أمانة الكلِمة
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 24 نوفمبر 2021 م
عدد الزيارات : 1342
مقدمة:
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغيّر المنكر إذا رأيناه وكنّا قادرين على تغييره ما لم يؤدّ إلى منكرٍ أكبرَ منه، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدريّ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ). صحيح مسلم: 49
وقد رأى النّاس في سوريّا منكرًا كبيرًا قائمًا في حياة الناس، وهو أن يحكمهم طغمةٌ فاسدةٌ مِن الضّبّاط النّصيريّين، فانطلق الثّوار مِن المساجد أيّام الجمعات يصدحون بالتّكبير، وينادون بالتّغيير، تطبيقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (فَلْيُغَيِّرْهُ)، وكان  العلماءُ يتصدّرون المشهد بالمشاركة والتوجيه وبذل النصح وحثّ النّاس على الثّبات والصّبر في الوقوف في وجه النّظام المجرم، والنّاس إذ يتّبعون علماءهم يتّبعون ما استقرّ لديهم مِن فضل العلم والعلماء، لما علموا مِن قوله سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
وقوله أيضًا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28].
وقوله تعالى في مدح العلم: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
1- جرائم نظام الأسد بحقِّ مُعتقدات أهل السُّنَّة والجماعة وسطوه على هويَّة البلد
يشكّل أهل السّنّة والجماعة في سوريّا الغالبيّة العظمى مِن السّكان، ومع ذلك تواطأت قوى الاحتلال على التّمكين لهذا النّظام الّذي له سجلٌّ حافلٌ بالاعتداء على دِين النّاس ومعتقداتهم وأبدانهم وأعراضهم وأموالهم، وكأنّه متخصّصٌ في إهدار كلّ ما أمر الله به أن يُصان، ومِن أخطر الاعتداءات أن يُعتدى على دِين النّاس؛ فيُحرَّف فيه ويُصدّ عنه، وقد ظهر ذلك جليًّا في صدّهم عن الصّلاة في فترة الخدمة العسكرية الإلزاميّة، حيث يذهب الشّابّ في مقتبل عمره فيجد بيئةً تمنعه من صلاته وصومه! بل يُسبّ فيها الله والدّين أقذع السّباب، وهذا متواترٌ عن الغالبيّة العظمى مِن ضبّاط جيش النّظام، فإذا دخل الشّابّ هذه البيئة هان عليه أن يترك ركنين مِن أركان دينه؛ الصّلاة والصّوم، وقد ورد عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ). صحيح البخاري: 25
فعلّق إيقاف القتال على إقامة النّاس للصّلاة، ومَن امتنع عنها قوتل، وقد قال ابن رجبٍ: في جامع العلوم والحكم في شرحه لهذا الحديث: "وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا وَإِلَّا أَغَارَ عَلَيْهِمْ... وَبَعَثَ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ عُمَانَ كِتَابًا فِيهِ: مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ إِلَى أَهْلِ عُمَانَ، سَلَامٌ أَمَّا بَعْدُ: فَأَقِرُّوا بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَأَدُّوا الزَّكَاةَ، وَخُطُّوا الْمَسَاجِدَ، وَإِلَّا غَزَوْتُكُمْ". جامع العلوم والحكم: 231، وقد خرج الحديث فقال: خرّجه البزّار والطّبرانيّ وغيرهما
فلو حضر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثكنةً مِن ثكنات جيش النظام فجرًا هل سيرى ضابطًا يصفّ عناصره ويصلّي بهم الفجر، أم سيرى عنصرًا خائفًا يصلّي منفردًا لا يجرؤ أن يجتمع بإخوانه ليصلّي معهم جماعةً! خوفًا مِن تقريرٍ أمنيٍّ يُرفع فيه إلى فروع الأمن، ومتى رُفع التّقرير أصاب ذلك العنصر مِن الوبال والنّكال ما الله به عليمٌ.
