فلنتراحم فيما بيننا، أسوةً بنبيِّنا
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 20 أكتوبر 2021 م
عدد الزيارات : 1813
مقدمة:
إنّ للحياة ركائز وأُسسًا تعتمد عليها، ومعاني ساميةً تُناط بها المنافع والمصالح، وإنّ مِن هذه المعاني العظيمة والصّفات الكريمة الّتي تسعد بها الحياة، ويتعاون بها الخَلق: خُلق الرّحمة، ذلك الخُلق الّذي لا تصلح الحياة إلّا به، وأوّل مَن ينتفع به صاحبه؛ في الدّنيا والآخرة، فالرّحمة خُلقٌ عظيمٌ، ووصفٌ كريمٌ، أُوتيه السّعداء، وحُرمه الأشقياء، ويكفي هذا الخُلق شرفًا ورفعةً أنّ الله سبحانه وصف به نفسه، حيث قال تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3].
وجعل هذه الصّفة لصفوة خلقه، وخيرة عباده، فقال سبحانه ممتنًّا على عباده بإرسال هذا النّبيّ العظيم المنعوت بالرّحمة والرّأفة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التّوبة: 128].
أي شديد الرّأفة والرّحمة بهم، أرحم بهم مِن والديهم، ولهذا كان من الواجب علينا أن نقدّم حقّه على سائر حقوق الخَلق، ومِن الواجب على الأمّة الإيمان به، وتعظيمه وتوقيره، ولقد أخبر جل جلاله بأنّه امتنّ على رسوله صلى الله عليه وسلم بما ألقاه في قلبه مِن فيوض الرّحمة، ما جعلته يلين للمؤمنين ويرحمهم ويعفو عنهم، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159].
أي: فبسببِ رحمةٍ مِن الله سبحانه أودعها في قلبك يا محمّد، كنت هيّنًا ليّن الجانب مع أصحابك. الصّابونيّ، صفوة التّفاسير، 1/154
إنّها الرّحمة المجرّدة تمامًا عن أيّ هوًى، وليس مِن ورائها نفعٌ دنيويٌّ، ولا هدفٌ شخصيٌّ، بل لقد وهب صلى الله عليه وسلم حياته لرعاية شؤون أمّته والقيام بمصالحها، رغم كثرة الأذى والتّعذيب الّذي لحقه منهم، وظلّ محافظًا على نهجه الرّحيم بهم، لأنّه الرّحمة المهداة، عَنْ أَبِي صَالِحٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ). شعب الإيمان: 1339
فهلّا عشنا بهذا الخُلق العظيم -خلق الرّحمة- في بيوتنا ومدارسنا وشوارعنا، وسائر أماكننا الّتي وُجدنا فيها، كما عاش بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته كلّها؟!
زانتكَ في الخُلق العظيمِ شمائلٌ       يُغرى بهنَّ ويُولعُ الكُرماءُ
1- رحمة النّبيّ بالأعداء قبل الأصحاب
أيُّ ينبوعٍ كان يتدفّق رحمةً مِن ذاك النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟! وأيّ شمائلٍ كانت تتفجّر مِن قلب ذاك النّقيّ التّقيّ! لتَحفّ الأعداء قبل الأحباب، والمحاربين قبل الأصحاب، والمشركين قبل أهل الإيمان؟! فلم يكن ليخطر ببال أحدٍ مِن البشر أن تمتدّ رحمة إنسانٍ لتشمل أعداءه، عَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟) فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الغَدُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟) قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الغَدِ، فَقَالَ: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟) فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، فَقَالَ: (أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ) فَانْطَلَقَ إِلَى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ البِلاَدِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ العُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ، قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، وَلاَ وَاللَّهِ، لاَ يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ، حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ. صحيح البخاريّ: 4372
وكانت قريش تعتمد على قمح اليمامة، فلمّا أضرّ بهم كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّك أنت مَن يصل الرّحم، ولكنّك قطعت أرحامنا، فكتب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ثُمامة يأمره بأن يخلّي بين قريش وميرتهم، ولمّا طُلب منه أن يدعو على كفّار قريشٍ أبى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً). صحيح مسلم: 2599
يا لَلخلق العظيم الّذي يجب أن يقتدي به البشر! أهذا حِلمٌ على حماقة قريش؟! أهذا عفو القادر على الانتقام؟! أهذا صبرٌ على أذى الأعداء؟! أهذه رحمةٌ بالمشركين الّذين آذوا النّبيّ ومَن معه؟! نعم إنّ عمل النّبيّ صلى الله عليه وسلم هذا يجمع هذه الفضائل كلّها؟! حيث إنّ رحمته كانت أعلى مِن الخصومة، وأرفع مِن العداوة، وأعظم مِن مقابلة التّجويع بمثله، فهلْ لنا اليوم من آذانٍ تَسمعْ؟! وهل لنا مِن عقولٍ تعي؟! لنتعلّم مِن نبيّنا صلى الله عليه وسلم كيف عَمّت رحمته الصّديق والعدوّ، والكبير والصّغير، والقريب والبعيد، فنقتدي به لنسعد دنيا وأخرى.
