دُروسٌ تربويّةٌ مِن الامتحانات الدّراسيّة
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 2 يونيو 2021 م
عدد الزيارات : 2209
مقدمة:
يتهيّأ الآلاف مِنَ الطّلّاب والطّالبات هذه الأيّام لدخول اختباراتهم الدّراسيّة، بعد شهورٍ مِنَ العمل والجِدّ والاجتهاد، فإنّنا نرى طلّابنا ينشطون بكلّ أنواع الهمّة والاستعداد، فالاختبار فيه شيءٌ مِنَ الخوف والرّهبة، لأنّه يحدّد مصير صاحبه، فإمّا أن تغمره الفرحة بالفوز والنّجاح، وإمّا أن يسودّ وجهه، ويعلوه الاكتئاب، نتيجة الفشل والرّسوب.
لَكَمْ هي العِبَر والعظات الّتي توقفنا عليها هذه الامتحانات، حيث تُذكّرنا بحقائقَ هي ماثلةٌ أمامنا، وسوف نراها عيانًا يوم الامتحان الأعظم، والعرض الأكبر على الواحد الدّيان، ولكنّنا الآن عنها غافلون، فلا يدري أحدنا هول الموقف، وفظاعة الأمر، وخطر النّتيجة.
صورةٌ ناصعةٌ بيضاءُ، نرى مِنْ خلالها هِمَم طلّابنا، وقد كرّسوا جهودهم للمقرّرات الدّراسيّة، تعبوا لها نهارًا، وسهروا مِنْ أجلها ليلًا، وتركوا لهوًا ولعبًا، فكمْ سمعنا عن طالبٍ قرأ في ليلةٍ مائة صفحةٍ، وآخرُ لم ينمْ حتّى وقت الفجر، وغيره بقي بضع عشرة ساعةً يُذاكر ويقرأ، هممٌ كبيرةٌ، ونفوسٌ عظيمةٌ، هي سبب التّفوق والنّجاح، بها نَفخر ونعتزّ.
جديرٌ بنا ونحن نرى هذا الاهتمام الشّديد لهذه الامتحانات أن نتساءل مع أنفسنا: ماذا أعددنا للامتحان الأكبر؟ وكيف استعدادنا له؟ ذلك الامتحان العظيم، الّذي مَنْ فاز فيه، كان فوزه أبديًّا، ومَنْ فشل فيه، خسر خسرانًا مبينًا، فلا تنفعه آنذاك شهاداته ولا منصبه، ولا أمواله وعشيرته، إنّه امتحانٌ يُسألُ فيه المرء عنِ الصّغير والكبير، والنّقير والقطمير، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
وقال: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 6-11]. 
أمام رهبة الامتحانات، وقلق الطّلّاب منها، يجب علينا تعميق الإيمان في النّفوس، وزرع الثّقة والطّمأنينة فيها، وتربية الأبناء على التّوكل على الله جل جلاله وحده، مع الأخذ بأسباب النّجاح مِنَ الدّراسة والمذاكرة والقراءة.
1- مقارنةٌ بين امتحان الدّنيا وامتحان الآخرة
أًهوِنْ بامتحانات الدّنيا -مهما بلغت شدّتها- أمام امتحان الآخرة، بل شتّانَ شتّانَ بين الامتحانين.
يتذكّر المؤمن بامتحان الدّنيا ذلك الامتحان الأعظم، يوم العرض على الله سبحانه، مع فوارق بين الامتحانين، فالرّقيب في امتحانات الدّنيا بشرٌ، قدرته محدودةٌ، وقد يخون الأمانة مِنْ أجل عَرَضٍ دنيويٍّ، وأمّا الرّقيب في الآخرة فهو الله جل جلاله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النّساء: 1].
وإنّ مدّة امتحانات الدّنيا سويعاتٌ، وأمّا امتحانات الآخرة ففي يومٍ لا نهاية له، قال سبحانه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحجّ: 47].
وإنّ الامتحان الدّنيويّ إذا فشل به المرء مرّةً، كان دافعًا له لتلقّفِ أسباب النّجاح في المستقبل، ولكنّ الامتحان الأخرويّ لا يُعاد، بل بعده أحدُ أمرين: إمّا نجاحٌ أبديٌّ، ونعيمٌ لا ينفد، وإمّا فشلٌ سرمديٌّ، وندمٌ لا ينقطع، قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106].
ولا يتذكّر ذلك الامتحانَ إلّا مَنْ جعل العلمَ له قائدًا، والإيمان له سائقًا، قال سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الرّوم: 55-56].
وهكذا يودّون أن لو يعودوا إلى الدّنيا لعلّهم يجدون النّصير الّذي يخلّصهم، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} [الشّورى:46].
وأمّا الّذي يُؤتَى كتابه بيمنيه فهو المَرضيّ السّعيد، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ عُذِّبَ) قَالَتْ: قُلْتُ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8]، قَالَ: (ذَلِكِ العَرْضُ). صحيح البخاريّ: 6536
فواحدٌ يأخذ كتابه بيمينه فَيُسَرُّ ويفخر، وآخرُ يأخذ كتابه بشماله فيدعو على نفسه بالهلاك، قال جل جلاله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ *فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ *كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ *وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقّة: 19-27].
