حماية العقول مِن المُخدِّرات والكُحول
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 10 نوفمبر 2021 م
عدد الزيارات : 1343
مقدمة:
قصدت الشّريعة الإسلاميّة إلى حفظ خمسة أمورٍ: الدّين والعقل والنّفس والنّسل والمال، نظرًا لأهمّيّتها، ولِما يترتّب على فقدانها أو نقصانها مِن مفاسد عظيمةٍ، ويظهر مِن ذلك اهتمام الإسلام بالعقل، والحرص على صيانته؛ فهو مناط التّكليف، إذ المجنون فاقد العقل والصّبيّ ناقصه لا يجري عليهما القلم، وقد أُتِيَ عُمَرُ بِامْرَأَةٍ قَدْ فَجَرَتْ، فَأَمَرَ بِرَجْمِهَا، فَمَرَّ عَلِيٌّ، فَأَخَذَهَا فَخَلَّى سَبِيلَهَا، فَأُخْبِرَ عُمَرُ، قَالَ: ادْعُوا لِي عَلِيًّا، فَجَاءَ عَلِيٌّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ المَعْتُوهِ حَتَّى يَبْرَأَ)، وَإِنَّ هَذِهِ مَعْتُوهَةُ بَنِي فُلَانٍ، لَعَلَّ الَّذِي أَتَاهَا وَهِيَ فِي بَلَائِهَا. سنن التّرمذيّ: 4402
والعقل سبب تكريم الله للآدميّ، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
ومِن هذا الباب حرّم الله سبحانه على عباده الخمر، لأنّها تذهب بالعقل، وبيّن ضررها، ودعا وحرّض على الطّاعة في تركها في ثلاث آياتٍ، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 90-92].
وقد انتشر في زماننا ما يعادي العقلَ، ويعاديه ذو العقل، فاستدعى ذلك التّحذير منه وبيان خطره، إنّه المخدّرات.
1- التَّحذير مِن خطر المُخدِّرات
يظنّ البعض أنّ المخدّرات مِن محدثات الأمور الّتي لا نصّ فيها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، لأنّها ظهرت في زماننا ولم تظهر مِن قبل، إلّا أنّ نصًّا في صحيح مسلمٍ يبيّن غير ذلك، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ جَيْشَانَ، وَجَيْشَانُ مِنَ الْيَمَنِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنَ الذُّرَةِ، يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَوَ مُسْكِرٌ هُوَ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللهِ عز وجل عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: (عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ) أَوْ (عُصَارَةُ أَهْلِ النَّار). صحيح مسلمٍ: 2002
نلاحظ في هذا الحديث ورود النّازلة زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعلّقها على الإسكار، وحذّر مِن شرب كلّ مسكرٍ، وما سُمّيت المخدّرات بذلك إلّا لأنّها تخدّر العقل وتذهب به.
ولبعض علماء المسلمين فتاوى في الحشيشة الّتي ظهرت متأخرةً، قالَ ابن تيمية: "إِنَّ الْحَشِيشَة أَوَّل مَا ظَهَرَتْ فِي آخِر الْمِائَة السَّادِسَة مِنْ الْهِجْرَة حِين ظَهَرَتْ دَوْلَة التَّتَار، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَات وَهِيَ شَرٌّ مِنْ الْخَمْر مِنْ بَعْض الْوُجُوه، لِأَنَّهَا تُورِث نَشْوةً وَلَذَّةً وَطَرَبًا كَالْخَمْرِ، وقَالَ أيضًا: إِنَّ الْحَدّ فِي الْحَشِيشَة المسكرة وَاجِبٌ، وحكى: الإجماع على تحريمها". الحسبة لابن تيمية 1/377
يتبيّن مِن ذلك أنّ تعاطي المخدّرات حرامٌ في شرع الله جل جلاله، لأنّها في معنى الخمر إسكارًا وتماثله في نتائجها المدمّرة، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ خَطِيبًا، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (اجْتَنِبُوا أُمَّ الْخَبَائِثِ، فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ قَبْلَكُمْ يَتَعَبَّدُ وَيَعْتَزِلُ النَّاسَ، فَعَلِقَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ خَادِمًا، فَقَالَتْ: إِنَّا نَدْعُوكَ لِشَهَادَةٍ، فَدَخَلَ فَطَفِقَتْ كُلَّمَا يَدْخُلُ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ جَالِسَةٍ، وَعِنْدَهَا غُلَامٌ وَبَاطِيَةٌ فِيهَا خَمْرٌ، فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نَدْعُكَ لِشَهَادَةٍ، وَلَكِنْ دَعَوْتُكَ لِتَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ أَوْ تَقَعَ عَلَيَّ، أَوْ تَشْرَبَ كَأْسًا مِنْ هَذَا الْخَمْرِ، فَإِنْ أَبَيْتَ صِحْتُ بِكَ وَفَضَحْتُكَ) قَالَ: (فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: اسْقِينِي كَأْسًا مِنْ هَذَا الْخَمْرِ، فَسَقَتْهُ كَأْسًا مِنَ الْخَمْرِ، فَقَالَ: زِيدِينِي، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ النَّفْسَ، فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ  فِي صَدْرِ  رَجُلٍ أَبَدًا، لَيُوشِكَنَّ أَحَدُهُمَا يُخْرِجُ صَاحِبَهُ). صحيح ابن حبّان/5348، وصحّح الألباني أنّه موقوفٌ
وإنّ مَن تأمّل أثر المخدّرات اليوم على المُتعاطي أدرك أنّها قد تودي به إلى ارتكاب الجرائم؛ كما ورد في هذا الحديث.
