يومُ عرفة كنـزٌ ثمينٌ لِمن عرفه
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 14 يوليو 2021 م
عدد الزيارات : 1779
مقدمة:
في مثل هذه الأيّام مِن كلِّ عامٍ، تستقبل مكّة وفود الله عز وجل وضيوفه، وتفتح ذِراعيها لِتَضمّ بَيْن جَوانحها نُزلاء الحرم، ورُوّاد البيت العتيق، وفي ساحات بيت الله الحرام، تُنصَب الموائد مِن الله الكريم الوهّاب، الّتي أعدّها للحجّاج الوافدين مِن عِباده المؤمنين، فينهلون مِن مَعين الكرم، وينالون مِن رحمة الله سبحانه ورضوانه، غاية المُنى والآمال.
وفي يوم عرفة -تاسع ذي الحِجّة- نرى الحجّاج قد سارعوا إلى عرفاتٍ، وانتشروا في سهله الممتدّ عبر الأفق، متحلّلين مِن مظاهر الدّنيا، متجرّدين عن كلّ أنواع الزّينة ومتاع الحياة، مقبلين على الله جل جلاله بقلوبٍ منكسرةٍ، وأصواتٍ مرتفعةٍ بالتّلبية والدّعاء، وضمائر نقيّةٍ مُفعَمةٍ بصادق الأمل والرّجاء، فتبارك الله الّذي ألّف بين هؤلاء العباد، وجمعهم إخوانًا مِن غير معرفةٍ أو قرابةٍ أو ميعادٍ، اللّهمّ إلّا قرابة الدّين، ولُحمة الإيمان، وأُخوّة الإسلام.
هناك في عرفاتٍ، يَنتظم عِقدهم، ويَجتمع شَملهم، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وبُعْد ديارهم، فيتجلّى عليهم الحقّ سبحانه، فيُجيب دُعاءهم، ويُحقّق آمالهم، ويغسل عنهم ذُنوبهم، ويُباهي بهم ملائكته الأطهار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا). صحيح ابن خزيمة: 2839
فيالها مِن فرحةٍ عُظْمى، ومنّةٍ إلهيّةٍ كُبرى، يَفرح بها المؤمنون بعفو الله جل جلاله، وَيَسعدون بتجلّيه عليهم، وتجعل يومهم يوم العيد الأكبر، ونحن إذ حُرِمنا شرف المثول بين يدي الله سبحانه في بيته الحرام، والوقوف في مِنى ومزدلفةٍ وعرفاتٍ، فإنّ الله تعالى -بمنّه وكرمه- يُعطي الأجر كاملًا، لكلّ مَن منعه العذر مِن الوصول إلى تلك الدّيار المقدّسة، إِنْ صحّت النّيّة وصَفتْ، ويُكرمه بما يُكرم به عباده الحجّاج الواقفين على صَعيد عرفاتٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ، فَقَالَ: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ). صحيح مسلم: 1911
1- عرفة: الوحدة الإسلاميّة بين شعائر الدّين، وبين الواقع والتّطبيق
إِنَّه يوم الوحدة الإسلاميّة، الّتي أرسى الإسلام قواعدها، وحثّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم على تحقيقها، في العبادات، والقيم، والأخلاق، فما مِن عبادةٍ مِن العبادات، أو خُلقٍ مِن الأخلاق، إلّا ودعا فيه الإسلام إلى الوحدة، وتحقيق الأُلفة والمساواة بين أفراد الأمّة الإسلاميّة، امتثالًا لقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
وإِنَّ هذا المعنى لَيَتجسّد بوضوحٍ في يوم عرفة، حيث يلتقي المسلمون مِن مختلف أقطار الدّنيا، وكافّة الطّبقات، وقد ساوى الإسلام بينهم بالوقوف في عرفاتٍ، لِتذوب كلّ الفوارق، وتتلاشى جميع المصالح والجنسيّات، في أعظم مظهرٍ، يُجسّد معنى التّذلّل لله وحده، فلا يتكبّر أميرٌ، ولا يرتفع غنيٌّ، ولا يَفْخَرُ ذو نسبٍ، لبسوا جميعًا لباسًا واحدًا، كأكفان الموتى، وقد وحّدتهم رابطة الإسلام، فلم يَفضُل أحدٌ أحدًا إلّا بالتّقوى، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وعَنْ أَبِي نَضْرَةَ رضي الله عنه حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: (أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى). مسند أحمد: 23489
إِنَّ التّجمّع العالميّ في يوم عرفة، هو التّجمّع الّذي لا مثيل له، في تجسيد معنى المساواة بين النّاس جميعًا، حيث تَلْهَجُ ألسنتهم بشعار التّكبير والتّهليل، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ رضي الله عنه عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). سنن التّرمذيّ: 3585
إنَّ شعار التّوحيد الخالص لله، يؤلّف بين القلوب ويوحّدها، قال تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63].
نعم: في موقف عرفة، دعوةٌ لإحياء روح الأُلفة، ونَبذ الفُرقة، ولَكِنْ -للأسف- فإنّ الأمّة اليوم، عرفت الوحدة في عرفة شعارًا وتقليدًا، وافتقدتها في سلوكها تطبيقًا، حيث ارتضت الفُرقة بدل الاجتماع، مُتجاهلةً الوعيد الشّديد مِن مفارقة الجماعة، عَنْ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً). صحيح البخاريّ: 7054
فإذا اجتمعت الأمّة بأجسادها في عرفاتٍ، ثمّ مزّقتها الغايات، وشتّتها الرّايات، كتب الله سبحانه عليها الشّقاء، وسلّط عليها الأعداء، ولن يَصلح آخرها إلّا بما صَلُحَ به أوَّلُها.
