التّعرُّض للنّفحات في العشر المباركات
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 7 يوليو 2021 م
عدد الزيارات : 1879
مقدمة:
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٌ ‌فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا فَلَا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا). المعجم الكبير للطّبرانيّ: 519
هذه أيَّامٌ مباركاتٌ، ونفحةٌ ربّانيّةٌ مِن أعظم النَّفحات، جعلها الله تعالى مضمارَ سباقٍ لعباده المؤمنين، يتنافسون فيها بمختلف العبادات والقربات، وهي موسمٌ عظيمٌ مِن أعظم المواسم الّتي تكرَّم الله تعالى بها على عباده، فرفع قدرها وأعلى ذِكرها، وأقسم الله تعالى بها في محكم تنزيله؛ فقال جلَّ وعلا: {‌وَٱلۡفَجۡرِ * وَلَيَالٍ عَشۡرٖ} [الفجر: 1-2].
واللَّيالي العشر هي ليالي عشر ذي الحِجّة، كما قال ابن عبّاسٍ وابن الزُّبير ومجاهدٌ وغيرهم. تفسير ابن كثير: 8/381
ونبيّنا صلى الله عليه وسلم ذكر مكانتها العالية، وحثَّ أمته على اغتنامها؛ بالإكثار مِن الحسنات والأعمال الصَّالحات، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟) قَالُوا: وَلَا الجِهَادُ؟ قَالَ: (وَلَا الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ ‌يُخَاطِرُ ‌بِنَفْسِهِ ‌وَمَالِهِ، ‌فَلَمْ ‌يَرْجِعْ ‌بِشَيْءٍ). صحيح البخاريّ: 969
فالمسلم العاقل يعرف قَدر هذه الأيام الّتي أقسم الله تعالى بها، ويُبادر بالإكثار مِن العمل الصَّالح، لعلّ الله تعالى أَنْ يكرمه بنفحةٍ مِن نفحاته؛ فلا يشقى بعدها أبداً، فأيَّامها أفضل أيَّام الدُّنيا على الإطلاق.
1- فضائل عشر ذي الحِجَّة
خير مَن عرف فضل أيّام عشر ذي الحِجّة وخير مَن عرَّف النَّاس بفضلها هو نبيّنا صلى الله عليه وسلم، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ أَيَّامٍ ‌الْعَمَلُ ‌الصَّالِحُ ‌فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ) -يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ- قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: (وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلا رَجُلًا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ). مسند الإمام أحمد: 1968
يُخبر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ العمل الصَّالح في أيَّام عشر ذي الحِجّة لا يساويه شيءٌ أبداً، إلّا رجلٌ خرج مجاهداً بنفسه وماله في سبيل الله تعالى، فذهب المال وخرجت الرُّوح ولم يرجع بشيءٍ منهما، فهذا عمله يعدل العمل الصَّالح في أيَّام عشر ذي الحِجّة.
لأَنَّ هذه الأيَّام هي أفضل أيَّام الدُّنيا وأعظمها عند الله تعالى على الإطلاق، كما أخبر بذلك النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌مَا ‌مِنْ ‌أَيَّامٍ ‌أَفْضَلُ ‌عِنْدَ ‌اللَّهِ ‌مِنْ ‌أَيَّامِ ‌عَشْرِ ‌ذِي ‌الْحِجَّةِ). صحيح ابن حبّان: 3853
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ ‌مِنَ ‌التَّهْلِيلِ ‌وَالتَّكْبِيرِ ‌وَالتَّحْمِيدِ). مسند الإمام أحمد: 6154
فكما أَنَّ أيَّام العشر مِن ذي الحِجّة هي أفضل الأيَّام وأعظمها عند الله تعالى، فكذلك العمل الصَّالح فيها أزكى وأعظم أجراً، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا ‌مِنْ ‌عَمَلٍ ‌أَزْكَى ‌عِنْدَ ‌اللَّهِ ‌عَزَّ ‌وَجَلَّ ‌وَلَا ‌أَعْظَمَ ‌أَجْرًا ‌مِنْ ‌خَيْرٍ ‌يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى). سنن الدّارميّ: 1815
فعشر ذي الحِجّة هي أفضل الأيَّام وأعظمها، والعمل فيها أزكى وأعظم أجراً، ولا يعدله شيءٌ مِن الأعمال الصّالحات في غيرها مِن الأيَّام، حتّى في أيَّام رمضان المبارك، بل وحتّى في أيَّام العشر الأخير منها، إلّا أَنَّ اللَّيالي العشر الأواخر مِن رمضان أفضل مِن ليالي العشر من ذي الحجة.