2- الوِقاية خيرٌ مِن العِلاج
ليس في جمهور المصلّين عادةً مَن يتعاطى المخدّرات أو يشرب الخمر، فلِم الحديث عن أخطارها وأضرارها؟ لأنّنا مجتمعٌ صالحٌ في نفسه مصلحٌ لغيره، قال الله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116-117].
لأنّنا نخشى على أبنائنا وأحبابنا مِن هذا الدّاء الخطير؛ نسأل أنفسنا ما سبل الوقاية منه؟ وما الأسباب الّتي تدفع الشّابّ إلى الوقوع في هذا المنزلق الخطير؟
إنّ معرفة الأسباب الكامنة وراء اندفاع بعض شبابنا إلى المخدّرات يُساعدنا في الوقاية مِن هذه الظّاهرة، ولعلّ أبرز الأسباب صديق السُّوء، لذا حثّ الإسلام كثيرًا على صُحبة الصّالحين، وحذّر مِن سواهم، عَنْ أَبِي موسى الأشعري رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ وَكِيرِ الحَدَّادِ، لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ المِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ، أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ، أَوْ ثَوْبَكَ، أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً). صحيح البخاريّ: 2101
وقال الله جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ). مسند أحمد: 11337
لذا حريٌّ بنا أن ننظر في مَن نصاحب، قال طرفة بن العبد:
إذا كنت في قومٍ فصاحب خيارهم    ولا تصحب الأردى فتردى مع الرّدي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه    فكلّ قرينٍ بالمقارَن يقتدي مجاني الأدب في حدائق العرب، 2/106
فإذا شئت ألّا يقع ابنك في هذا الأمر القبيح فانظر في أصدقائه، واخترهم له، أو ساعده في اختيارهم، وبيّن له مِن خلال خبرتك في الحياة صفات الصّديق الصّالح، لعلّه يظفر به، ومِن التّربية الّتي تجعل بين الابن والمخدّرات حاجزًا ألّا يدخّن وليّه، إنّ تدخين الأب مغرٍ للابن به، لأنّ الأب قدوةٌ، وإذا اجتاز الابن حاجز التّدخين هان عليه مِن بعدها أن يخوض فيما وراءه، أمّا إذا ظلّ التّدخين في نظره قبيحًا منكرًا فوصوله إلى تعاطي المخدّرات بعيدٌ.
خِتاماً:
فالحقّ جل جلاله مَنّ علينا بنعمة العقل، وكرّمنا بها، وميّزنا بها على سائر المخلوقات، وأمرنا أن نتّقيَه ونحافظ عليها.
واهجر الخمرة إن كنت فتًى    كيف يسعى في جنونٍ مَن عقل
واتّق الله فتقوى الله ما    جاورت قلب امرئٍ إلّا وصل
ليس مَن يقطع طرْقًا بطلًا    إنّما مَن يتّقي الله البطل لاميّة ابن الورديّ
وقد حذّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم مِن الخمر تحذيرًا ما كان مثله في غيرها، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَلَعَنَ شَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا). مسند أحمد: 5716
وبما أنّ المخدّرات في معنى الخمر مِن حيث الإسكار والنّتائج المدمّرة فعلينا أن نحذر ونحذّر منها أبناءنا ومَن نلي أمره، وأن نختار لهم الصّديق الّذي يعودون منه بريحٍ طيبٍ، لا الّذي يحرق ثيابهم وأبدانهم ومستقبلهم، علينا أن نكون لهم قدوةً في ترك ما حرّم الله مِن التّدخين وسواه، لعلّ الله يقي مجتمعنا شرّ هذا الوباء.
 

http://shamkhotaba.org