الخيرات الحِسان في ذِكر الرَّحمن
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 28 يوليو 2021 م
عدد الزيارات : 1798
مقدمة:
إنَّ مِن أعظم العبادات الّتي نبَّه الإسلام إليها وركَّز على أهميَّتها: عبادة الذِّكر، فالذِّكرُ عبادةٌ سهلةٌ يسيرةٌ، ليس فيها إنفاق مالٍ، ولا تتطلَّب شجاعةً ولا مخاطرةً ولا إقدامًا، ولا تَستلزم فراغ وقتٍ، ولا تحتاج جهدًا، عبادةٌ شأنها عظيمٌ، وأثرها كبيرٌ، فهي ترفْع الدَّرجات وتمحو السَّيِّئات، عبادةٌ يُطيقها الكبير والصَّغير، والرّجل والمرأة، والصَّحيح والمريض، عبادةٌ تُؤدَّى في كلِّ وقتٍ وحينٍ وفي كلّ مكانٍ، إنَّها عبادةٌ  قَدْ تُقارِب في فضيلتها فضْلَ الجهاد في سبيل الله، الَّذي فيه القتل والضَّرب، وتطايُر الرِّقاب وتمزُّق الأجساد، وتناثر الأشلاء، فَعن هذه العبادة الجليلة يُحدِّثنا النّبيّ  صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ ‌بِخَيْرِ ‌أَعْمَالِكُمْ وَأَرْضَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ) قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (ذِكْرُ اللَّهِ). سنن ابن ماجه: ٣٧٩٠
ولِعظيم شأن هذه العبادة، لم يَأمر ربُّنا عز وجل أَنْ نُكثر مِن عبادةٍ مِن العبادات إلّا عبادة الذِّكر، فَلَمْ يَقُلْ ربُّنا: صلُّوا كثيرًا، أو صوموا كثيرًا، أو حجُّو كثيرًا، ولكن قال ربُّنا تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41].
والفرق بين مَن يذكر الله تعالى والغافلُ عن ذكره كمثل الحيِّ والميِّت، فَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (‌مَثَلُ ‌الَّذِي ‌يَذْكُرُ ‌رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ). صحيح البخاريّ: ٦٤٠٧
1- لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ‌"كَانَ ‌يَذْكُرُ ‌اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ". سنن ابن ماجه: 302
فكيف كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه؟! لقد شرع الله تعالى لكلِّ عملٍ أو تصرّفٍ يقوم به الإنسان ذِكرًا يقوله وينطق به، لكي لا يغفل الإنسان عَن ربِّه سبحانه، فذِكرٌ للطَّعام والشَّراب، وذكرٌ للِّباس، وذِكرٌ للنَّوم، وذِكرٌ للاستيقاظ مِن النَّوم، وذِكرٌ لدخول البيت، وذِكرٌ للخروج مِن البيت، وذِكرٌ لدخول السُّوق، وذِكرٌ لدخول البلد، وذِكرٌ لرؤية الهلال، وهكذا، يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].
حتَّى أَنَّ الله تبارك وتعالى طالبنا بذِكره مع العبادات، أو بعد الفراغ منها:
ففي الجِهاد في سبيل الله وحال مُلاقاة الأعداء، يأمر الله تعالى بالثَّبات وبالإكثار من ذِكره، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
وبعد الانتهاء مِن إقامة الصَّلاة -والّتي هي مِن أعظم العبادات وهي عماد الدِّين- يوصي ربُّنا بذِكره؛ فيقول: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النّساء: 103].
وبعد أداء صلاة الجمعة يوصينا ربُّنا عز وجل بالإكثار مِن الذِّكر، فيقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
وفي مناسك الحجِّ يأتي الأمر بذِكر الله في ثنايا أعمال الحجيج، فيقول الله سبحانه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].