2- ليوم عرفة فَضْلانِ، مكانيٌّ وزمانيٌّ
إِنَّ مِن عظيم رحمة الله جل جلاله بعباده، ومِن دقائق لطفه بهم، أَنَّه جعل فُرَص التّجلّيات الإلهيّة، والنّفحات الرّبانيّة، عامّةً في عباده، فما مِن فُرصةٍ مكانيّةٍ أو زمانيّةٍ، يتجلّى الله سبحانه فيها على عباده بنفحات الرّحمة واللّطف، إلّا ويجعل مِن هذه التّجلّيات، فرصةً سانحةً لعباده جميعًا، في كلّ زمانٍ ومكانٍ، وإنّنا في هذه الأيّام، نمرّ بموسم الحجّ إلى بيت الله الحرام، وفي النّاس -وهم قِلّةٌ- مَن أكرمهم الله عز وجل، فحقّق لهم أُمْنياتهم، وفي النّاس مَن حاولوا ورغبوا، ثمّ حِيْلَ بينهم وبين ما كانوا يتأمّلون، فهل فاز الّذين وُفِّقوا للوقوف بعرفة هذا العام؛ بالتّجليات الإلهيّة دون غيرهم؟ بالطّبع لا، بل كان فضل الله سبحانه -ولا يَزال- أوسع وأجزل، حيث جعل مِن يوم عرفة فضلًا مكانيًّا، وفضلًا زمانيًّا، يشمل النّاس كافّةً، فلقد أقسم الله سبحانه بعشر ذي الحجّة -ويوم عرفة واحدٌ منها- لِيُنوّه بعظمة المُقسَم به، فقال: {وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2].
وجعل في هذا القسم جبرًا لخواطر أولئك الّذين حُرموا حجّ بيت الله الحرام، وكأنّه يقول لهم: إنّ فضيلة الوقوف بعرفة تلاحقكم زمانيًّا، وإِنْ قعدتم عن هذه الفضيلة مكانيًّا أينما كنتم، حيث إِنَّ الأعمال تابعةٌ للنّيّات، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ عَلَى المِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى). صحيح البخاريّ: 1
فكان مِن فضل الله العظيم، أَنَّه يكتب للعبد ثواب النّيّة إذا حَبسه العذر، ومِن عظيم كرمه أيضًا، أَنَّه نوّع العبادات، ليتسنّى للمسلم أَنْ يَضْرِبَ مع أهل كلّ عِبادةٍ بسهمٍ، في عرفات وفي غيرها، فيصلّي، ويصوم، ويقرأ القرآن، ويَذْكُرُ ربّه جل جلاله، ويطوف بأبواب الفقراء والمساكين، ويقف معهم في شِدّتهم، فينال أجر المجاهد في سبيل الله سبحانه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ). صحيح البخاريّ: 5353
فكم مِن رجلٍ متحرّق القلب والفؤاد، يحدوه شوقه للوقوف بعرفاتٍ! ولكنّ قضاء الله جل جلاله حال بينه وبين تحقيق أمنيته هذه، وجلس يتجرّع حُرْقَتَهُ وألمه، ولكنّ ألم شوقه هذا ربّما كان خيرًا مِن العبادة؛ الّتي لو أُتيح له أَنْ ينفِّذها، لما حقّقت له معشار ما حقّق له هذا الشّوق، الّذي هو السُّلّم الّذي يرقى به إلى صعيد وسُدّة القرب مِن الله سبحانه، والقُرب هنا معنويٌّ لا حِسيٌّ، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].
فعندما يجاهد الإنسان نفسه ليتقرّب إلى الله جل وعلا، فمعاذ الله أَنْ يكون هذا التّقرّب مِن مكانٍ بعيدٍ إلى مكانٍ قريبٍ مِن الله سبحانه، بل إِنَّه القُرب الّذي يتمثّل في رضا الله عن العبد، الّذي يُمكن أَنْ يناله الإنسان في عرفاتٍ، أو في أيّ مكانٍ آخر مِن بقاع الأرض.
خاتمةٌ:
جديرٌ بنا وقد سمعنا عن فضل يوم عرفة، أَنْ نعرف لهذا اليوم شَرفه، وأَنْ نقوم بحقّ الله فيه؛ بالإكثار مِن الدّعاء بالنّصر والفرج للمسلمين، والإقبال فيه على الله بتوبةٍ صادقةٍ، وقلوبٍ نقيّةٍ.
أَمَا وقد عرفنا أَنَّ يوم عرفة مِن أفضل أيّام الدّنيا، وأَنَّ فُرصته الزّمانيّة هي صنوٌ لتلك الفُرصة المكانيّة، فلنتصوّر أنفسنا أنّنا حجّاجًا في هذا العام، وأنّ الله جل جلاله أكرمنا بالّذي أكرم به إخواننا الّذين وقفوا في عرفاتٍ، وطافوا بالبيت العتيق، ولْنَنْتَهِزْ لحظات هذه الأيّام بشتّى أنواع العمل الصّالح، الّتي تقرّبنا إلى الله سبحانه زُلفى، ولعلّ مِن أجلّها: الطّواف بأبواب الفقراء والمساكين، وتقديم العون لهم في محنهم وشدّتهم، فإنّ خير الأعمال الصّالحة، ما تعدّى نفعها للغير، ولنستمسكْ بحبل الله جميعًا، محقّقين معنى الأخوّة الإسلاميّة الّتي تسودها الألفة والمحبّة، ولننفضْ عن قلوبنا التّنازع والبغضاء، الّتي هي سبب الفشل والضّعف والذّلّة والهوان.
 

http://shamkhotaba.org