يُسألُ الطّالب عمّا تعلّمه في عامه الدّراسيّ فيصيبه الخوف والاضطراب، ولكنّ السّائل في امتحان الآخرة هو الله عز وجل، والمسؤول كلّ فردٍ منّا، ومحلّ السّؤال كلّ ما عملناه في دُنيانا، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، وَلاَ حِجَابٌ يَحْجُبُهُ). صحيح البخاريّ: 7443
2- لماذا ندرس؟ ولماذا نمتحن؟
سؤالٌ يَطرح نفسه بين الحين والآخر، يتساءل الإنسان مع نفسه، لماذا كلّ هذا العناء؟ وهل الهدف مِنَ الدّراسة هي مجرّد تلك الشّهادة، لتُعلّقَ على الجِدار؟ أم أنّ الهدف افتخار المرء بأنّه درس وتفوّق، أم أنّ المقصد وظيفةٌ مرموقةٌ، ومرتّبٌ كبيرٌ، فيا ترى: ما الهدف الّذي نزرعه في نفوس أبنائنا؟
ولدى التّأمل يتبيّن لنا أنّ المقصد مِنَ الدّراسة عبادةٌ، ونفعٌ يعود على الأمّة كلّها.
إنّ الواجب على كلّ والدٍ أن يغرس في نفس ولده حبّ التّفوّق، ليصبح لبِنةَ بناءٍ في مجد الأمّة، ومصدر إنتاجٍ في المجتمع المسلم، ومشعلًا تستضيء به الأمّة في هذا الظّلام الدّامس؛ الّذي أصابها في هذه السّنوات الأخيرة نتيجة الحرب المدمّرة، وهكذا نربّي أبناءنا -منذ نعومة أظفارهم- على حمل همّ المجتمع والأمّة كلّها، ليعلموا أنّهم بناةُ المجد، وهامة العزّ، والقوّة المنتَظَرة، والحِصن الحصين لهذه الأمّة في شتّى المجالات، ندرس ونُمْتَحَنُ لنتعلّم كيف نبني؟ وكيف نصنع؟ وكيف نُخطّط وننتج، ونُطبّب، ونُهندس؟ ألا ما أجمل أن نتأمّل تلك الوصّية النّبويّة الّتي مدح فيها النّبيّ صلى الله عليه وسلم المؤمن القويّ، الّذي يستعمل قوّته في مرضاة الله عز وجل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ). صحيح مسلم: 2664
وقوّة الإنسان بعلمه، فائدتها عظيمةٌ تعود للفرد والمجتمع.
نتعلّم لنستغني عن الأمم الكافرة الّتي تسلّطت على ديننا ومقدّساتنا، وسامتنا سوء العذاب، بسبب ضعفنا وتخلّفنا، فإذا أدركنا أهمّيّة التّعلم والتّعليم، وربّينا أبناءنا على ذلك، فإنّنا بذلك نقدّم للأمّة عملًا جليلًا، يُسهم في نهضتها مِنْ جهةٍ، وهو مِنْ جهةٍ أخرى قربةٌ لمن احتسبه عند الله جل جلاله، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ، فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ). المعجم الكبير للطّبرانيّ: 10033
والمؤمن لا يتعلّم ليعيش لوحده متناسيًا هموم أمّته، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا). صحيح البخاريّ: 2446
إنّنا اليوم بحاجةٍ إلى نوعٍ مِنَ الانسجام بين همومنا الشّخصية -مِنَ التّحصيل الدّراسي والتّعلم والوظيفة وغيرها- وبين هموم أمّتنا، لنكون بما نَحصّله في دراستنا لَبِناتٍ صالحةً -ضمن الإطار العامّ لنهضة الأمّة في شتّى المجالات- مِنَ العلم الشّرعيّ والطّبّ والهندسة والصّناعة وغيرها مِنْ فروض الكفايات.
خاتمةٌ:
ما أيسرَ امتحاناتِ طلّابنا إنْ هم أحسنوا الظّنّ بربّهم جل جلاله وتوكّلوا عليه، ومِنْ ثَمّ أخذوا بأسباب النّجاح والتّفوق مِنَ الجدّ والاجتهاد، والمدارسة والمطالعة، مع اغتنام كلّ لحظةٍ مِنْ أوقاتهم في مذاكرة ما تعلّموه في عامهم الدّراسيّ، وتجنّبوا الّلهو واللّعب والتّسويف.
فَلْنذكّرْ أنفسنا، ولنذكّرْ أبناءنا -وهم يجهّزون أنفسهم لامتحاناتهم- بإعداد العدّة لذلك الامتحان العصيب الرّهيب، يوم العرض على ربّ الأرض والسّماء، ولْتكنْ نظرتنا للامتحانات نظرةً متّزنةً معتدلةً، فإنّ الفوز الحقيقيّ، ليس في امتحانات الدّنيا -رغم أهمّيّتها- بل هناك عندما تَزفُّ ملائكة الرّحمن المؤمن إلى الجنّة، قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
فلَنشمّرْ عن ساعد الجِدّ والاجتهاد، و لْنتنافسْ فيما بيننا، لنبلغ أعلى درجات التّقدم والتّفوق، ولنكنْ بما نتعلّمه أداة خيرٍ ونفعٍ للأمّة والمجتمع.
 

http://shamkhotaba.org