مقدمة:
إنّ سنن الله الكونيّة في عباده -الّتي لا تتبدّل ولا تتغيّر- كثيرةٌ ومتنوّعةٌ، ولا يردّها قويٌّ مهما بلغت قوّته، ولا تتعجّل لمستعجلٍ حتّى تبلغ أجلها الّذي ضربه الله جل جلاله لها، قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62].
وإنّ مِن سنن الله عز وجل في عباده، سَوقُ الظّالمين إلى مهالكهم، وأخذهم بما كسبت أيديهم، وهي سنّةٌ في الظّالمين ثابتةٌ لا تتخلّف أبدًا، سواءٌ كان ظلمهم لأنفسهم أم كان لغيرهم، وإنّ كلّ الأمم الّتي عذّبها الله وأهلكها، علّق هلاكها بظلمها، قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 4-5].
ولقد أتى التّعبير بكلمة "كَمْ" الّتي تستخدمها العرب لتكثير العدد، ليدلّ على كثرة تلك القرى الّتي أخذها الله عز وجل، وفي ذلك بشارةٌ للمظلومين، وحسرةٌ للظّالمين، فليوقن المظلومون أنّ الله سبحانه منتقمٌ من الظّالمين لا محالة، عاجلًا أو آجلًا، فَللكونِ ربٌّ يدبّره، وله حُكمٌ يَفرضه، وقدَرٌ يُنفذه، وسننٌ يمضيها، فلا ييأسنّ مسلمٌ يعلم ذلك، ويوقن به.
نعم، قد يستبطئ المظلوم هلاك الظّالم، لشدّة ما يُعاني مِن الظّلم، وكثرة ما يجد مِن القهر، لا سيّما إذا كان الظّلم سفكًا للدّماء، وانتهاكًا للأعراض، وتهجيرًا من الدّيار، وسلبًا للأموال، ولكن سرعان ما يرتاح المسلم المظلوم المقهور، عندما يتدبّر قول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَل الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
1- لماذا يسلّط الله علينا الظّالمين ثمّ يمهلهم؟
ما تزال فئاتٌ مِن النّاس يُلحّون على هذا السّؤال المكرّر والمعاد، حيث يقولون: إنّنا مؤمنون بربّنا جل جلاله، فلماذا يُسلّط علينا أعداءه الكفرة المجرمين، مِن هؤلاء الّذين يعيثون في الأرض فسادًا، ألم يَعدِ الله سبحانه المسلمين بالحماية والتّأييد والنّصر، فلماذا لا يُعجّل بهلاك الظّالمين؟ وأين رحمته بالمستضعفين الّذين يكتوون بنار الظّلم والقهر، والّذين تُلقَى عليهم الحِممُ البركانيّة فوق رؤوسهم؟ وأين عذاب الله القويّ العزيز لهؤلاء المجرمين؟ وكلّ هذه الأسئلة نتيجةٌ للابتعاد عن الوعي، وتحوّل حال هؤلاء النّاس إلى التّمسك بالشّعارات، وابتعادهم عن المضامين والمبادئ والأحكام، وإلّا فإنّ الواعي الّذي يعي حقيقة الإسلام، لا يمكن أن يقف عند هذا الإشكال، ولا يُوجِع رأسه بهذا السّؤال، ومع ذلك فإنّنا سنجمل الإجابة عليه في النّقاط الآتية:
أوّلًا: إنّ الله عز وجل يُمهل ولا يُهمل: فلا يُؤاخذ الظّالم فور ظلمه، بل يُمهله ويُمهله حتّى لا يبقى له عذرٌ، قال سبحانه: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75].
ولعلّه أن يرجع إلى الله بالتّوبة، ولو آخذ الظّالم فور ظلمه، ما ترك أحدًا على وجه الأرض، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النّحل: 61].
ثانيًا: إنّ الدّنيا دار عملٍ لا دار جزاءٍ: فالله جل جلاله يمهل الظّالم ليتمادى في الظّلم، فيسمع به أهل الأرض، عندئذٍ يأمر الله سبحانه بهلاكه، فكلّما ارتفع الظّالم وعلا، كان أبيَنَ لسقوطه والاعتبار به، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
ثالثًا: إنّ مِن سنن الله جل جلاله في عباده أن يبتلي النّاس بعضهم ببعضٍ: ليعلم الصّادق في إيمانه، والصّابر على قضائه، مِن الكاذب السّاخط على أمر الله، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20].
ففي الوقت الّذي يُمهل الله سبحانه فيه الظّالم ليزداد ظلمًا، فتشتدّ عليه العقوبة في الدّنيا قبل الآخرة، يبتلي الله المؤمنين به لترتفع درجاتهم في الجنّات، قال تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمّد: 4].
فلا بدّ مِن التّمحيص والاختبار بالصّبر على البلاء والشّدائد، حتّى يتميّز الخبيث مِن الطّيب، قال سبحانه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه} [آل عمران: 179].