والسَّبب في هذه الفضائل والميزات لهذه الأيّام المعدودات ذكرها العالم الجليل ابن حجرٍ العسقلانيّ، فقال: "وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمَكَانِ اجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ". ابن حجر العسقلانيّ، فتح الباري شرح صحيح البخاريّ، 2/460
2- مُستحبَّاتٌ في أيامٍ معدوداتٍ
لقد كثرت الأحاديث والآثار الدَّالة على فضل أيّام العشر مِن ذي الحِجّة، والّتي تحثُّ على الإقبال على الله تعالى بالأعمال الصَّالحة، كما دلّت الأحاديث -أيضاً- على أَنَّ العامل في هذه العشر أفضل مِن المجاهد في سبيل الله؛ الّذي ذهب بنفسه وماله، فمِن الأعمال المُستحبّة فيها:
• تجديد التَّوبة والعزم على الإقلاع عَن الذنوب وعدم العودة إليها: وإِنْ كانت التَّوبة مطلوبةً في كل وقتٍ -ومعلومٌ أَنَّ كلّ ابن آدم خطَّاءٌ وخير الخطَّائين التَّوّابون- لكنّها في أيَّام العشر مِن ذي الحِجّة أشدُّ طلباً، فقد قال ربنا عز وجل: {‌إِلَّا ‌مَن ‌تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمۡ حَسَنَٰتٖ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} [الفرقان: 70].
• ذِكْرُ الله تعالى: بعموم أنواع الذِّكر، وخصوصاً التَّهليل والتَّكبير والتَّحميد، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أنَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ ‌مِنَ ‌التَّهْلِيلِ ‌وَالتَّكْبِيرِ ‌وَالتَّحْمِيدِ). مسند الإمام أحمد: 6154
قال الإمام النّوويُّ: "واعلم أَنَّه يُستحبّ الإِكثار مِن الأذكار في هذا العشر زيادةً على غيره، ‌ويُستَحبُّ ‌مِن ‌ذلك ‌في ‌يوم ‌عَرَفة ‌أكثر ‌مِن ‌باقي العشر". الإمام النوويّ، الأذكار، ص304
• صِيام الأيَّام التِّسعة مِن ذي الحِجّة: قال الإمام النوويُّ: "فليس في صوم هذه التّسعة كراهةٌ، بَلْ هِيَ مستحبةٌ استحباباً شديداً، لا سيّما ‌التَّاسِعُ ‌مِنْهَا ‌وَهُوَ ‌يَوْمُ ‌عَرَفَةَ". الإمام النوويّ، شرح صحيح مسلم، 8/71
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌صِيَامُ ‌يَوْمِ ‌عَرَفَةَ، إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ). سنن التّرمذيّ: 749
• الصَّدقة على الفقراء والمحتاجين: ومدُّ يد العون لهم، وتفقّد أحوالهم، فهي عبادةٌ مطلوبةٌ في جميع الأوقات والأزمنة، لكنّها في أيّام العشر أشدُّ طلباً وأعظم أجراً وأطيب أثراً، قال الله تعالى: {مَن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ ‌قَرۡضًا ‌حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} [البقرة: 245].
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌وَالصَّدَقَةُ ‌تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ). مسند الإمام أحمد: 15284
خاتمةٌ:
قال ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: "وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى ‌مَا ‌يَكَادُ ‌يَقْدِرُ ‌عَلَيْهِ". سنن الدّارميّ: 1815
على هذا الحال الّذي كان عليه التَّابعيّ الجليل سعيد بن جبيرٍ : ينبغي أَنْ يكون حال المسلم مع إقبال العشر مِن ذي الحِجّة، مِن اجتهادٍ في الطَّاعات بأنواعها، و كذلك ينبغي على المسلم أّنْ يبتعد عن المعاصي والذُّنوب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأَنْ يُجاهد النَّفس الأمَّارة بالسُّوء -إِنْ زيّنت المعصية أو فترت عن الطاَّعة- وأَنْ يغتنم نفحات الله تعالى وإكرامه في هذه الأيَّام المعدودات، وأَنْ ينوِّع في العبادات الّتي أكرمنا وشرفنا بها ربّنا عز وجل، وأَنْ يداوم الصَّلاة والصِّيام والصَّدقات والأذكار وتقديم العون للمحتاجين والسّعي أمام الضُّعفاء مِن الأرامل والأيتام وغيرهم، وأّنْ يطرق أبواب الخير كلِّها؛ مع الإخلاص لله تعالى في كلِّ ذلك، فالخاسر فينا مَن أدرك هذه الأيّام دون أَنْ يغتنمها ودون أَنْ يتزوّد منها، فهي أفضل الأيّام على الإطلاق، والعمل فيها لا يعدله عملٌ في غيرها، والمحروم مَن حُرم خيرها.
 

http://shamkhotaba.org