2- نماذج مشرقةٌ من رحمة رسولنا صلى الله عليه وسلم
لقد تجلّى خُلق الرّحمة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحًا كالشّمس في رابعة النّهار؛ في صورٍ عديدةٍ مِن حياته، تشمل أفرادًا وجماعاتٍ مِن ضعاف المجتمع، وسنذكّر ببعضها الّتي نحن بأمسّ الحاجة إليها في كلّ وقتٍ -لا سيّما في أوقاتنا العصيبة- لنأخذ منها العبرة، ونطبّقها في حياتنا:
أوّلًا: الرّحمة بالأطفال والصّبيان: إنّ الإنسان لَيعجب حقًّا مِن رؤية مواقف رحمة النّبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال، رغم المسؤوليّات الملقاة على عاتقه، مِن إدارة الدّولة، وقيادة الجيوش، والحُكم بين النّاس، والتّفاوض مع الوفود، والإشراف على كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ مِن أعمال المسلمين، ولا يمكن لإنسان أن يجمع بين هذا كلّه إلّا إذا كان نبيًّا ،عَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ  ثُمَّ قَالَ: (مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ). صحيح البخاريّ: 5997
إنّ الأقرع كان يظنّ أنّ مِن الرّجولة أن يقسو القلب ويتحجّر، حتّى لا يرحم صغيرًا، ولا يُقبّل طفلًا، ولكنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم بيّن له مِن خلال قاعدةٍ من القواعد الإسلاميّة الثّابتة أنّ الأمر خلاف ذلك تمامًا، فقال: (مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ) فكمْ مِن الآباء اليوم يدخل بيته عابسًا مكفهرّ الوجه! يقضي ساعات وجوده في البيت بعيدًا عن أطفاله، إنّه مسكينٌ حقًّا، حيث إنّه لم ينهل مِن فيض رسوله الرّحيم، ليتعلّم ويفيض بالحنوّ على أطفاله.
ثانيًا: الرّحمة بكبار السّنّ: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا). مسند أحمد: 6733
ثالثًا: الرّحمة بالحيوان: فلقد تجاوزت رحمةُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم الإنسانَ إلى الحيوانِ والبهيمة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنه قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا النَّاسِ، وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ هَدَفًا، أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ، قَالَ: فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: (مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟)، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: (أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؟، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ). سنن أبي داود: 2549
إذا كانت هذه رحمته في أعدائه، وفي الحيوانات العجماوات الّتي لا تعقل، فحدِّث ولا حرج عن رحمته بأصناف النّاس جميعًا، ولسوف ترى العجب العجاب مِن عظيم رحمة هذا النّبيّ العظيم صلى الله عليه وسلم.