2- طغيانُ الباغينَ مُؤذِنٌ بالفرجِ من ربِّ العالمينَ
إنّ الله تعالى يغار على دِينه أكثر مِن غيرة عباده وأشدّ، فلقد أهلك جبابرة القرون الّذين خلوا لمّا بلغوا في الظّلم والإفساد مبلغًا عظيمًا، قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزّخرف: 55].
وخاطب نبيّه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ *قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزّخرف: 23-25].
وفي زواجر القرآن مِن أخبار الأمم ما يدعو للاعتبار، قال جل جلاله على سبيل الإجمال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الرّوم: 47].
وإنّ النّظام المجرم وحلفاءه مِن دول الغرب والكفر، قد بلغوا مِن الإفساد والإجرام والطّغيان، مبلغًا يُؤذن بقرب زوالهم، يعلم هذا مَن أدرك واقع هذه الأنظمة العفنة، ثمّ عرف الله سبحانه وآمن بأسمائه وصفات جلاله وكماله، ومِن ذلك: أنّه ملكٌ جبّارٌ عزيزٌ مهيمنٌ ذو انتقام، يغضب ويغار على محارمه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشِ).
لقد أهلك الله عز وجل مِن الأمم الماضية، مَن لم يُعرف إلّا بذنبٍ مع الكفر، حيث أهلك قوم لوطٍ بفاحشتهم، وأهلك قوم شعيبٍ بتطفيف الكيل والميزان، وقوم عادٍ بتكبّرهم وتجبّرهم، وغيرهم مِن الأمم الّتي جعلها الله سبحانه أحاديث للنّاس، فبادت بعدما سادت، وعادت أثرًا بعد عينٍ، فكيف والنّظام المجرم اليوم وحلفاؤه قد بلغوا مِن الاستطالة على المحارم والمقدّسات مبلغًا يُضارعون فيه تلك الأمم السّالفة! فاستشراء الفواحش فيهم ظاهرٌ، والإجرام والوحشيّة في القصف المُمَنهج، والصّواريخ والحمم البركانيّة الّتي يلقيها فوق النّساء والأطفال الأبرياء قد بلغ غايته، وإنّها لبراميلٌ مِن الحقد والإجرام تُلقى فوق رؤوس شعبنا الضّعيف المقهور، لا تستطيع الجبال الرّاسيات أن تتحمّل شيئًا منها، وهذا كلّه يُؤذن بقرب حلول نقمة الله جل جلاله بهم، ولكن في الوقت الّذي يريده، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59].
ولا شكّ أنّ في تأخير انتقام الله عز وجل مِن الظّالمين حكمةٌ من حِكَمِه الّتي لا يعلمها إلّا هو، ومنْ لم تكنْ له معرفةٌ بالسّنن وأخبار الأمم، يجزم بذلك إذا عرف ربّه، و صِدْق وعده، قال سبحانه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].
خاتمةٌ:
عندما يرى الله جل جلاله أنّ هذه الأمّة قد آل أمرها إلى العصيان بعد الطّاعة، وإلى التّفرّق بعد الوحدة، فإنّه لا يؤدّبها باستئصالٍ جماعيٍّ، بغرقٍ أو خسفٍ ونحوهما، كما أهلك الأمم السّابقة، بل إنّما يُسلّط عليها عدوّها، ويمدّ له، حتّى ترجع هذه الأمّة إلى ربّها، وتصحو من نومها.
وإنّه جل جلاله لا يعجل بعجلة أحدنا، فلقد أوصى نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالصّبر وعدم الاستعجال لهلاك المجرمين، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35].
وهذا ما يجب أن نكون عليه في ظلّ هذه الظّروف المريرة الّتي نمرّ بها، ونحن نخوض فيها أقسى المعارك، مع الطّغاة المجرمين، فلْنتحلَّ بالصّبر الجميل، والثّقة الكاملة بالله، بأنّه ناصرٌ دينه، ومهلكٌ عدوّه، وليكنْ عندنا الأمل الواسع بالنّصر القريب، والفتح المبين المُرتقب، ولا ينبغي أن يحملنا استبطاء النّصر على اليأس مِن رحمة الله جل جلاله، وليعتبرِ الظّالمون بمَن سبقهم، ولينتهوا، فوعد الله حقٌّ، وعذابه أليمٌ ، وأمره كلمح البصر أو هو أقرب.
ولنعلمْ أنّ شدّة طغيان الظّالمين المجرمين، مؤذنٌ بقرب موعد هلاكهم، فما حدث لجبابرة الأمس مِن عذابٍ وانتقامٍ، سيحدث مثله لجبابرة هذا العصر، اليوم أو غدًا، وإنّ غدًا لناظره قريبٌ.
http://shamkhotaba.org