لذلك لمّا جاء الصّحابيُّ يسأل النّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن عملٍ يتشبَّث به ويتمسَّك به؛ لعجزه عن القيام بأعمال الخير الّتي أكرم الله تعالى بها عباده المسلمين، أجابه بأَنْ يُداوم ذكرَ الله تعالى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ‌إِنَّ ‌شَرَائِعَ ‌الإِسْلَامِ ‌قَدْ ‌كَثُرَتْ ‌عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: (لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ). سنن التّرمذيّ: ٣٣٧٥
2- في ذِكر الرّحمن، خيراتٌ حِسانٌ
مَن ذكر الله تعالى أحسَّ بسكينة النفس، وطمأنينة القلب، فيحسُّ بالأمن إذا خاف النّاس، والسُّكون إذا اضطرب النَّاس، واليقين إذا شكَّ النَّاس، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرّعد: 28].
الذِّكر مُطهِّرٌ للقلب مِن الذُّنوب والوساوس، وطاردٌ للشَّيطان، ويُكسِب القلب رِقَّةً ولينًا، ويجعله مستعداً للخشوع والخضوع لله تعالى، ومنشرحاً للعبادة والطّاعة، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (‌إِنَّ ‌هَذِهِ ‌الْقُلُوبَ ‌تَصْدَأُ، ‌كَمَا ‌يَصْدَأُ ‌الْحَدِيدُ إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا جِلَاؤُهَا؟ قَالَ: (كَثْرَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ). شُعب الإيمان للبيهقيّ: ١٨٥٩
ومِن أعظم الذِّكر: تلاوة القرآن.
كثرة الذِّكر تُبعد الشَّيطان عن القلب، وأقرب ما يكون الشَّيطان مِن القلب الغافل، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا عَلَى قَلْبِهِ الْوَسْوَاسُ، فَإِنْ ‌ذَكَرَ ‌اللَّهَ ‌خَنَسَ، وَإِنْ غَفَلَ وَسْوَسَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [النّاس: 4]". المستدرك على الصّحيحين: ٣٩٩١
كثرة الذِّكر تحمي الإنسان وتحمي ذرِّيّته وتحمي بيته ومأكله ومشربه ومسكنه مِن الشَّيطان وشرّه وخُبثه وأذاه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ ‌جَنِّبْنَا ‌الشَّيْطَانَ ‌وَجَنِّبِ ‌الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا). صحيح البخاريّ: ٧٣٩٦
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَالَ: يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، ‌وَوُقِيتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ). سنن أبي داوود: 5095
وللذِّكر ثمارٌ عظيمةٌ وفوائد جليلةٌ، يحصّلها مَن داوم الذّكر وكان لسانه رطبًا بذكر الله تعالى؛ في كلّ وقتٍ وحينٍ.
خاتمة:
إِنَّ فوائد ذِكر الله تعالى أكثر مِن أَنْ تُحصى وتُعدَّ، فقد جعل الله تعالى كلَّ الخير في ذِكره سبحانه، ولهذا كان حال النّبيِّ صلى الله عليه وسلم ذكرٌ دائمٌ لله تعالى، لأَنَّ الذّاكر ذهب بخير الدُّنيا والآخرة، كما أخبر النّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فينبغي على الإنسان العاقل أَنْ يتمسَّك بهذه العبادة، وأَنْ يداومها في كلّ لحظات حياته، وأَنْ يكون لسانه رَطْبًا بذِكر الله تعالى، وخصوصًا ونحن نعيش أيَّامًا عصيبةً ثقيلةً محمّلةً بالابتلاءات والمصائب، فلنكثر مِن الذِّكر -بأنواعه- عامةً، والاستغفار خاصَّةً، لعلَّ الله تعالى أَنْ يُفرِّج عنَّا ما نحن فيه.
ونحن نعيش أيَّام الجهاد ومواجهة أعداء الله تعالى على أرضنا المباركة، نستحضر أمر ربّنا عز وجل بأَنْ نذكره عند لقاء العدوّ، ونرجوه -سبحانه- أَنْ ينصرنا وأَنْ يخفِّف عنَّا ما نحن فيه.
فمن أراد راحة الدُّنيا وسعادتها، والآخرة ونعيمها، فليُكثر مِن ذِكر الله تعالى.

http://shamkhotaba.org