هذه بعض جنايات النّظام المجرم على دِين النّاس، ومِن جناياته كذلك أن جعل منصب مفتي الجمهوريّة منصبًا شكليّاً تابعاً لسياسات النظام، يُعيَّن فيه المفتي بمرسومٍ رئاسيٍّ مِن الرّئيس الّذي لا يعدو كونه ضابطًا مِن جملة ضباطٍ نصيريّين يسومون النّاس سوء العذاب، فإن اختار مفتيًا فمَن سيختار؟ سيختار الّذي إذا قصف النّاسَ بالبراميل يومًا خرج يفتي له ويؤكّد أنّ هذا أمرٌ شرعيٌّ، حتّى يُعرف بين النّاس بمفتي البراميل، مما أدى لسقوط هيبة هذا المقام وذهاب دوره ورسالته السامية في بعث الأمة ونصحها وتوجيهها.
ولما كان هذا المقامُ يشّكل عقبةً أمام احتلالٍ طائفيٍّ بغيضٍ على أيدي ملالي خميني إيران ومشروعهم الطائفي التوسعي فأحكموا المكيدة لأن ينزعوا مِن أهل السّنة حتّى اسم المفتي، وهذا ليس يشكّل تعديًا على دِين النّاس فقط، بل تعدّيًا على هويّة سوريا، فأهل السّنّة لا زالوا عبر تاريخ سوريا الجزء الرّئيسيّ من هويّة البلد ويشكّلون مع غيرهم من الطوائف نموذجاً في التّعايش والتّفاهم، فكانت آخر اعتداءات النّظام أن يُلغي منصب المفتي ويحوّله إلى مجلس إفتاءٍ فيه يعبث من خلاله بالهويّة السّورية، ويكرّس فيه وجود مرجعيّات ملالي إيران، حيث تشكّل ما يقارب نصف هذا المجلس الفقهي! وذلك تمهيدًا لتغييرٍ كبيرٍ وعبث بأوقاف سوريا ودِينها وهويّتها، بل خطوةً مساندةً لمشروع التّغيير الدّيموغرافيّ الطّائفيّ الإيرانيّ.
2- دَور الثَّورة في التَّصدِّي لجرائم النِّظام واستعادة مقام الإفتاء
نظرًا لما تقدّم مِن إجرام هذا النّظام بحق دِين النّاس انتفض النّاس ضدّه ليحرّروا دينهم وأنفسهم مِن سطوته ويستعيدوا كرامتهم، فخرجوا في مظاهرات كبيرة ثم اضطروا لجهاده بالسلاح لما بدأ باستهداف الناي العزّل وارتكب المجازر الجماعية الفظيعة، كما نظموا أنفسهم في مؤسسات وتنظيمات في جميع مجالات المجتمع سواء كانت علمية أو دعوية أو إنسانية أو سياسية وغيرها، كما دعا أبناء الثّورة كلّ ضابطٍ وعنصرٍ شريفٍ أن ينشقّ عن هذا النظام المجرم، وكان ذلك فعلًا، إذ توالت جماعاتٌ مِن العناصر والضّبّاط الشّرفاء تنشقّ عنه، وتعلن رفضها لممارساته، واستكمالاً لتلك الخطوات فلازال الفعل الثوري مستمراً ضد ممارسات النظام ، ومن ذلك ما تمّ القيام به مؤخرًا؛ مِن انتخاب مفتٍ عامٍّ لسوريا؛ للحفاظ على هذا المقام مِن العبث والتّسييس، ولحفظ الهويّة الإسلاميّة لهذا البلد المبارك، وليعيدوا اختيار صاحب هذا المنصب إلى أهل الاختصاص، فليس مِن اختصاص الحاكم  الظّالم أن يختار للنّاس مفتيهم، وأن يلغي المنصب متى شاء.
