مقدمة:
إنّ الإسلام هو دِين الأخلاق الفاضلة والشّمائل الطّيّبة الحسنة، فلقد دعا إلى التّحلّي بالفضائل، والتّخلّي عن الرّذائل، وحثّ على مكارم الأخلاق والصّفات الحميدة، وإنّ مِن بين هذه الصّفات الفاضلة: صفةً جبل الله سبحانه عليها أنبياءه ورسله، وأمر عباده المؤمنين أن يتحلَّوا بها، ونهاهم أن يتمثّلوا بضدّها، تلكم الصّفة الّتي مدح بها ذاته العليّة؛ فقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
وإنّ هذه العزّة منحةٌ منحها الله لعباده المسلمين، واختصّهم بها، وإنّها اللّباس العظيم الّذي خلعه على عباده، كما خلع على أهل الكفر الذّل والهوان، وليس العزّ والذّلّ مرتبطًا ببدن الإنسان، ولكنّه بروحه وقلبه، وثباته على دينه وعقيدته، فكم مِن أحرار الأبدان هم أسرى الأرواح؟! وكم مِن أسرى الأبدان أحرار الأرواح؟ أرواحهم طليقةٌ حرّةٌ، حرّرها التزامها بشرع الله عز وجل مِن عبوديّة البشر.
مَن كان مقرّبًا مِن ملكٍ أو رئيسٍ، أو غنيٍّ أو قويٍّ، أو ما أشبه هؤلاء، ظنّ نفسه قويًّا بقوّتهم، مستغنيًا بغناهم، فلا حاجة له إلى الاعتزاز بالخالق، ولا يفيق هذا الصّنف مِن سكرته إلّا إذا تغيّر حالُ مَن اعتمد عليهم، فمات الملك، أو عُزل الرّئيس، أو افتقر الغنيّ، أو ضعُف القويّ الّذي كان يركن إليه ويتوكّل عليه، ولهذا مَن أحبّ أن يكون له عِزٌّ دائمٌ لا يفنى، فلا يستعزّنّ بعزٍّ يفنى، وكلّ عزٍّ في الدّنيا فانٍ، إلّا ما كان عزًّا نابعًا مِن إيمان العبد بربّه جل جلاله، عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنه: عَلَّمَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ، قَالَ ابْنُ جَوَّاسٍ: فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: (..وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ).
فمَن اعتزّ بالله سبحانه دام عزّه، ومَن اعتزّ بغيره فلا بقاء لعزّه، إذ لا بقاء لمِنْ هو به معتزّ، ولنا أن نتأمّل ماذا فعل الله عز وجل بالعِجل المزيّف الّذي صنعه السّامريّ لبني إسرائيل، ليعبدوه مِن دون الله سبانه، لمّا ذهب سيّدنا موسى عليه السلام لميقات ربّه جل جلاله، قال تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه: 97].
اجعلْ بربّكَ شأنَ عزّكَ يستقرُّ ويثبتُ فإنِ اعتززتَ بمَنْ يموتُ فإنَّ عزّكَ ميّتُ
1- مفهوم العزّة، وأهمّيّتها في حياة المؤمن
العزّ: خلاف الذّلّ، وهو في الأصل: القوّة والشّدّة والغلبة والرّفعة والامتناع، يُقال: عَزّ يَعَزّ-بالفتح للمضارع- إذا اشتدّ وقوي، وعزّ الشّخص: قوي وبرئ مِن الذّلّ، والعزّة: حالةٌ مانعةٌ للإنسان مِن أن يُغلب.
