيه تحلّلٌ من قيود الشّرع، وليس فرحًا صاخبًا تُنتَهك فيه الحرمات، ولا فرحًا يدعو إلى أشرٍ، أو يجرّ إلى خيلاء، إنّه فرحٌ لا إسرافٌ فيه ولا تبذيرٌ، قال تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26].
فرحٌ لا سفورٌ فيه ولا تبرّجٌ، قال سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33].
فرحٌ لا اختلاطٌ فيه، ولا نظرٌ للمحرّمات، قال عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النّور: 30].
إنّ المؤمن يفرح بطاعة الله وذِكره، فيردّد التّكبير شكرًا لله جل جلاله على توفيقه له للصّيام والقيام، فيبقى متّصلًا بخالقه في صيامه وفِطره، فهو يأكل ويشرب، ولكن في إطار توجيه ربّه، قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
يفرح بلباسه الجديد السّاتر لعورته، المرفوع عن الأرض، عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَرَأَى رَجُلًا يَجُرُّ إِزَارَهُ، فَجَعَلَ يَضْرِبُ الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَهُوَ يَقُولُ: جَاءَ الْأَمِيرُ جَاءَ الْأَمِيرُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى مَنْ يَجُرُّ إِزَارَهُ بَطَرًا).
مع حلول الأعياد كلّ عامٍ، نجد من يحاول قتل أفراح العيد، والتّضييق على فرحة النّاس، ليذكرّنا بمآسٍ خلتْ، وأحزانٍ مرّتْ أو لا زالتْ، غير عابئين بأنّ النّفوس أصابها مِن الحزن ما يكفيها، وقد تكون بحاجةٍ للفرحة لتتنفّس الصّعداء.
إنّنا بحاجةٍ إلى العيد كفرصةٍ لبثّ الأمل في قلوبٍ أحبطها اليأس والقنوط، فالأعياد فُرَصٌ للرّاحة والتقاط الأنفاس لمواصلة الحياة بحُلوها ومرّها، وعونٌ لاستمرار رفع راية الجهاد، فالمحن في طيّاتها منحٌ، فلقد كان أسلافنا يفرحون بالعيد وهم المجاهدون، وربّما صادف العيد يوم فتحٍ، أو غداةَ عودةٍ مِن قتالٍ، وبينهم مَن فقد أباه أو أخاه، ومَن أُصيب في معركته، إلّا أنّهم كانوا يطوون صفحة الحزن ليبدؤوا صفحةً جديدةً عنوانها "العيد" لتكون عونًا على ما فات، وبارقة أملٍ لما هو آتٍ.
خاتمةٌ:
فلنفرحْ بعيدنا، ولتتصافحْ قلوبنا، ولتتصافَ نفوسنا، ولنُجدّدْ ميثاق الإخاء الإسلاميّ فيما بيننا، ولنحلمْ بغدٍ مشرقٍ تلوح تباشيره في الأفق البعيد.
العيد فرحٌ نهديه، رغم الألم والحزن، وبسماتٌ نُزيّنها بالصّدق والوفاء، ودفءُ عاطفةٍ يتجدّد، وأرواحٌ تتّحد، تنطلق بفرحٍ إلى الفجر الجديد، فلنجمعْ في فرحنا بين فرح القلوب وإسعاد النّفوس، وبين تفريج الكروب والتّنافس في الخيرات، فنبسط أيادينا بالجود والسّخاء، وتتحرّك نفوسنا بالشّفقة والرّحمة، وتسري في دمائنا روح المحبّة والإخاء، وبهذا نبني أمّةً قوامها الاستقرار بعد الإيمان.
ليكنْ يومنا هذا صفحةً جديدةً في التّلاحم والتّواد والاجتماع، ونبذ الفرقة والخلاف، فمَن لم يبتسم في العيد، ويمدّ يدّه لمَن يختلف معه فمتى يبادر؟! وإذا كان تحقيق الاجتماع والتّآلف مأمورًا به في حقّ عموم المسلمين في كلّ الأوقات، فهو في حقّ الأقارب والإخوة أولى وأوجب، لا سيّما في أوقات العيد.
http://shamkhotaba.org