مقدمة:
ما قيمة الحياة إذا لم يكن للمرء عقيدةٌ يُجاهد مِن أجلها، ويضحّي في سبيلها، ويفرح لانتصاره في تحقيقها؟ وما منفعة العيش إذا لم يكن كفاحًا فيه تعبٌ ونصبٌ، ثمّ يتبعه راحةٌ فيها مسرّةٌ وهناءٌ؟ وما جدوى السّير الطّويل في الصّحراء الجرداء، إذا لم يكن في نهايتها واحةٌ خضراءُ، يجدُ عندها المرء ما يتمنّى من ظلٍّ وفاكهةٍ وماءٍ؟
إنّ التّضحية ألوانٌ ودرجاتٌ؛ تضحيةٌ بالنّفس والرّوح، وتضحيةٌ بالمال والمتاع، وتضحيةٌ بالوقت والجهد، وبالرّغبة والهوى، وإنّ للتّضحية بمختلف أنواعها في تاريخ الأمّة ذِكرًا وخيرًا، وتاريخًا وأثرًا، وإنّ إعجاب الإنسان لا ينقضي بهذا المجتمع الإسلاميّ الأوّل، الّذي تَجمّع له مِن الفضائل والمكارم ما جعله أنموذجًا فريدًا بين المجتمعات الفاضلة، وحسبك أنّه كان مجتمعًا يقوم على التّضحية النّبيلة الجليلة في كلّ ميدانٍ.
قال الشّاعر أحمد شوقيّ:
وما نيل المطالب بالتّمنّي ولكن تُؤخذ الدّنيا غِلابَا
وما استعصى على قومٍ منالٌ إذا الإقدام كان لهم رِكابَا
1- الإسلام دين التّضحيات
إنّ الإسلام دينٌ يقوم على البذل والعطاء، والتّضحية والفِداء، وتحمّل الشّدائد والعقبات، وكلّ ذلك ثمنٌ لجنّةٍ عرضها الأرض والسّماوات، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214].
ولن تنتصر دعوة الإسلام إلّا بالتّضحيات، لأنّ طريق رسالتنا محفوفٌ بالمكاره، مليءٌ بالمخاطر، دماءٌ وأشلاءٌ، وتهجيرٌ وتدميرٌ، وسجونٌ وتعذيبٌ، ولا يصطفي ربّنا جل جلاله لحمل هذه الرّسالة العظيمة، وتحمّل الشّدائد في سبيلها، إلا الخُلّص من عباده، قال سبحانه: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74].
ولقد ترك لنا سلفنا الصّالح -شبابًا وشيبًا، وأطفالًا ونساءً- نماذجَ مشرقةً مِن التّضحية في كلّ ميادينها، في سبيل نصرة هذا الدّين، فهذا أنسٌ رضي الله عنه يحدّثنا عن عمّه أنس بن النّضر فيقول: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ"، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ -يَعْنِي المُشْرِكِينَ- ثُمَّ تَقَدَّمَ"، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: "يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ"، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ قَالَ أَنَسٌ: "كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] إِلَى آخِرِ الآيَةِ".
ولقد ضحّى سلفنا الأخيار رضي الله عنهم بأموالهم أيضًا في سبيل ما عند الله جل جلاله، فهذا صهيبٌ الرّوميّ رضي الله عنه الّذي تجلّت في هجرته معاني التّضحية بالمال، وبذْلِه رخيصًا في سبيل الله عز وجل، حيث تخلّى عن كلّ ماله، ليسمح له كفّار مكّة بالهجرة إلى المدينة المنوّرة، عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: وَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْهَا -يَعْنِي قُبَاءَ- فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: (يَا أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعُ).
هذا ولم تنته هذه النّماذج وغيرها بانتهاء عصر السّلف الصّالح رضي الله عنهم، بل إنّ الخير مستقرٌّ في هذه الأمّة إلى يوم القيامة، وعصرنا الحاضر مليءٌ بمثل تلك الصّور المثلى في التّضحية، فقد رأينا في أهل الشّام، أطفالًا وشبابًا وشيوخًا طاهرين، عطّروا بدمائهم الزّكيّة هذه الأرض المباركة.
