مقدمة:
ما أجمل أن يكون لنا مِن مرور الأيّام والشّهور وما يقع فيها مِن أحداثٍ عظيمةٍ خير عبرةٍ، فبالأمس القريب أغلقت المدارس والكلّيّات أبوابها، وبدأت العطلة الصّيفيّة، فمِنَ الطّلاب مَن قضى عطلته بما يقرّبه إلى الله عز وجل بالأعمال الصّالحات، ومنهم مَن قضاها بالمعاصي والمنكرات، وعند الله لكلّ حسنةٍ ثوابٌ، ولكلّ سيّئةٍ عقابٌ، ويتوب الله سبحانه على مَن تاب، واليوم -وقد انقضت الإجازة، وأقبل الطّلاب يحدوهم الشّوق إلى مناهل العلم للتّزوّد بالمعارف والعلوم الّتي تؤهّلهم لخدمة دينهم وأمّتهم- يتوافد أبناؤنا الطّلبة -صغارًا وكبارًا- إلى مدارسهم، ليخطّوا مِن خلالها مرحلةً جديدةً في التّعلّم، وهذه المرحلة تتجدّد فيها مسؤوليّة الآباء تِجاه أبنائهم، والمعلّمين أمام طلّابهم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ب، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).
فالمسؤوليّة عظيمةٌ وكبيرةٌ أمام الله عز وجل، وحريٌّ بنا أن نراقب الله جل جلاله فيما نتحمّله مِن مسؤوليّةٍ في مدارسنا الّتي فتحت أبوابها، وكلّنا شركاء في هذه المهمّة، مِن مديرٍ ومعلّمٍ، ووالدٍ وطالبٍ، ولنعلم أنّ هذه المدارس بُنيت لتكون مناراتٍ للهدى ونشر الخير والصّلاح والفضيلة، ورفعًا للمجتمع عن الرّذيلة، فينبغي أن تتكاثف الجهود لتحقيق هذه الأهداف السّامية.
لقد حثّ ربّنا عز وجل في كتابه على العلم والتّعلم والتّعليم، وجاء نبيّنا صلى الله عليه وسلم ليؤكّد ما أمر الله سبحانه به وحثّ عليه، وإذا كان العلم مُرغَّبًا فيه، ومحمودًا في العلوم الشّرعية؛ فهو محمودٌ أيضًا في العلوم الدّنيويّة النّافعة، والإسلام يأمر بتعلّم هذا وذاك، فيُوجب على الأمّة الإسلاميّة أن تتعلّم مِن علوم الشّرع ما يحفظ عليها دينها، ويقوّم أخلاقها، ومِن وسائل الحياة ما يعزّز اقتصادها، ويصون عزّتها، وتكون في منعةٍ مِن أعدائها، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60].
1- أهمِّيَّة العِلم في تقدِّم الأمَّة وازدهارها
إنّ العلوم النّافعة للدّين والدّنيا والآخرة هي سبيل نهضة الأمم، ومشاعل حياتها، ورمز قوّتها ورقيّها، وهي رصيد الفِكر الّذي يُزكّي النّفوس، ويُحيي القلوب، ويُنوّر البصائر، فلا مكان للجهل في المجتمعات الرّاقية، ولا يُنظر إلّا للمؤهّلات العلميّة المختلفة، فالعلم والمال عصب الحياة، وقوام المعيشة، وأساس التّقدّم في ميادين الحياة، وإنّ الإسلام يُوجِّه العلم والمال توجيهًا إنسانيًّا رشيدًا، ويجعل كلًّا منهما أهلًا للغبطة و السّرور، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لاَ حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا).
العلم هبةٌ مِن الله سبحانه، وهو يُطلب بالدّراسة والتّحصيل، وفي سبيله يَهون السّهر والتّعب والسّفر، فبالعلم يَعرف العبد ربّه جل جلاله، فيرتقي في مدارج الكمال، وبالعلم ساد مَنْ ساد، وارتفع مَنِ ارتفع، وبالجهل دُكّت معالمٌ، وذهبت دولٌ، وهلكت أممٌ.
العِلم يرفع بيتًا لا عماد له والجهل يهدم بيت العِزِّ والشَّرف
وقد تواترت نصوص القرآن والسّنّة وأقوال السّلف والخلف على فضل العلم، وأنّ كلّ شيءٍ يَفتقر إليه، وأنّ النّاس كلّهم في الظّلمات إلّا مَنِ استنار بنور العلم، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
وبيّن الله سبحانه فضل العلم والعلماء فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزّمر:9].