إنّها خطوةٌ مباركةٌ تندرج في إطار مقاومة الثّورة ومؤسساتها لحربٍ ضروسٍ يشنّها نظام الإجرام على دِين النّاس ومعتقداتهم، وهي استجابةٌ لأمر الله جل جلاله؛ إذ يقول {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
فقد كلّف الله النّاس أن يسألوا أهل العلم عندما يجهلون الحكم الشّرعيّ، ولا بدّ لأهل العلم أن يقدّموا منهم مَن يقوم بعبء الإفتاء وبيان الدِّين للنّاس، استجابةً لميثاق الله الّذي أخذه على أهل العلم فلا يكونون كأهل الكتاب لمّا خالفوا الميثاق: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187].
فالواجب على النّاس أن يسألوا إذا جهلوا، كما نصّ على ذلك الحديث النّبويّ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: (قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ). سنن أبي داود: 336
فقد جعل العيّ -وهو الجهل- مرضًا، وجعل له شفاءً وهو الاستفتاء.
وقد نهى الله سبحانه النّاس أن يتّبعوا ما ليس لهم به علمٌ {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
ونهاهم أن يقولوا على الله بغير علمٍ، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
وهذا يقتضي وجود المفتي والمستفتي، المفتي الّذي يعرف واقع النّاس جيّدًا، ويعرف كذلك أحكام الشريعة، فيسقط الحكم الصّحيح على الواقع، المفتي الّذي يبيّن مراد الله لا مراد الحاكم، لا المفتي الّذي رقبته وراتبه ومنصبه بيد نظامٍ مجرمٍ، فلا يجرؤ أن يخرج عن فلك ذلك الحاكم.
ختامًا:
يحتاج الحاكم الظّالم إلى مشايخ زورٍ ليضلّوا النّاس، ويسوقوهم بما يوافق هواه، وقد كان العلماء قديمًا يخشون مخالطة السّلاطين والوقوف بأبوابهم، وقبول هداياهم وأعطياتهم؛ لأنّهم يعلمون أنّ السّلطان يأخذ مِن دِين العالم أكثر ممّا يعطيه مِن الدّنيا، فالخسارة قائمةٌ محتّمةٌ، وقد تنبّهوا لذلك ونبّهوا؛ وذلك في شرحهم للحديث (إِيَّاكُمْ وَأَبْوَابَ السُّلْطَانِ). شعب الإيمان: 8958
يقول المناويّ: "وإنّما كان كذلك لأنّ مَن لازمها لم يسلم مِن النفّاق ولم يُصِب مِن دنياهم شيئًا إلّا أصابوا مِن دينه أغلى منه، وهذه فتنةٌ عظيمةٌ للعلماء وذريعةٌ صعبةٌ للشّيطان عليهم سيّما مَن له لهجةٌ مقبولةٌ وكلامٌ عذبٌ وتفاصحٌ وتشدّقٌ، إذ لا يزال الشّيطان يُلقي إليه أن "في دخولك لهم ووعظهم ما يزجرهم عن الظّلم ويقيم الشّرع" ثمّ إذا دخل لم يلبث أن يداهن ويطري وينافق فيَهلك ويُهلك". فيض القدير: 2/120
لذا يمكننا القول: إنّه مِن الخير الّذي يسّره الله جل جلاله للنّاس أن يبلغ عدوان النّظام المجرم لأن يلغي منصبًا كان في الأصل ألعوبةً بيده، حتّى يكون ذلك حافزًا لمؤسسات الثّورة أن تأخذ زمام المبادرة؛ فتعيد الأمر إلى نصابه، وتُرجع الحق لأهله القادرين على حمله؛ فلا يلغى منصب الإفتاء، ولا يكون لعبةً بيد الحاكم الظّالم، بل بيد أهل العلم، ينظرون الأعلم والأجدر، فيختارونه مفتيًا عامًّا، سائلين الله سبحانه أن يأخذ بيده إلى ما فيه الخير والصّلاح، وأن يمنّ علينا بنصرٍ مبينٍ على أعداء الدّين، وأن يوحّد بلاد المسلمين، والحمد لله ربّ العالمين.
 

http://shamkhotaba.org