2- حاجة الأمّة إلى التّضحية
لقد جعل الله نصرة هذا الدّين، وتحقيق التّكافل بين طبقات المجتمع، وتقوية الأمّة وتحقيق تماسكها، قائمًا على أساس البذل والتّضحية، حتّى يهابها أعداؤها، وتصبح قويّة البنيان، عزيزة الجانب، وما أحوج الأمّة في أيّام محنها وشدائدها إلى دروسٍ في التّضحية والفِداء، تستمع إلى تفاصيلها، وتشرب مِن معينها، حتّى يتجدّد فيها العزم على الجهاد، وينبت فيها وعيٌ تامٌّ لمحاربة البغي والفساد، لتنشأ نشأةً روحيّةً قويّةً، تُحْيي موات الآمال، وتَبني بناء الأبطال، وتسير دائمًا إلى الأمام، فإنّ التّضحية شعار الكرامة، وعنوان الشّرف، ودليل الإيمان، فلا يهمّ المضحّي في سبيل عقيدته، أوقعَ على الموت، أمْ وقع الموت عليه، وإنّ الأمّة الإسلاميّة إذا سرتْ في أعطافها روح التّضحية والفِداء، زال عنها العناء والشّقاء، وسعدت برضا ربّ الأرض والسّماء، وإنّ الصّراع بين الحقّ والباطل قديمٌ مستمرٌّ لمْ ولنْ يتوقّفَ، قال سبحانه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
وإنّ أهل الباطل يتفانون في الدّفاع عن باطلهم، فيضحّون بكلّ عزيزٍ لديهم في سبيل ذلك، قال تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص: 6].
ومادام الأمر هكذا، فلا بدّ للحقّ مِن أقوامٍ يدفعون عنه عدوان المعتدين، ويحفظونه مِن عبث الضّالين المبطلين، وهيهات أن تقوم للحقّ قائمةٌ إلّا بالتّضحية والبذل، قال جل جلاله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحجّ: 40].
فأهل التّوحيد أولى أن يُضحّوا من أجل الحقّ الباقي، وإنّ العصر الّذي نحياه يشهد تكالب الأعداء على الإسلام والمسلمين، ولا سبيل لدفعهم وردّ عاديتهم مِن غير أن تكون لدى الأمّة روح التّضحية والإقدام، فإذا تخلّق أفرادها بهذا الخُلق، تَولّد عندها القدرة على إنجاز أهدافها، كما أنّها تصبح مستعصيةً على أعدائها، ويقذف الله عز وجل مهابتها في قلوب أعدائها فلا ينالون منها، فتعيش عزيزةً مُهابةً، تسودها المحبّة، ويعمّها التّراحم.
نعم: على أكتاف المضحّين تنهض الدّعوات، وبتضحياتهم تحيا وتعيش، وتجتاز المحن والصّعاب، وتُحطّم السّدود والقيود، فيجب على كلّ مسلمٍ معرفة حجم الضّربات القاسية، الّتي توجّه للمسلمين في كلّ مكانٍ، حتّى يقدّر مقدار التّضحية الواجبة واللّازمة للذّود عنهم، وحماية الإسلام.
خاتمةٌ:
حيث علِمنا أنّ ديننا الحنيف لا يقوم إلّا على البذل والتّضحيات، وبذل الغالي والنّفيس، في سبيل نصرة هذا الدّين، وأنّ طريقه محفوفٌ بالمكاره والمخاطر، جديرٌ بنا أن نقرأ سيرة سلفنا الصّالح رضي الله عنهم، لنتعلّم دروسًا حيّةً وقويّةً في التّضحية والفداء، من سيرتهم العطرة، وحياتهم الزّاهرة، وحريٌّ بنا أن نعتصم بحبل الصّبر والإيمان، في هذه الظّروف الدّقيقة الّتي يُمتَحن فيها الإسلام والمسلمون، ممّا يوجب علينا جميعًا أن نجمع شملنا، وأن نوحّد صفوفنا، لنخوض معركةً صادقةً فاصلةً، يبعثنا عليها حقنّا الّذي أُمرنا أن نقاتل من أجله، فإمّا النّصر والظّفر، فنعيش أعزّةً في ديارنا، أمناء في أداء رسالة ربّنا جل جلاله، وإمّا الموت في ساحة الشّرف والكرامة، وفي ميدان الحقّ والعدالة.
http://shamkhotaba.org