مقدمة
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ).
الزَّكاة هي الرُّكن الثَّالث مِن أركان ديننا الحنيف، وهي الرُّكن العمليُّ الثَّاني بعد الصَّلاة، ولعظيم شأنها وأهمّيّتها فقد قرن الله تعالى ذِكرها مع الصَّلاة في مواضعَ كثيرةٍ في القرآن الكريم، فقد قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43].
وقال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110].
وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النّور: 56].
وآياتٌ كريماتٌ أُخرى في الكثير من المواضعِ في القرآن الكريم.
وقد ذكرها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ترغيباً في أدائها وترهيباً مِن منعها؛ في مواضعَ كثيرةٍ، حتى أنَّه كان يبعث الجُبَاةَ لجمع الزَّكاة بأنواعها، وبعدها يقوم بتوزيعها على مستحقّيها، وعلى هذا سار الخلفاء الرَّاشدون من بعده.
بل إنَّ الأمر بلغ بسيّدنا أبي بكرٍ الصِّديق رضي الله عنه أَنْ قال عن الّذين منعوا الزَّكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ".
1- مقاصد الزّكاة
الزَّكاة شرعها الله تعالى لحكمٍ بالغةٍ، وأهدافٍ ساميةٍ، ومصالح كثيرةٍ، ومنافع عظيمةٍ؛ وإِنَّ مِن أهمّها ما ذكره الله تعالى بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التّوبة: 103].
فهي تُطَهِّرُ النَّفس مِن الشُّحِّ، وتُخلِّصها مِن البُخل، كما تُطَهِّر المزكِّي مِن الذُّنوب والآثام؛ كما قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271].
والزَّكاة وقايةٌ لمال المزكِّى مِن الضَّياع والتَّلف، وأمانٌ له مِن الكوارث والآفات، وتُطَهِّر الأموال وتُطَيِّبُها، وتُطَهِّر المجتمع الإسلاميّ؛ مادِّيّاً مِن البؤس والفقر والتَّسوّل والحِرمان، وتُطَهِّره نفسيّاً مِن الحسد والبُغض والحِقد والكراهية.
ولقد شرعها الله تعالى امتحاناً لعباده، واختباراً لصِدقهم في إسلامهم، وصحّة إيمانهم وثقتهم بوعد ربّهم؛ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (.. وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ..).
يعني: برهانٌ على صحّة إسلام مُخرجها، وإيمان باذلها، وثقته بوعد الله تعالى، قال ربنا جل جلاله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
فالمسلم يؤدّيها بدافع الإيمان بالله، واحتساب الأجر الّذي وعد الله به عباده المُنفقين.
والزَّكاة مِن الفرائض الّتي يَتمُّ بها إسلام العبد ويتحقّق إيمانه؛ لتكون طريقاً معبداً لدخول الجنة، والنَّجاة مِن النَّار، عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ أعْرَابيًا أتَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ، دَخَلْتُ الجَنَّةَ، قَالَ: «(تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وتُؤتِي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ) قَالَ: وَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا أزيدُ عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا).
وبالزَّكاة تتضاعف الحسنات وتكثر البركات وتنمو الأرزاق والخيرات، قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
2- عقوبة مانع الزكاة
أَمَّا مَنْ بخِل بما آتاه الله مِن فضله، وامتنع عن أداء ما افترضه الله تعالى عليه، ولم يُؤَدِّ زكاة ماله، فقد جمع الله تعالى عليه مِن عذاب الدّنيا والآخرة ما لا يُطاق ولا يُحتمل.
أمَّا العقوبة الدُّنيوية الّتي جعلها الله تعالى لمانع الزكاة: فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ ب، قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (لَمْ يَمْنَعْ قَوْمٌ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا).
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكَاةَ إِلَّا ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالسِّنِينَ).
فعقوبة الدُّنيا حبس المطر والابتلاء بالقحط والمجاعة ورفع الخير والبركة، {كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33].
أمَّا ما أعدّه الله تعالى لمانع الزكاة مِن العذاب الأُخْرَويّ والعقوبة لَيَقْذِفُ الرُّعب في قلب مَن في قلبه مِثقال ذرّةٍ مِن إيمانٍ، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التّوبة: 34-35].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ).
ولقد أعدَّ الله تعالى لمانع الزَّكاة عقوبةً خاصّةً به، وميّزه بها عَن غيره مِن العصاة مِن أهل النَّار؛ لعظيم جُرمه وكبير تقصيره، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ)، ثُمَّ تَلَا: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180].
خاتمةٌ:
إنَّ الزَّكاة فريضة الله على عباده، فالمالُ مالُ الله تعالى، فهو الّذي قدَّره وآتاه ويسّر أسبابَه، فَرَضَها الله تعالى تزكيةً لنفوس الأغنياء من الشُحّ و البُخل، وشكراً لله تعالى على ما وهب مِن الأرزاق، وإثارةً لمعاني الرَّحمة والمواساة والإحساس بروح الجسد الواحد، كما أنَّها تزكيةٌ لأفئدة مستحقّيها مِن دنسِ الحسَدِ والغِلّ، وفيها إطعامُ ذي الحاجة، ومساعدة ذي الفقر والفاقة، وإعانةٌ لمن تحمّلوا المغارِمَ والدُّيون، بل إنَّ فيها إعزاز هذا الدِّين؛ بتجهيز المجاهدين إِنْ احتاجوا إلى الزَّكاة، وفي القيام بها دفعٌ لغضب الله تعالى وأليم عقابه، فعقوبة الله تعالى الّتي أعدَّها للمقصِّر في دفع زكاة ماله نارٌ تلظَّى، وقودها النَّاس والحجارة وصفائحٌ يكوى بها وجهه وجنبه وظهره، وشجاعٌ أقرعٌ يأخذ بِشِدْقَيْه، كلّ هذا العذاب بسبب الإعراض عَن أمر الله تعالى، والبخل بما آتاه الله تعالى، والمال مال الله، هو الّذي أعطى ومنح، وما نحن إلّا وكلاءٌ على هذا المال، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}، (يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ).
http://shamkhotaba.org