وإنّ العزّة والإيمان صنوانٌ لا يفترقان، فمتى وقر الإيمان في قلب الرّجل، وتشبّع به كيانه، واختلط بشغاف قلبه؛ تشرّب العزّة مباشرةً، فانبثقت منه أقوالٌ وأفعالٌ صادرةٌ عن شعورٍ عظيمٍ بالفخر والاستعلاء، لا فخرًا واستعلاءً على المؤمنين، بل اعتزازًا على الكافرين، فيَنتجُ عن هذا الخلق الكريم صدقُ الانتماء لهذا الدّين، وقوّة الرّابط مع أهله، والتّواضع لهم، والرّحمة بهم، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
"فجعل العزّة صنو الإيمان في قلب المؤمن، إنّها العزّة المستمدّة مِن عزّته سبحانه، العزّة الّتي لا تهون، ولا تنحني ولا تلين، ولا تُزايل القلب المؤمن في أحرج اللّحظات، إلّا أن يتضعضع فيه الإيمان، قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] وكيف يعلمون وهم لا يتذوّقون هذه العزّة ولا يتّصلون بمصدرها الأصيل؟!".
ولقد قال الرّاغب الأصفهانيّ: "العزّة: منزلةٌ شريفةٌ، وهي نتيجةُ معرفة الإنسان بقدر نفسه، وإكرامها عن الضّراعة للأعراض الدّنيويّة كما أنّ الكبر نتيجة جهل الإنسان بقدر نفسه وإنزالها فوق منزلتها".
وممّا يُظهر أهميّة هذه الصّفة ومزيّتها: أنّ الله جل جلاله قد تسمّى بها في كتابه، فسمّى نفسه العزيز، قال ابن بطّال: "العزيز: يتضمّن العزّة، والعزّة يُحتمل أن تكون صفةَ ذاتٍ بمعنى: القدرة والعظمة، وأن تكون صفةَ فعلٍ بمعنى: القهر لمخلوقاته والغلبة لهم، ولذلك صحّت إضافة اسمه إليها".
ومَن تأمّل كتاب الله عز وجل تبيّن له أنّه لم يفتأ يبثّ في قلب المؤمن وروحه هذا الشّعور العظيم بالعزّة، المستمدّة مِن عزّة هذا الدّين وقوّته، تلكم العزّة الّتي تجعله يترفّع عن كلّ ما مِن شأنه أن يَحطّ مِن قدره، ولنتأمّلْ قول الله سبحانه: {ولَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
ففي هذه الآية أدبٌ قرآنيٌّ عظيمٌ، وتوجيهٌ ربّاني كبيرٌ للثّلة المؤمنة المجاهدة الصّابرة في كلّ وقتٍ، يحثّهم فيها على عدم الهوان والانكسار، الّذي يُنافي العزّة ويُضادّها، فهو أمرٌ للمؤمنين بالثّبات على عزّتهم -لا سيّما في مثل هذه الأوقات العصيبة- لتبقى العزّة ملازمةً لهم، لا تنفكّ عنهم، في الضّراء والسّرّاء، في الفرح والحزن، في الحرب والسّلم.
2- مَن أخطأ طريق العزّة حُرم ثمارها
إنّ المُعجَب بنفسه، والمَغرور بقوّته، أو بماله وثروته، أو بجيشه وأنصاره، ونحو ذلك ممّا يعتزّ به النّاس، لا يشعر بحاجته إلى الله عز وجل حتّى يعتمد عليه، بل هو محجوبٌ بنفسه عن ربّه سبحانه، لا سيّما إذا وجد مِن حوله ألسنة زورٍ، وأبواق نفاقٍ، تُعظّمه وتُضخّمه وتَنفخ فيه، ولا تُزاح الغشاوة عن بصره، إلّا إذا فقد ما يتكّئ عليه مِن قوّةٍ أو مالٍ، فهناك يظهر على حقيقته ضعيفًا عاجزًا لا حول له ولا طول، ولقد حدّثنا القرآن عن صاحب الجنّتين الّذي حاور صاحبه قائلًا: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34].
فكانت نتيجة غروره أنِ احترقت جنّته، قال تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [الكهف: 42-43].
فكم قد رأينا غنيّ قومٍ افتقر، وعزيز قومٍ ذلّ، قالت هند بنت النّعمان بن المنذر -ملك الحيرة- لمّا سُئلتْ عن أمرها: "لقد رأيتنا ونحن مِن أعزّ النّاس وأشدّهم مُلكًا، ثمّ لم تَغبْ الشّمس حتّى رأيتنا ونحن أقلّ النّاس، وأنّه حقٌّ على الله ألّا يملأ دارًا خيرةً إلّا ملأها عِبرةً".