3- فلْنتراحمْ فيما بيننا، أسوةً بنبيّنا
إنّ الله تعالى ابتعث رسوله محمّدًا صلى الله عليه وسلم رحمةً للخلائق أجمع، وقد قرأنا في ذلك قول الله عز وجل عن نبيّه محمّدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
فلا عجب -وقد أرسل الله هذا النّبيّ صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين- أن يكون في لسانه وسلوكه الّذي عرفناه معلّمًا للرحّمة، فكانت الرّحمة تتجلّى في أقواله وأفعاله معًا، فلَكمْ أمَرَنا في كثيرٍ مِن أحاديثه بأن نكون رحماء فيما بيننا، ولا يمكن حصر هذه الأحاديث الكثيرة، والتّعليمات المتكرّرة -الّتي تنبّه إلى هذا الخُلق العظيم- في مثل هذا المقام، ولكنْ حسبنا أن نُذكّر بواحدٍ منها، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَالرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، مَنْ وَصَلَهَا، وَصَلَتْهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا، بَتَّتْهُ). مسند أحمد: 6494
إنّ الأمّة الّتي تُنفّذ وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجعل من سلوكه قدوةً وأسوةً لها، لا بدّ أن تعيش في كنفٍ مِن رحمة الله سبحانه وفضله، لأنّ الجزاء مِن جنس العمل، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: (ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللهُ لَكُمْ، وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ). مسند أحمد: 6541
فإن شاع في الأمّة التّراحم؛ عاشت في أمنٍ وأمانٍ، وانتشرت فيها المودّة والمحبّة، ولكن إنْ استبدلت الرّحمة والرّأفة بالغلظة والقسوة؛ عمّها الكرب، وساد حياتها القلق والاضطراب، وعندئذٍ ينبغي أن تُراجع حالها، وتُحاسب نفسها، وعندئذٍ ستعلم أنّها حادتْ عن منهج الرّحمة المُهداة صلى الله عليه وسلم.
إنّ أحوج مَن يكون إلى الرّحمة والشّفقة، والعطف والحنان هم الوالدان، لا سيّما إذا كَبرَا وضعفتْ قواهما، قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24].
ولا يقتصر الأمر على الوالدين في الحاجة إلى الرّحمة منكم، بل إنّ كلّ مَن حولكم ومَن تحت أيديكم ومَن تعولون، لفي حاجةٍ شديدةٍ إلى كنفٍ ليّنٍ رحيمٍ، ورعايةٍ حانيةٍ لطيفةٍ، وعطفٍ ملموسٍ يُثمر، وشفقةٍ غير ممنونةٍ، ومحبّةٍ يشعرون بآثارها، ليُخفّف ذلك مِن آلامهم، ويُزيل أحزانهم، ويُهذب نفوسهم، وهم بحاجةٍ ماسّةٍ إلى قلبٍ واسعٍ رقيقٍ عطوفٍ، يمنحهم ويرحمهم، وهذا شأن المؤمن الصّادق، يتميّز بقلبٍ حيٍّ مرهفٍ، ليّنٍ رحيمٍ عطوفٍ، يرقّ للضّعيف والصّغير والمسنّ، والمريض والمنكوب، ويألم للحزين الوجع، ويحنّ على المسكين ذي المتربة، يمدّ يده إلى الملهوف، فهو مصدر خيرٍ وبرٍّ وسلامٍ، وعلى كلّ حالٍ، وفي كلّ وقتٍ وحينٍ. 
خاتمةٌ:
ما أحوج البشريّة إلى هذه المعاني الإسلاميّة السّامية؛ الّتي تَمثّل بها رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم قولًا وعملًا وسلوكًا! وما أشدّ افتقار النّاس إلى التّأسي بهذا الرّسول صلى الله عليه وسلم في التّخلق بالرّحمة، الّتي تضمّد جراح المنكوبين، والّتي تُواسي المستضعفين المغلوبين، ولا سيّما في هذا العصر؛ الّذي نُزعت فيه الرّحمة مِن كثيرٍ من النّاس، فلم يعد يُسمع لصرخات الأطفال، ولا لأنين الثّكلى، ولا لكلمة الضّعفاء.
فلْنتخلّق بالرّفق واللّين، والرّحمة بجميع فئات المجتمع، الآباء والصّبيان، والأرامل والعجزة والمستضعفين، لنكون جسدًا واحدًا -كما مثّله رسول الله صلى الله عليه وسلم- تنتشر فيه المودّة والمحبّة، ويسوده العدل والأمان.
 

http://shamkhotaba.org