ولقد شبّه العالِمَ بالبصيرِ والسّميعِ، والجاهلَ بالأعمى والأصمِّ، ونفى المساواة بينهما؛ فقال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 24].
الدّين والعلم توأمان متلاصقان، فصلُهما يؤدّي إلى موتهما، فالعلم ينفع متى كان على دينٍ، والدّين يثبت متى كان على علمٍ، والتّاريخ لا يعرف أمّةً مِن الأمم ترفع مِن شأن العلم وأهله كأمّة الإسلام، هذه الأمّة الّتي حملت إلى البشريّة رسالة الهدى والعلم، وفجّرت ينابيع المعارف النّافعة في القلوب، وانسابت جداولها في أنحاء الدّنيا، تَمدّ الإنسانيّة بطرقٍ شتّى مِن البحوث ومناهج الفكر المختلفة، لإحراز فضيلة العلم الدّينيّ والدّنيويّ، وكفاها شرفًا قول الحقّ جل جلاله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
2- همساتٌ في آذان المعلِّمين والمعلِّمات، والآباء والأمَّهات
التّعليم رسالةٌ عظيمةٌ تقلّدها الأنبياء، وورثها العلماء والصّلحاء، فطوبى لمَن أدّاها على الوجه المطلوب، وإنّ بإقبال الطّلاب على المعلّمين أماناتٍ أشفقت منها الأرض والسّماوات، وحملها المعلّمون والمعلّمات، فطوبى للمخلصين، وويلٌ للمضيّعين.
وإنّ المعلّم إذا رُزق الصّدق والإخلاص كان لذلك أكبر الأثر في وصول العلم، إضافةً لنيله الأجر والثّواب، فلتكنِ النّيّة متّجهةً لتربية النّشء، وإعداد جيلٍ يُنقذ الأمّة مِن الوهدة الّتي وقعت فيها، فكان لا بدّ مِن الاهتمام بالتّعليم، لأجل الوصول إلى إعداد جيل النّصر الّذي يقود الأمّة إلى المقدّمة مِن جديدٍ.
يا روّاد العلم ومشاعل النّور: أنتم بيت القصيد، ومحطّ الرّكب، وبين أيديكم عقول النّاشئة، وعدّة المجتمع وأمله، وعليكم تُعقد الآمال، ولقد أعلى نبيّكم صلى الله عليه وسلم مِن شأنكم، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ)، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ).
وتيقّنوا أنّكم تُحيون أمل أمّتنا، وفجرها الوضّاء، ومستقبلها الحافل بالبناء والعطاء.
يا رعاة الجيل وأمنة التّعليم: إنّ طلّابكم ينتظرون منكم علومًا نافعةً ووصايا جامعةً، فابذلوها لهم، واغرسوا الأخلاق الحسنة في قلوبهم، وكونوا في ذلك دعاةً إلى الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصّلت: 33].
واقتدوا بخير المعلّمين صلى الله عليه وسلم، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ).
وأنتم أيها الآباء: اغرسوا في قلوب أبنائكم حبّ العلم وأهله، وإجلال المعلّمين والمعلّمات، وعلّموهم الأدب قبل أن يجلسوا في مجالس العلم والطّلب، وأوصوهم بالجِدّ والاجتهاد، والصّبر والمصابرة، وأخبروهم أنّ الغايات النّبيلة لا تُدرك بالمنام والأحلام، بل تُنال بالصّبر والكفاح، والصّلاح والإصلاح.
خاتمةٌ:
ما أحوجنا -اليوم- إلى العلوم النّافعة الّتي نبلغ بها ذروة المجد، ونرتقي بها في سلّم الحضارات، ونقضي بها على الجهل الّذي انتشر في أمّتنا اليوم، فقوّض أركانها، وجلب لها الخراب والدّمار، فحريٌّ بنا أن نُقبل على العلم والتّعليم، وأن نُكبّ على مقاعد الدّراسة والتّحصيل، بكلّ صدقٍ وإخلاصٍ، وجِدٍّ واجتهادٍ، متسلّحين بسلاح الصّبر والتّوكّل على الله سبحانه، نُؤدّي الأمانة على وجهها، ونَرفق بمَنْ نعلّمهم ونَعطف عليهم، ونُوقّر مَن نتعلّم منهم ونُجلّهم، لعلّ الله عز وجل أن يُكرمنا بتحصيل العلم النّافع، الّذي نحن بأمسّ الحاجة إليه، والّذي يفيدنا في أمور ديننا ودنيانا، نُقوّم به ما اعوجّ مِن أمورنا، ونُصلح به ما فسد من حياتنا.
http://shamkhotaba.org