فلنعلم أنّه لا عزّة لنا إلّا بهذا الدّين، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَأَتَوْا عَلَى مَخَاضَةٍ وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَنَزَلَ عَنْهَا وَخَلَعَ خُفَّيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ بِهَا الْمَخَاضَةَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ رضي الله عنه: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا، تَخْلَعُ خُفَّيْكَ وَتَضَعُهُمَا عَلَى عَاتِقِكَ، وَتَأْخُذُ بِزِمَامِ نَاقَتِكَ، وَتَخُوضُ بِهَا الْمَخَاضَةَ؟ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوكَ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: "أَوَّهْ لَمْ يَقُلْ ذَا غَيْرُكَ أَبَا عُبَيْدَةَ جَعَلْتُهُ نَكَالًا لَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ".
وإنّ العجيب ما نراه مِن بعض النّاس ممّن أعمت الدّنيا بصائرهم، فأصبحوا يرون أنّ العزّة كلّ العزّة في اتّباع الغرب في عاداتهم وتحلّلهم الأخلاقيّ فقلّدوهم، ونسي هؤلاء وعيد الله سبحانه: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النّساء: 138-139].
فمَن سلك طريق العزّة تحقّقت له ثمارها، فالتزمَ الحقّ مع القريب والبعيد، واتّصف بالصّدق في كلّ حالٍ، والعدل في كلّ حينٍ، فهو يعترف بالخطأ إذا زلّت به قدمه، غير جاحدٍ ولا مكابرٍ، ولا مبّررٍ لخطئه بإلقاء التّهمة على غيره، بل يقول الحقّ ولو كان على نفسه.
خاتمةٌ:
ما أحوج الأمّة الإسلاميّة -اليوم وهي تعيش هذه المرحلة الحرجة من تاريخها، وتشكو فيها ضعفها وعجزها- إلى أن تبثّ في نفوس أبنائها معانيَ العزّة الّتي تخلّت عنها، لتدفعهم بها نحو المعالي والشّموخ، وإنّ السّبيل لرجوع العزّة والكرامة إلى الأمّة من جديدٍ: هو الاعتقاد الجازم بأنّ الله سبحانه هو العزيز الّذي لا يغلبه شيءٌ، وأنّه هو مصدر العزّة وواهبها، فلا نصرَ إلّا به، ولا استئناس إلّا معه، ولا نجاح إلّا بتوفيقه.
نستطيع أن ننال العزّة بصدق الانتماء لهذا الدّين، والشّعور بالفخر للانتساب إليه، حتّى ولو كان ذلك في زمننا هذا -زمن الاستضعاف واستقواء أعداء الإسلام- لأنّنا موقنون اليقين الجازم بأنّ الله كتب لهذا الدّين العلوّ والرّفعة والتّمكين، وجعل دولة الكافرين وعزّتها سائرةً إلى زوالٍ، لأنّها بُنيت على باطلٍ وسرابٍ، فبهذا يتولّد عند المؤمن شعورٌ بالعزّة، فيسلك طريقها، ويطلبها ممّن له العزّة وحده وهو الله جل جلاله، لئّلا يذلّ ويضلّ الطريق.
ألا فلنعلمْ: كما أنّ الطّاعة تكسو الإنسان ثوب العزّة، وتخلع عليه ثياب الكرامة، فإنّ المعصية تكسوه ثياب الذّل والعار، وتخلع عليه المهانة والانكسار، فلنكنْ كما يريد الله مناّ: أعزّةً على الكفّار، أذلّاء للمؤمنين، رحماء لهم، نحافظ على عزّتنا بطاعة ربّنا جل جلاله، والسّير على نهج حبيبنا صلى الله عليه وسلم، نابذين نهج الغرب وعاداتِه السّيّئة وراءنا ظهريًّا.
http://shamkhotaba.org